رسائل معتقلين سوريين/ ميسون شقير
يصل إلى أميركا الناشط السوري في توثيق جرائم حقوق الإنسان والمعتقل السابق، منصور العمري، ويسلم السلطات الأميركية رسائل كتبها معتقلون في زنازين النظام السوري، بعظام الدجاج وبالدم والصدأ والقيح الذي يملأ أجسادهم، على بقايا الملابس الداخلية لأحدهم، وكانوا يخفونها تحت ملابسهم، واتفقوا أن يهرّبها من السجن أول من تنقذه المصادفات ويخرج.
تعرض الآن هذه الرسائل في معرض الهولوكست في واشنطن. ولكن، يبدو أن هذا الدم ليس كافياً لفعل أي شيء.
وقبل أيام، يذاع نبأ استشهاد باسل الصفدي تحت التعذيب، وهو من أهم أدمغة العالم. ولكن، لا يبدو أن هذه الرسالة تصل إلى أحد، ولا يبدو مهماً لأي دماغ في هذا العالم المجنون.
هذه الرسائل المعروضة في متحف الهولوكست الآن ليست للمتاحف، ليست للصور، هذا الدم والصديد والقيح حقيقي بوضوحه ونزفه. هذا دم يقول للسوريين كلهم أينما كانوا، وكيفما كانت مواقعهم السياسية:
ما زالوا هناك، تحت هذه الأرض، تحت خط الحياة، يرحلون كل يوم إليكم حين يتذكّرونكم بين كل جلستي تعذيب، وحين يتذكّرون يتعذبون أكثر. يدفعون عنكم ثمن حياتكم ويصمتون.
مازالوا هناك، يتركون لكم أصواتهم في حناجركم، يتركون صوت البلاد الطالع من هتافاتهم الأولى، حلم البلاد الساكن في النظرة الأخيرة، ولحن البلاد الصاعد من الشوارع والساحات، ومن رقصة الشهداء الأخيرة. مازالوا هناك، في سجون الرأي وزنازينه، يدفعون فاتورة رأيهم بانتصار الحياة، يختبرون إعادة التكوين حين يموتون، ويعودون من الموت أحياء، حيث يجرون حياتهم خلفهم ميتة.
بأجسادهم وقلوبهم، يدفعون وحدهم ثمن خوف كل تلك السنين وصمتها، يمتّعون شهوة السجان بصراخهم الطويل، ويخففون عنه انهزامه العميق.
في مساحة من اللامكان واللازمان، ينال كل واحد حصته كاملةً من الألم الجسدي الشديد، ومن العتمة والإهانة، وتنكمش روحه مثلما تنكمش الحياة، ويصبح الفقد والانكسار أسياد الوقت الوحيدين.
يتركون حبيباتهم وأطفالهم خلف الليل، ويتركون الليل خلف الباب الذي وعد أن ينتظر.
يتركون حياتهم بين عيونكم، يتركونها في أصابعكم، بكل رسائل العشق التي كتبوها ولم يرسلوها، والتي أرسلوها، ولم تصل، بكل الأغاني التي كانوا يربونها، مثلما يربون أطفالهم، بضحكات أطفالهم أول الصبح، بسؤال أطفالهم عنهم الذي لا يتعب، وبدعوات الأمهات آخر المساء.
يتركون لكم تفاصيل أحلام خروجهم مرة أخرى إلى الحياة، ويتركون لكم حرية إكمال المشهد. يأكلون الجوع النيئ بنهم، ويعرفون أن الوجبات القادمة ستكون أدسم، وستكون كثيرة وكبيرة. يقضون ليلهم بصحبة الوجع الذي لا ينام، يقضونه مع مزيج من الجلد الممزق والدم والقيح والبول والرطوبة وجرذان وفئران الحياة. ويرسلون إليكم قليلاً من وجباتهم الدسمة.
مازالوا هناك. وهناك، لم يزل دود الطغاة يقتات على قهرهم، على بكائهم الصامت، ويقتاتون هم على فتافيت الأمل اليابسة. تصنعهم مصانع الموت المجيدة، يحرسون الرعب والظلمة جيداً، فلا ضوء يجرؤ على الاقتراب، ولا هواء، ولا رفة جناح، ولا نجمة عابرة. هناك حيث تكون الصرخات قريبة جداً من الله، وحيث تخرج أصوات لم يُعرف بعد إلى أي لغةٍ تنتمي.
هناك، حيث يكون الهواء مكتظاً بصور الذين كانوا يخبئونهم في عيونهم وجيوبهم، بصور الذين كانوا ينبضون في صدورهم، وأنفاسهم، قبل أن يأتي وينقذهم ملاك الموت الرحيم. هناك، هم المعتقلون الذين يحرّرونكم، تنتظرهم مقابر جماعية مجهولة الملامح.
في المسافة بين موت وموت، يسترجعون وجوهكم، وجهاً، وجهاً، ومدنهم مدينة، مدينة، وبلادهم بلداً كاملاً، ويهمسون لكم خلسةً عن السجان وعن ضباط التحقيق: نعرف أنكم لم تنسونا، وأنكم لن تنسوا، لكننا نعلم أن صور آلاف الشهداء السوريين تحت التعذيب التي سرّبها القيصر لم تغيّر في العالم شيئاً، ورسائل دمائنا المعروضة في متحف الهولوكست اليوم لن تغيّر شيئاً. لذا لا رسائل لنا إلا لكم أنتم، يا أيها السوريون الذين نجوتم قليلاً، نحن نعرف أنكم تعيشون قهراً وموتاً في منافيكم، وفي الخيام. لكن حاولوا أينما كنتم، وبأية طريقة، فقط أن تذكّروا العالم فينا، حاولوا أن لا توقّعوا على أي شيء بدون شرط خروجنا. نثق بكم، ونعدكم بالتحمّل والانتظار، لكن أنفسنا الأمارة بالحياة، قد تسول لنا، في لحظة قوة، أن نموت تحت التعذيب.
العربي الجديد