رسالة إلى “جبهة النصرة”: جمال صبح
جمال صبح
(كتبت هذه الرسالة منذ أسابيع طويلة، ولم يقدر لي نشرها لأساب متعددة، ولم أغيّر فيها شيء)
إلى السادة في جبهة النصرة الأكارم، أسعد الله أوقاتكم:
بداية أودّ أنّ أعرفكم بنفسي بشكل مقتضب: أنا أخصائي في علم النفس، أعتبر نفسي من أبناء هذا الشعب الذي قرر الثورة على الإستبداد الأسدي بعد عقود من الإرهاب الممنهج، الذي لم يسلم منه أحد، حتى لو بدت الصورة عكس ذلك. لا أعتبر نفسي ناشطا ثوريا ولست أتبع لأيّ حزب أو تنظيم أو جماعة سياسية أيا كانت ولا يبدو أنني سألتحق بأي تنظيم سياسي ما حتى ترجع النفس إلى مؤتمنها. لم أكن يوما من الأيام لا بعثيا ولا إخوانيا، لا شيوعيا ولا ليببراليا، وما كنت لأخجل إن كنت أتبع لتنظيمٍ سياسيٍ ما. أقيم في ألمانيا منذ عشر سنوات وأعمل في العلاج النفسي مع مرضى الأذيات الدماغية وضحايا الحروب والصدمات النفسية التي تخلّفها. أتكلم من موقعي المتواضع كداعم مبدئيٍ لثورة الشعب السوري العظيمة، وأعمل ما أستطيع للدفاع عنها وعن المتضررين من بطش السّفاح وزبانيته اللئام، خاصّة من النساء والأطفال والمعاقين وذوي الإحتياجات الخاصّة. ورسالتي هذه لكم هي جزء من واجب إنساني ووطني أملاه عليّ ضميري ولاشيء سوى ذلك
أصارحكم الحديث بأن هناك مشكلة تتعلّق بالتواصل معكم، فأنتم لم تعلنوا عن ولادتكم بطريقة واضحة وليس لديكم صفحة أو سبيل معين لتتواصلوا مع جمهور في أرض تتواجدون وتعملون حيث يقيم، مع أنه يبدو أنّ لديكم فريق إعلامي على قدر لا بأس به من المهارات. كثير من المهتمين بالثورة يتابع أخباركم بكل شغف وأنا واحد من هؤلاء. المسألة ليست في التواصل فحسب بل هي أبعد من ذلك. منذ الإعلان عن أوّلى عملياتكم العسكرية ضد أحد أجهزة أمن النظام حتى يومنا هذا، لا يبدو أنّكم تعيرون أمثالي إهتماما بالتواصل والإعلام، وهذا ما يزيد من أزمة الثقة بين قطاع عريضٍ من متابعيكم وبينكم من جهة، ويغذّي جملة من الإشاعات والتكهنات التي رافقت ولادة تنظيمكم ودوركم الفاعل في الثورة السورية من جهة أخرى. أمثالي مثلاً لا يعرفون مثلاً من أنتم وماهو مشروعكم السّياسي وأهدافكم بالضبط، وما يرشح من معلومات لا يفيد إلا في زيادة الصورة غَبَشاً حول تنظيمكم وبشكل قد يلحق أذىً كبيرا بصورتكم التي بدأت تلمع في سماء مضطربة من الروايات. وكما تعلمون بأنّ العقود الأخيرة من الإستبداد والطغيان حرم قطاعات كبيرة من شعبنا من التواصل مع بعضه البعض إلا من خلال نشاطات وهياكل “خشبية” لا همّ لها إلا ضمان استمرار أحاسيس الخوف والرعب من النظام وأجهزته بالإضافة إلى تلميع صورة الدكتاتور الطاغية، الأب والإبن، من أجل ضمان الولاء والركوع بالإجبار والإكراه. تجارب التاريخ تعلّمنا بأن كل التنظيمات والحركات المنغلقة التي لا تعرّف عن نفسها تثير الكثير من الحذر والريبة والشك، بغض النظر عن طبيعة الأهداف التي يمكن أن تكون سامية لا شك
تصّورا بأنّ أطرافا عديدة قد إتهمتكم بأنكم “عملاء” للنظام وبأنكم مخترقون من قبل أجهزته الأمنية، أو من قبل أطراف ثالثة عل علاقة بالنظام. أصحاب هذه الحجة يقولون بأن النظام المجرم كان في ورطة كبيرة وكان لزاماً عليه أن يدعم روايته حول وجود العصابات المسلّحة التي أصبحت “إرهابية” وتتبع لتنظيم القاعدة “المعروف” وهو لا يقوم إلا بمحاربتها نيابة عن الجميع. لا أشك أنّكم تعلمون مدى الحساسية التي يثيرها كل ما يتعلق بتنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية لدى صانعي القرار العالمي، خاصّة عند الدول الغربية، بما في ذلك تلك الدول والأنظمة التي لا تكنّ ودّاً للأسد ونظامه. وهكذا يحاججون أصحاب هذه الفرضية بأن ظهوركم إرتبط بسعي النظام إلى اللعب على ورقة خطر التنظيمات الإسلامية المتطرفة كمسعىً أخير لإنقاذ رأسه من لهيب الثورة العاتي والممتد يوما بعد يوم. بالمقابل، هناك من يدافع عنكم ويقول بأن هناك “جبهتين نصرتين”، واحدة أسّسها ورعاها وإخترقها النظام للأسباب التي ذكرتها، والأخرى هي التنظيم الذي أنُشأ في ظروف خاصّة من عمر الثورة، وهذه الأخيرة هي التي أصبحت الآن القوة الضاربة الأكبر في مسار الثورة العسكري. لا أخفيكم بأنه في غياب تام لكم عن التواصل مع الناس والإعلام تبدو الصورتين أقرب إلى الواقع بنفس الدرجة، على الأقل عند متابع بسيط مثلي. هذه نقطة يجب عليكم إعادة النظر فيها على أية حال
هناك الكثير من الأخبار الواردة من الوطن تفيد بأن “جبهة النصرة” هو التنظيم الأكثر إلتزاما وثباتا وأمانة في كثير من الأمور، أهمّها فيما يتعلّق بإحتياجات أهلنا من المدنيين في ظل تردي الأوضاع الإنسانية إلى مستويات كارثية. فرجال “النصرة” لهم صيت حسن في مناطق عدّة من ريف حلب وإدلب ودمشق في تأمين ما يحتاجه بعض المحاصرين من غذاء ودواء ووقود. نظافة كفّكم ورتابة تنظيمكم أشعر الكثير بالراحة في ظل شيوع حالات كثيرة عن سرقات ولصوصية وإنتهاكات تقوم بها كتائب محسوبة على الجيش الحر للأسف. إلا أن الصّورة الأكثر رواجا عند المتابعين هي قوّة الشكيمة والإقدام التي يتمتّع بها رجالكم. فعملياتكم العسكرية توصف بأنها الأقوى والأصعب والأكثر إيلاماً للنظام، رغم بعض المآخذ على الطابع العنيف لبعض ما نسبت إليكم منها وقيل بأنّ مدنيين أبرياء قد أزهقت أرواحهم خلالها. ورغم هذه الصورة الإيجابية هناك أيضا بالمقابل ما يدحّضها أو يشوهها بقدر أو بآخر. ففي بعض المناطق يقال بأنّكم تحتكرون توزيع بعض المواد الأولية كالطحين والوقود وبأنكم تحصلون عليه بطرق عديدة، سواءً من بعض داعميكن في الخارج، أو من خلال عمليات السيطرة على أماكن كانت خاضعة لقوات النظام، وبأنكم تقومون بالضغط على مدنيين وعسكريين في مناطق وجودكم وذلك للحصول على الولاء والبراء لكم. مرة أخرى، عندما لا يكون هناك مجالا للحصول على المعلومات من قبلكم بشكل مباشر، سوف ترتع الروايات والأحاديث هنا وهناك، وهذا ما قد يزيد من تناقضات الواقع ويزيد من الإتجاهات السلبية بحقّكم، بغض النظر عن صدقية الأمور الحاصلة على الأرض
أصبحتم وباقي المجموعات القتالية في سوريا مالئي الدنيا وشاغلي الناس، خاصّة في العالم الغربي حيث أقيم، إذ غالبا ما تصل أخباركم عن طريق فيديوهات منتشرة على اليوتيوب عن العمليات التي تقومون بها أو التي “يُقال” أنكم تقومون بها وهي غالبا ما تبدو عنيفة بشكل غير مسبوق، ويتم إبرازها على أنها عمليات “إرهابية” تستهدف مدنيين لأسباب سياسية، حتى ولو كان جزء كبير منها ضد قوات النظام المجرم. غالبا ما تترافق هذه الصور مع أعلام سوداء مكتوب عليها عبارة “لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله”. وبغض النظر عن دلالة هذه العبارة في تراثنا الديني ومعناها الذي يبدو “بديهياً” إلا أنّها ترتبط إتباطاً وثيقا بتنظيم “القاعدة” ذائع الصيت. لكم الحق طبعا في رفع الرايات التي تتفق مع أفكاركم وإتجاهاتكم، ولنا الحق في قول “كلمة حق” فيما نراه عملا يستوجب المسائلة، خاصّة بعد التضحيات الكبيرة التي دفع أكلافها شعبنا، وأنتم جزء منه، بكل تأكيد. في هذا العالم المعولم تلعب الصورة دورا كبيرا ومهما في تثبيت المعلومات عن أي حدث أو سياق، ولهذا فالصور لا يمكن تجاهلها، حتى وإن بدت لا أهداف لها. أقول لكم بكل تأكيد بأن رفعكم للرايات السود هذه قد أضر بقضيتكم وقضية الشعب السوري العادلة في صراعه المرير مع نظام شرس وعنيف كالنظام الأسدي. لن أسائلكم عن عدم رفعكم أعلام الثورة السورية التي إرتضاها آلاف المتظاهرين في مواجهتهم رصاص الغدر الأسدي بكل شجاعة وإقدام على إمتداد كامل التراب السوري، فهذا يبقى شأنكم ويمكن تفهم أسبابه التي أجهلها، إلا أنني أجد من واجبي تنبيهكم إلى أن تذكير العالم برموز تنظيم “القاعدة” ولو عن غير قصد، قد أضر كثيرا بسمعة الثورة السورية المجيدة، وأذهب بما تبقى من تضامن شعبي عالمي نحتاجه دائما، حتى ولو كان ضئيلاً، في ظل تجاهل مريب لمعاناة الشعب السوري في ثورته اليتيمة هذه
رغم كل ماجرى، لا أعتقد بأن تنظيم القاعدة وقضاياه هي جزء من القيم والمبادىء التي خرج بها المتظاهرون الأوائل وأتمّها الثوار ومقاتلو الجيش الحر على مدار الثورة السورية المجيدة. لست في وارد سرد الأخطاء القاتلة التي وقع فيها التنظيم في أكثر من بقعة من العالم، إلا أنني لا أجد بدّا من تذكيركم بأنّ التجربة لم تحمل سوى المآسي لأعضائها وللمجتمعات التي كانت مسرحا لنشاطاتها القتالية، بما فيها العراق. ولم تسفر هذه التجربة إلا عن زيادة كبيرة في تشويه صورة الدين الإسلامي والمسلمين في أربع جهات الأرض، فضلاً عن زيادة التوتّرات المذهبية والسياسية في المجتمعات الإسلامية، التي لم تسلم هي الأخرى من تبعات المضيّ في هذا الطريق، وصل بعضها حد الإحتلال العسكري المباشر من قوى غربية عاتية أنتم أعلم بها. من جهة أخرى ليس من مصلحتنا معاداة أي طرف أو دولة كانت. وأقول لكم بكل صدق بأننا بحاجة إلى كل دول العالم من أجل القدرة على إعادة بناء ما دمّرته اليد الغاشمة وهذا لا يعيبنا بشيء. يكفي أن أذكر بأنّ ألمانيا بكل جبروتها قد أعيد بنائها بأموال من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين الذين دمّروها عشية الحرب العالمية الثانية (مشروع مارشال)
والآن آتي إلى مسألة مهمّة للغاية أود طرحها عليكم. الصورة الغائمة عن مشروعكم السياسي وأهدافكم شجّعت على التكهنات والقياس على تجارب أخرى يبدو العراق أقربها، بالنسبة لي على الأقل. سمعت كثيرا عن أنّ من يلتقيكم يؤكد سعيكم إلى قيام دولة إسلامية في سوريا تحكمها الشريعة التي ترونها الحقّة وبأنّكم تسعون إلى إعادة منهج “الخلافة” الإسلامية. هذه النقطة إن صحّت يجب أن تعالج من قبلكم بطريقة أكثر إقترابا للواقع الذي نعيش فيه مع الأخذ بعين الإعتبار تجارب الشعوب والدول التي حولنا في هذا العالم. فيما يخص الدولة الإسلامية يحضرني أمثلة صارخة في التناقض، السودان، المملكة السعودية وإيران من جهة، تركيا، ماليزيا وإندونيسيا من جهة أخرى. في الأولى قيل لنا أيضا أنهم أشأوا دولا إسلامية تطبق فيها الشريعة، إلا أنّ تجارب هذه الدول تشير إلى أنّها لم تستطيع تحقيق شيئا مهمّا في مجالات عدّة لاداعي لذكرها، بينما غاب عن قادتها شيء غاية في الأهمية، أعني “المقاصد العليا للشريعة” وأولها العدل بكل طبقاته. ورغم تقدّم هذه الدول في بعض المجالات (إيران مثلا) إلا أنها ما تزال ترزخ تحت إستبداد سياسي وديني وإجتماعي كبير، يحرم فيه قطاع واسع من أبنائها من حقهم في التوزيع العادل للثروة، كما أنّ هناك إضطهادا كبيرا تعاني منه بعض الطوائف الدينية التي تشكل نسبة لا بأس بها من هذه المجتمعات (الشيعة في السعودية، السنّة في إيران مثلاً)، بالإضافة إلى سجلّ لا يفخر به بالنسبة للحريات والحقوق الإنسانية التي لم تعد حكراً على دين أو مجتمع معين. بالمقابل نجد بأن الأمثلة الأخرى من البلدان الإسلامية فيها قدر كبير من التطور، وفي جميع المجالات، إبتداءً بالتصنيع وإنتهاءً بالنظم السياسية التي وصلت إليها هذه المجتمعات. خذوا تركيا مثلاً، فقد حققت طفرة إقتصادية خلال عقدين من الزمن وأصبحت دولة تبلغ فيها مستويات النمو درجات مثيرة، إستفاد منها قطاع كبير من الشعب التركي الذي يبلغ تعداده أكثر من 80 مليون نسمة. ماليزيا خطت هي الأخرى إقتصاديا وسياسيا، خطوات مليئة بالنجاحات، وأعلت من مستويات التعليم والصحة بدرجة أبهرت العالم. أرى بأن في هذه البلدان قد تمّ العمل على المقاصد العليا للشريعة الإسلامية من “نفيٍ للضرر ورفعه وقطعه” ومن “حفظ للدين والنفس والعقل والنسل والمال”، دون الإضطرار إلى الإجبار والإكراه، وفرض التصورات الدينية للشريعة بالقوّة، فيما تزدهر فيها بيوتات الله بالمؤمنين وغيرهم، كذلك ينعم فيها أبنائها من غير المسلمين بإستقرار ودرجات لابأس بها من الحريات، في العقيدة والممارسة
أنتقل الآن إلى موضوع “الخلافة” و”الخلفاء”. من خلال قرائتي للمراجع المعتمدة في تراثنا الإسلامي والعربي، لم أعثر على خلفاء مسلمين “عادلين” قدّموا لمجتمعاتهم مافيه خيرٌ للعباد إلا استثناءات قليلة، لعلّ أبي بكر وعمر أبرزها. أغلب من قرأت عنهم جاء إمّا بالتوريث أو بالقوة ونحّى من قبله وعمل ما عمل. بغض النظر عن إختلاف الزمان والمكان، أجد بأنّ مفهوم “الخليفة” ليس مفهوما ثابتا وجامداً ولا يعتبر إعطاء هذا اللقب لأحد ما مجرد “صك” للبراءة والتحكّم بمقدرات العباد من المجتمع، سواءً كانوا مسلمين أم غير مسلمين. بعض الخلفاء قتلوا بعضهم البعض، وكان هناك صحابة رسول الله بينهم. لا أعتقد بأن طلحة والزبير كانا أقل تديناً من علي بن أبي طالب، ومع ذلك فقد قتلا في موقعة راح فيها الكثير من المسلمين. فيما لا تزال أصداء معارك علي ومعاوية يرجع صداها حتى يومنا هذا، مع أن الأول حبيب رسول الله، والثاني أحد كتبة الوحي المشهودين. لقد كان هناك صراعاً دنيوياً-سياسياً، لم يكن الجانب الديني منّه إلا الهامش. ولا أنكر عليكم شدّة إندهاشي وحزني عندما أعرف أن مكّة نفسها كانت قد أحرقت وقصفت بالمنجنيقات أكثر من مرة، وذلك في صراعات الخلفاء المسلمين، أبناء الصحابة الأوائل وغيرهم (قصة يزيد وعبد الله بن الزبير مثلا). طبعا لا أريد أن أطول وأسرد من الأمثلة عن عصور وفترات لاحقة تؤكد بأن “أزمنة الخلفاء” لم تكن على تلك الصورة من البهاء التي اعتدنا على حفظها في الذاكرة دون تمحيص. من المهم هنا التأكيد على أنّ هناك أيضاً أمثلة ناصعة على فترات ذهبية كان فيها بعض الخلفاء المسلمين أقرب لروح العصر وأكثر إنفتاحاً على إحتياجات المجتمعات (أستذكر هنا الرشيد والمأمون وربما محمد علي باشا بدرجة ما). أصارحكم القول، بأنني أعتقد بأن سوريا الغد والمستقبل التي ننشد بعد زوال حكم الطاغية بشار وأزلامه ليست بحاجة إلى “خليفة للمسلمين” بالطريقة التي شهدتها مجتمعاتنا على مدى القرون الماضية، رغم عدم شكّي بأن من يملك هكذا تصورات وقد تكون “جبهة النصرة” بينهم، لديهم حسّ عالٍ بصعوبات الواقع المعاش وهدف سام يتمثل في البحث عن الصيغة التي تضمن لمجتمعاتنا حكّاما ليسوا آلهة، يخضعون للمحاسبة والمسائلة، وبشكل يضمن عدم تحوّلهم لطغاة جدد، بعد هذه الأزمنة المرّة التي عاشها شعبنا
إخوتي في جبهة النصرة، تعلمون علم اليقين بأنّ نظام الأسد الطائفي أجاد لعب ورقة الطائفية وقام بتوريط أغلب أبناء الطائفة العلوية في حكمه المستبد واستند إليهم في تثبيت ركائز جبروته الأمني والعسكري، مع الإشارة إلى استعانته بكثير من أبناء الطوائف الأخرى في سوريا، لعلّ رجالات “السنّة” من أبرزهم. وتعلمون أيضا بأن ما حدث في الثمانينيات وقبلها ومايحدث الآن من حقد طائفي يستهدف أبناء طائفة بعينها في أغلب الحالات هو أيضا أحد الأساليب التي إتبعها “المقبور” الأب وأورثها للصعلوك الإبن من أجل تفتيت المجتمع السوري وتدميره، ماديّاً ومعنوياً. وهاهي المجازر المتنقّلة بحق أبناء الوطن من “السّنة” تكمل المسرح الدموي في كل أرجاء الوطن السوري الذبيح. بعض الصفحات التي تشيع أخباركم وعملياتكم لا تكفّ عن وصف العلويين “جميعاً” بالقردة والخنازير وبالنصيريين والمجوس. قد يجوز أنكم لا توافقونهم الرأي ولكن بما أنّهم ينقلون أخباركم ولا نجد تعليقاً لكم عليها فهناك جزء من المسؤولية التي تتحملونها في جبهة النصرة عن هذه الأقاويل. السؤال الذي ينبغي علينا طرحه في هذا السياق، هل تقوم مليشيات الطاغية بالقتل والترويع فقط لأنهم علويون؟ والسؤال الآخر، هل كل العلويون قتلة بالفطرة ولا همّ لهم سوى قتل أبناء السّنة الثائرين ضد الأسد؟ لا أعتقد ذلك ولكم أسبابي. عندما قامت القوّات اليابانية قبيل الحرب العالمية الثانية بقتل الآلاف من الصينيين وإغتصاب الآلاف من النساء (25 ألف إمرأة على مدار 6 أسابيع) لم يفعلوا ذلك لأنّهم مجوس ونصيريين. عندما قامت القوات الألمانية النازية بقتل الآلاف في بولونيا وروسيا وإغتصاب ألوف الفتيات والنساء، لم يفعلوا ذلك لأنهم علويين أو نصيريين. عندما قام الجيش الأحمر بإغتصاب ألوف الأطفال والنساء والعجائز أثناء وبعد إجتياح ألمانيا لم يفعلوا ذلك لأنهم علويون ونصيريون. لقد قامت القوات العثمانية بقتل آلاف النساء والرجال والأطفال من الأرمن وكانوا مسلمين سنّة ولم يكونوا علويون أو نصارى، بينما قامت القوات الصربية بقتل وإغتصاب الآلاف من النساء والرجال بحق مسلمي البوسنة ولم يكونوا أيضا علويون ومجوس. هذه بضعة أمثلة على أنّ المجازر الوحشية بحق البشر لا ترتبط دوماً بالعقيدة الدينية لمنفّذيها الجبناء، هناك جيوش من الملاحدة وأخرى من المؤمنين بالله قامت بإرتكاب فظاعات يندى لها الجبين فقط لأنهم يعتقدون بأن لهم السطوة والقوّة بفعل ما يريدون بضحاياهم الأضعف. طبعاً هناك أفكار وإيديولوجيات وتواريخ من الحقد والإنتقام والتصورات الصارمة ربيت عليها هذه الوحوش الآدمية، هي التي سمحت لها بإقتراف ما إقترفته دون أدنى إحساس بالخجل والضمير والرأفة. أرى أنّ الكثير من أبناء الطائفة العلوية قد جُعِل منهم “وحوشاً” آدمية كغيرهم من الوحوش الذين إرتكبوا فظاعات في كل جهات الأرض. هل يعفي ذلك من المحاسبة؟ طبعا لا، أنا شخصيا مع محاسبة كل قاتل أزهق أرواح الأبرياء من الشهداء الآلاف، سواءً كان “علويا” أم “سنيّا”، لا فرق. ليس من العدل أن يبقى “سفّاحاً” واحداً حرٌ طليق على هذه الأرض. بالمقابل، أعرف الكثير من “العلويين” الذين يقفون مع الثورة ويحاولون دعمها بالمال والكلمة إن أمكن. بعضهم أصبح طريدا وشريدا، يحارب من أهله لأنه وقف وقفة حق في أمام النظام الباطل. بعضهم قتل ودفن بصمت والبعض الآخر تم قتل أحد أفراد عائلته إنتقاماً وإقتصاصاً منه (أظنكم علمتم قصة الفتاة العلوية التي قتلت أمها على يد أبوها بسبب تأييدها للثورة)
لاحظت بأن بعد كل مجزرة يقوم فيها النظام يكون هناك أصوات عالية تصدح بالعبارة التالية: يا جبهة النصرة أغيثونا! في الحقيقة هذا النداء يمكن تفسيره على شكلين: الأول قد يشير إلى الثقة العالية التي يوليها لكم جمهور الثورة ودوركم المتعاظم خلالها على درب تخليص الوطن من نظام البطش الإرهابي الجاثم على الصدور. فالناس العاديين بحاجة لشد العزائم في لحظات الضعف وقلّة الحيلة والغضب الكبير والعجز الأكبر أمام هول المجازر التي ترتكبها كتائب الموت الطائفية أينما حلّت. أمّا الشكل الثاني فهذا ما أخشاه ويبدو لي وأنا المتابع الدقيق لمسار الثورة وكأنّه دعوة لكم، أنتم رجال النصرة بمبادلة النظام بالمجازر وتحريضكم على التصرّف أسوة بكتائب الموت المجرمة من إنتهاك للحرمات وقتل للأطفال ضد الأحياء والقرى “العلوية” التي مازالت ترفد الطاغية بالدعم والتأييد. الشهادة لله أنّكم إلى الآن أثبتّم وغيركم من كتائب الجيش الحر المقاتلة أن وعيكم الوطني والإنساني يشهد له المثل، إذ بحسب معلوماتي، أنكم حتى اللحظة لم تتورطوا بأية أعمال “طائفية” ضد قرى أو أحياء علوية مؤيدة، ولو أردتم ذلك لما استصعب عليكم ذلك، موفيت الفرصة على النظام وأسياده في إيران وغيرها كي يشعلوها حرباً طائفية لا تبقي ولا تذر. أودّ أن أصارحكم بأنّ بعض مؤيديكم هم جماعة من المتطرفين المسعورين والذين يحاولون بكل جبن سوقكم للقيام بأعمال قذرة هم لا يستطيعون القيام بها
إخوتي في جبهة النصرة، حتى الآن تحدثت عن بعض النقاط ولكني لن أغفل مسألة غاية في الأهمية تتعلق بالوضع الداخلي في سوريا وبباقي الفئات من المنخرطين بالثورة أو غيرهم والذين قد لا يشاطروكم نفس المبادىء والرؤى. كما تعلمون بأننا نعيش في وطن غني ومتعدد بالثقافات والطوائف والأديان والقوميات. حقيقة لا أعرف بلداً يعيش فيه عرب وأكراد وأرمن، مسلمين ومسيحيين، سنّة، علويين، دروز، شيعة، اسماعيليين، يزيديين وصابئة منذ مئات إن لم نقل آلاف السنين. هذا التنوع الغريب والغني يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار عندما نفكر كلنا حول الوطن الذي نتمناه بعد رحيل الطاغية وزبانيته ومحاكمة كل من تورّط في الدم السوري كائا من كان. في تنوّع كهذا من الصعب فرض صيغة على شكل دولة دينية تحكمها شريعة إسلامية متشددة، حتى ولو كان هذا المشروع مرغوباً لدى نسبة لا بأس بها من الشعب. أودّ التشديد على أنّ هناك أفرادا وجماعات متعددة شاركوا في الثورة من أبناء طوائف المجتمع السوري حتى ولم تكن مشاركة الطوائف الأم واضحة أو قوية. هؤلاء وغيرهم حتى ممن شاركوا في الثورة لهم الحق أيضاً في المساهمة في بناء الدولة التي ننشد، دولة الحرية والقانون والعدالة الإجتماعية والمساواة. وبهذا فإن فرض نوع معين من الملبس أو الطريقة في إدارة الأمور مبنية على رؤية جماعة أو جماعات معيّنة حتى لو كانت “جبهة النصرة”، لن يكتب له النجاح وسوف يؤدي إلى ظهور توترات مجتمعية نحن بالغنى عنها في مرحلة تالية تتطلب منّا جميعاً مسؤولية كبيرة لتخفيف جراح أهلنا من آلاف المنكوبين. أورد بديهية بأن الدين الإسلامي هو جزء خاص ومتميز من الشخصية السورية ولا أعتقد بأنّ سوريا بحاجة إلى “فتح” جديد، لا على يد “النصرة” ولا على يد غيرها. نعرف من تاريخنا القريب ومن تجارب غيرنا من الشعوب بأنّ فرض تصورٍ أو شكلٍ للمجتمع بالقورة والإكراه ليس له فرصة للحياة وسوف يؤدي إلى تأجيل مفعّلات الإنفجار فقط (ماذا فعل البعث مثلاً). أنا من الأشخاص الذين يتمنّون لو إنخرط الجميع، بعد زوال الطاغية في عملية سياسية كبيرة، بمن فيهم رجال “جبهة النصرة”. ولمَ لا التفكير في إنشاء حزب سياسي مثلاً يعبّر عن طموحاتكم وأهدافكم، والنموذج التركي المتمثّل ب”الحرية والعدالة” ماثل للعيان. أمّا رفض الواقع والإصرار على أهداف تنظيمية أو أخرى إقليمية، أو حتى التحوّل إلى نموذج “حزب الله” فهذا ما لا ليس بحاجة له قطاع كبير من شعبنا بعد المرحلة العصيبة المدمّرة التي عاشها في ظل عقود الإستبداد الطاغي وما خلّفه من آلام
أنهي رسالتي لكم بشيء عن طبيعة عملي كأخصائي ومعالج نفسي مع مرضى الأذيات الدماغية والأطفال واليافعين من ضحايا الحروب والنزاعات المسلّحة. لا أخفيكم بأن جميعنا ينتظره عمل شاقٌ في مرحلة البناء القادمة لا محالة، سواء على المستوى النفسي الفردي أم على المستوى الجمعيّ في إعادة إعمار البلاد التي دمّرتها كتائب الطاغية بكل خسّة. أعرف من خلال عملي اليومي وإطلاعي الميداني البسيط بأن الآلاف من أطفالنا ويافعينا شهدوا ويلات الحرب المدمّرة التي شنّها النظام المجرم على شعبنا ورأوا الأهوال من قتل للأهل والأصدقاء والأقارب والمعارف، ومن تدمير للبيوت ومن تشرّد وجوع ولجوء. ولا أشك بأن قسما كبيرا منهم قد تعرّض لصدمات نفسية متكررة، تستوجب العلاج والتأهيل فيما بعد. بعضهم كان ضحيّة تعذيب وحشي وبعضهم الآخر تعرّض لإصابات شديدة فقد فيها أطرافه. هؤلاء هم جيل المستقبل الذي ستبنى عليه سوريا الغد وتتابع مسيرتها رغم الجراح، وهم بأمسّ الحاجة لنا لمساعدتهم في التخفيف من الآلام التي قاسوها وتخطي الطفولة التي حرموا منها. كل منّا كان لديه عمل ما قبل الثورة، قد يكون منكم العامل والسائق والمهندس والممرض والخبّاز والدهّان والطبيب والتاجر، وربما بعض رجالكم عنده أطفال وزوجة وأسرة قد هجرها طوعا من أجل خدمة الثورة في القتال ضد الطاغية. نحن بأمس الحاجة لكل الجهود وأطفالنا ويافعينا سوف يكونون أمانة في أعناقنا ماحيينا. قد يكون أحد أطفالكم، أو طفل أحد معارفكم قد صدم بما رأى أو سمع وقد يحتاج لتأهيل نفسي قصير أو مديد وقد أكون أنا أحد هؤلاء الذين يمكنه تقديم مساعدة ما. بالمقابل قد أحتاج أحدكم يوما ما في شيء لا أستطيع القيام به في مجال ما. لقد كتب علينا أن نحيا ونعيش هذه المأساة، بغض النظر عمّن إقتضت ظروفٌ معينة أن يكون خارج الوطن، وسيكتب علينا جميعاً المضيّ متماسكين حتى لو إختلفنا في محاولة بناء ما دمّر من حجر وبشر، مقتفين سيرة الأوائل في الجهاد بجميع درجاته، رفعاً للظلم والأذى
وأخيراً أختم من الذّكر الحكيم
(ادْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنهُ وَلِي حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقاهَا إِلا الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقاهَا إِلا ذُو حَظ عَظِيم)
(سورة فصلت: 34 / 35)
والسلام عليكم
الفيس بوك