رزان زيتونة المناضلة المغيّبة/ ريما فليحان
كان حلمك أكبر بكثير من أن تتسع له العقول الموصدة، فقد تشاركنا، مثل سوريين كثيرين، الحلم نفسه. أعلم، أيضاً، أنك لم تكوني خائفة، لأنك كنت تسعين وراء حلمك ذاك، وكانت ساعات عملك تملأ يومياتك، بحيث لا تجدين متسعاً للشعور المسمى خوفاً.
قبل عامين، في مثل هذه الأيام تعرّضت رزان زيتونة لتهديدات، حاولت إقناعها بالخروج من سورية، لكنها رفضت، وقالت لي إنها لن تغادر سورية، حتى يتحقق الحلم. وحلمها يتعدى إسقاط النظام إلى إقامه دولة ديموقراطية مدنية تعددية، كان يرتقي إلى دولة عادلة تجاه مواطنيها. ورزان هي الشابة الحقوقية التي عملت، طوال عمرها، في الدفاع عن معتقلي الرأي، ومنهم من تختلف معهم فكرياً وأيديولوجياً، لأنها روح حرّة بعمق وجداني أخلاقي، روح لم تحتملها العقول السوداء، ولا أصحاب الفكر الشاذ، فقرر هؤلاء وأولئك أن يخنقوا ذلك الحضور الراقي للعمل الدؤوب، والضمير الحي الذي شارك مع السوريين كل لحظات الألم والموت والاضطهاد.
في أكثر من ثلاثة أعوام من عملي مع رزان، في لجان التنسيق المحلية للثورة، لم تغب يوماً عن الحدث والحضور، وكانت من أوائل الأصوات التي تتحرّك في كل مكان، لترصد الألم والموت، ولم تكن تحظى بساعات كافية من النوم، فحجم كبير من العمل كان على عاتقها، وعلى عاتق الجميع ممن عمل معها، في خلية نحل تتطلع إلى الارتقاء إلى مستوى الحدث الجلل الذي يلم بالسوريين، فتحملت رزان المسؤولية، وكانت دائماً كفؤاً لأداء تلك المسؤولية، واحدة من مؤسسي لجان التنسيق المحلية، وقائدة ثورية، وناشطة مدافعة عن حقوق الإنسان، ووجهاً بارزاً في العمل المدني والإغاثي والإعلامي.
وحين أحاطت بنا الخيبات، أمسكت رزان بالأمل في قلبها، ولم تتخل عنه يوماً، فكانت بئراً لا ينضب من الأمل والعمل والعطاء، ينهل منه كثيرون، حين تلم بهم نوبات اليأس، وكنت منهم، وكانت رزان دائماً السند الكافي لي للوقوف مجدداً.
“لم تغب يوماً عن الحدث والحضور، وكانت من أوائل الأصوات التي تتحرّك في كل مكان، لترصد الألم والموت، ولم تكن تحظى بساعات كافية من النوم”
وعلى الرغم من اختلافنا، في بعض وجهات النظر مرّات، الا أننا اتفقنا دائماً بالهدف والانتماء الى منظومة من العمل الجدي المتطلع إلى دولة ديمقراطية حرّة، تؤمن للسوريين الكرامة والحرية والعدالة التي خرجوا من أجلها، كما أننا تشاركنا الصداقة، ولحظات حلوة ومرة كثيرة أفتقدها يومياً.
لا يمكن اختزال واقعة اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم الحمادي ووائل حمادة بحادثة اختطاف عابرة لنشطاء في مناطق الصراع، لأنها اختطاف لمنهج وفكر وكينونة كاملة من القيم الثورية، هي اختطاف لفكرة المقاومة السلمية، وتغييب للروح الحقيقية للثورة السورية التي نطقت بها لافتات الثوار في كل مكان في سورية، في عام الثورة الأول، قبل أن تدخلها أفكار شاذة عن المجتمع السوري، وقبل أن تتحول إلى العسكرة.
يمكن أن يقال إن من خطف رزان زيتونة خطف الثورة، وخطف الصدى الصادق لأمل الأحرار لصالح أجندات غريبة، لا تشبه ذلك الحلم المولود على الأظافر المخلوعة لأطفال درعا، وعلى الحناجر الهادرة في دمشق وحماه وحلب والزبداني وكفرنبل التي كانت تصرخ “الله سورية حرية وبس”، “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”. وقد مضى عامان على اختطاف النشطاء الأربعة من ميدان الثورة، وكانوا في العمل المدني المتقدم أخلاقياً ووطنياً.
وعلى طاولة المفاوضات والمؤتمرات المقبلة من أجل وقف شلال الدم في سورية، من المفترض أن يتم نقاش مستقبل السوريين، قد يتم تجاهل غياب مناضلين مختطفين ومعتقلين مغيبين، هم الأكثر قدرة على تمثيل السوريين، من أمثال رزان زيتونة وميشال الشماس وعبد العزيز الخير وعدنان زراعي ونبيل شربجي ويحيى شربجي، وكثيرٌ ممن يصعب تعدادهم، بسبب تغيبهم وراء قضبان المعتقلات، أو في غياهب أقبية الخاطفين.
وعلى الرغم من تشاؤمي، آمل أن هذه الأسماء يجب أن تكون حاضرة في أجندات السوريين الحاضرين بتلك المؤتمرات والمفاوضات المقبلة من أجل المطالبة بالكشف عن مصيرهم وإطلاق سراحهم وكل المعتقلين والمختطفين في كل مكان من سورية، من أجل أن تكون لتلك الأسماء الفرصة التي يستحقونها للمشاركة في بناء الوطن من جديد، مواطنين أولاً ورواداً للعمل المدني والوطني ثانياً، وهم الأجدر والأنقى للمشاركة في تضميد جراح السوريين، حيث تتحمل الدول المؤثرة في الحالة السورية مسؤولية القيام بالضغط الكافي على كل الأطراف من أجل تحقيق حرية المعتقلين جميعاً والمختطفين جميعاً، هذا إذا كانت قد وصلت، فعلاً، إلى مرحلة القرار الجدي بإنهاء تلك المقتلة التي تجري في سورية، وتحقيق تطلعات الشعب السوري المشروعة نحو الكرامة والحرية ودولة المواطنة، وهي ما لا يمكن إنجازه من دون تحقيق العدالة الانتقالية، والتي تعتبر جزءاً منها، إعادةُ الحقوق إلى أصحابها وإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، ومحاسبة مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان، أياً كانوا.
وعلى أبواب الذكرى الثانية لاختطاف النشطاء الأربعة، ما زال الألم والأمل يتقاسمان قلوبنا، وما زلنا ننتظر.
العربي الجديد