حسين جموصفحات مميزة

كيف انقلبت الثورة على فكرة “العائلة” التي رعاها حافظ الأسد؟


من مقومات السياحة في بلدي التقاط الصور للبراميل المتفجرة

حلب ـ حسين جمو

في سيارة الـ”فان” التي أقلتنا إلى “أطمة” (المحطة الأولى بالنسبة للداخل إلى سوريا من بلدة الريحانية التركية)، تبادلنا الحديث سريعاً مع أربعة آخرين. الثورة غيّرت طريقة التعارف الاجتماعية المعهودة، فهنا لا سؤال عن الأسماء، بل فقط الوجهة، لا لأسباب أمنية وإنما لعدم وجود قيمة للاسم. أحد الشبان الأربعة كان في طريقه إلى حماة، وأعطاني رقم جوال سوري للاتصال به، في حال فكرت في التوجه إلى مدينة النواعير.. أخذت الرقم ونسيت أن أسأله عن اسمه، وهو أيضاً لم يقل اسمه.

استغرق وصولنا إلى القرية عشر دقائق، وهنا ودعني الشباب الأربعة (رفقة عشر دقائق) بالأحضان والقُبل.. عندما أردت تدوين اسمه في ذاكرة جوّالي التركي لم أجد شيئاً يناسبه أكثر من “الحموي أبو النواعير”. كنا قد صادفنا أيضاً على الحدود عضواً في المجلس الوطني السوري، لم يسأله أحد عن اسمه، فقط “أهلاً وسهلاً”، لا يهتم الناس هنا بالسياسة والسياسيين طالما لا يعملون في المجال الإغاثي. في بدايات الثورة كان يمكن لعضو المجلس هذا أن يجمع حوله في ذلك المكان كل الموجودين، لكن لم يلتفت إليه سوى شخصين لـ”ضرورات الضيافة”. كان حديثه الذي يصل إلى مسامع ركاب الحافلة، لافتاً، لا لأهمية ما يقول، بل لغرابة الأسلوب على ما يبدو، التفاصيل التي يُسمِعها لمحدّثه مليئة بالبيروقراطية: “أنا اتصلت برياض الأسعد عبر المكتب الإعلامي وقلت له إن تصريحاتك غير مدروسة وتخلو من الحسابات السياسية، أجريت اتصالات مع مكتب العميد مصطفى الشيخ أيضاً وناشدتهم ضرورة التهدئة مع رياض وأرسلت له قائمة بـ… إلخ”. استفدت من رصد الردود الصامتة على حديث “الأستاذ” كما كان يخاطبه محدّثه، ولم أتحدث بهذا الأسلوب مع من قابلتهم مطلقاً طيلة سبعة أيام. في أجواء المعارك والدماء التي تنزف، قد يُعجَب الناس بساعة من الكلام “الأنيق” والعلمي، لكن في ما تبقّى من الوقت عليك أن تكون مثلهم، ولا يعني الأمر التماهي الكاذب، فالأمر أشبه بأن يتواجد أورهان باموق في صفوف فريق بشيكطاش خلال مباراة كرة قدم، بالتأكيد لن يكون الوقت مناسباً ليشرح أن طلاق شكورة من زوجها المحارب، المختفي، على المذهب الشافعي بدلاً من الحنفي يعني أن بشيكطاش بإمكانه أيضاً تغيير الخطة للفوز!

في ضيافة الخال ظاظا

باستثناء مقاتلي الجيش الحر، لمست من رد الفعل الأولي للناس أن المجانين وحدهم يطلبون التوجه إلى جبهة حلب، وهؤلاء كثر بين الصحافيين. طلبنا من السائق التوقف في ساحة القرية لنجد مطعماً أو مضيفاً نتحايل لديه على جوعنا، لكنه ألحّ علينا بالمرور على “مخفر الجيش الحر” الذي يديره الخال ظاظا، أشهر شخصية في البلدة، واكتسب لقب “الخال” بسبب إيوائه النازحين في مدرسة أطمة وتفرغه للعمل الإغاثي. لم يكن هناك شيء من مظاهر المخفر داخل مقر “الخال ظاظا” سوى الطاولة العريضة التي يجلس خلفها، والكرسي المتحرك الذي يقول له السوريون في الأرياف “الكرسي البرّام”. كان المكتب مليئاً بأناس يريدون التقدم بشكاوى أو طلبات معينة. طريقة ترحيبه بنا كشفت لنا شيئاً من “سوريا الموعودة” التي نحلم بها: اعتذر مراراً عن طلبه منا تسجيل أسمائنا، وأقسم أن هذا الإجراء هو لحمايتنا في حال ضللنا الطريق أو وقعنا في قبضة النظام.. وطلب أن نرتاح في المكتب ونشرب الشاي إلى حين قدوم مجموعة مقاتلين من حلب ليرافقونا إلى المدينة.

من المفروض أن عدد سكان البلدة أربعة آلاف نسمة، أما المقيمون فيتجاوزون 15 ألفاً. هذا التضخم السكاني الطارئ غيّر وجه القرية. بعض الأهالي قاموا بهدم جدار مطلّ على الطريق من منزلهم وفتحوا دكاكين فلافل وحمّص وخبز. إلقاء السلام من “غرباء” على الرجال الجالسين أمام منازلهم لا يثير الريبة في نفوسهم، والتفتّ أكثر من مرة بعد تجاوزنا لمجموعات منهم لأرى ما إذا كانوا – كالسابق قبل الثورة يلتفتون هم أيضاً وراءهم للتدقيق في الغريب الذي مر بهم قبل قليل.. لم يفعلوا.

اتجاهات الركض في الثورة

خرجنا من “مخفر الجيش الحر” إلى منزل أحد الناشطين حيث من المقرر أن يقوم بترتيب دخولنا إلى حلب. قضينا الليل في منزله بسبب استحالة التوجه إلى حلب ليلاً: الطريق غير آمن بعد شيوع خبر الهجوم على الفوج 46 في ريف حلب الغربي، والهستيريا التي أصابت قوات النظام بقصف عشوائي استهدف القرى الواقعة على الطريق الذي سنسلكه. قضينا ليلة مليئة بالضحك إلى مطلع الفجر، من الصعب وصف التغير الاجتماعي الضخم الذي أحدثته الثورة، ولم يمنع، أني وزميلي الإعلامي بحكم “الغرباء” اجتماعياً، في “تواطؤ” مضيفنا معنا على أحد أقربائه من إدلب، فقد زوّدنا بتفاصيل عن دور قريبه الشاب في معركة إدلب الأولى التي خسر فيها الجيش الحر بشكل سريع ودراماتيكي، ويبدو أن المعركة المذكورة أصبحت مادة دسمة للنكتة، وكيف أن الشاب القادم من كفرنبل كان قد نام قرب خط المواجهات عندما اندلعت المعركة إضافة إلى “سيرة” انشقاقه الطويلة والمشوّقة!

فجراً، كانت السيارة بانتظارنا لنقلنا إلى قرية بسرطون (جنوب غرب حلب) التي أسمع بها للمرة الأولى، حتى لم أعثر لها على اسم في الخريطة التفصيلية لسوريا. هناك أيقظنا أبو العز واعتذرنا منه على الإزعاج الذي سببناه له، لم يسأل عن أسمائنا، وبادر بالترحيب الريفي المفعم بالاحترام. في غرفة الضيوف، التي غالباً ما ينام فيها “كبير المنزل” على ما جرت العادة في الريف، كان هناك قاذف آر بي جي وبندقية كلاشينكوف وعدة قنابل يدوية. يضع أبو العز هذه الترسانة قرب رأسه قبل النوم، “فهي باتت أقرب من الزوجة إلينا” على ما يقول شقيقه الطبيب. الثورة أوجدت معها أمثالاً جديدة أيضاً، فأبو العز الذي يقاتل على جبهة صلاح الدين في حلب رد على اعتذارنا لإيقاظه بتلخيص مراحل الثورة التي غيّرت من عادات نومه الطبيعية: “في البداية.. تقريباً حتى الشهر العاشر من العام الماضي، لم نعتد النوم في المنزل ليلاً.. كان الأمن يلاحقنا ونحن نهرب.. ثم حدثت حالة توازن في ما بيننا استمرت حتى شهر شباط الماضي، التقينا وجهاً لوجه وقتلنا منهم وقتلوا منا.. المرحلة الثالثة والمستمرة حتى الآن هي أنهم بدأوا يهربون ونحن نلاحقهم، إن شاء الله ستنتهي هذه المرحلة بسقوط النظام.. ما زلنا نعيش دورة نوم غير طبيعية”.

فشة خلق ثورية

أقلّنا فريد، وهو رجل طويل القامة ومقاتل شرس، في سيارته إلى بلدة قبتان الجبل. ليس لديه هاجس من النظام، فهو سيسقط لا محالة، لكن ما يقلقه هو عدم اعتياد الناس على انتفاء سلطة الدولة. لم يحتَج إلى قرائن لمخاوفه، فسرعان ما صادفنا أناساً يقطعون الأشجار على مشارف بلدة عنجارة. بدا في غاية الغضب والقلق لأن هؤلاء يدعمون مقولة إننا “لا نستحق الحرية”. مررنا بالقرب من مبنى مؤلف من طابق واحد وبدت عليه آثار الحرق. كان ذلك مخفر الشرطة قبل أن يهاجمه فريد ورفاقه: “هل ترى هذا المبنى؟ كان هذا هو المخفر، وكان فيه أربعة عناصر.. هؤلاء الأربعة كان يضبطون هذه المنطقة كلها”. كان يريد قول أشياء كثيرة، لكن ربما خشي أن يحبطني.. أنا القادم من على بعد آلاف الكيلومترات احتفاء بالثورة. مشكلة المقيم (غالبيتهم) خارج سوريا هو اعتقاده أن المقيم في الداخل يعرف كل شيء، وهذا الأخير أيضاً يعتقد أن الأول لا يعرف شيئاً ممّا يجري على أرض الواقع. عدم كسر هذه المعادلة يضمن تدفق المعلومات والسرديات “السلبية” بغزارة، لكن “فشة الخلق” التي بدأها فريد تنتهي سريعاً عندما يتفاجأ بأن الشخص الذي نقصده قد قتل برصاص جاء من قاعدة عسكرية للنظام.

براميل الخردة الحقيرة!

أتاح بقائي في قبتان الجبل نحو خمس ساعات التعرف على بعض جوانب هذه البلدة، التي يتجاوز عدد سكانها الـ20 ألفاً. والسياحة هنا تعني أن يأتي شاب ويأخذني إلى آخر مكان تم قصفه بالبراميل المتفجرة. قبل ذلك، تحدث الرجل الثلاثيني توفيق عن مسيرة البلدة في هذه الثورة، فقط عندما نطق بكلمة “البراميل” فإن الكلمة التي كان من المفروض أن تليها خرجت مشطورة إلى نصفين. كان المشهد سينمائياً، حيث أرخى عيْنيْه إلى الأرض وأمسك عن الكلام. في يوم الجمعة كان نحو ألف شخص في مسجد البلدة يصلّون الظهر عندما ألقت طائرة مروحية ببرميلين.. الأول وقع بعيداً عن الجامع نحو 100 متر في الخلاء وقتل خمسة أشخاص. كان توفيق من بين المصلين حينها وهو متأكد أن 400 شخص على الأقل ربما كانوا سيقتلون لو أن البرميل سقط على الجامع، وليدعم كلامه بالأدلة، مد يده خلف المخدة التي يتكئ عليها وأخرج شظية أكبر قليلاً من حجم كف اليد، ووزنها 17 كيلوغراماً.

البرميل المتفجر قنبلة غير مدروسة الشدة ولا تخضع لحسابات صنع القنابل، فقط مخروط معدني ثقيل جداً، مليء بالبارود والمسامير. إنها قنبلة مكونة من الخردة الحقيرة المدعمة بالبارود. ورغم أن “البرميل” هو السلاح الخردة الأكثر إثارة للرعب والتدمير، إلا أن النقص المرعب للذخيرة تجعل من بعض صانعي القنابل ينتظرون، وهم بكامل عدّتهم، أن لا ينفجر البرميل الذي يهوي عليهم. وهو ما حدث في اليوم الذي ألقت المروحية برميلين، إذ إن واحد منهما قتل شخصاً ودمر منزلاً لكنه لم ينفجر! هرع صانعو القنابل إلى المكان وانتشلوا البرميل والجثة. شيّعوا الجثة سريعاً ثم بدأوا بتشريح البرميل الضخم (نصف طن) ونقلوا البارود في أوعية بلاستيكية إلى حيث يمكنهم إرسالها لورشة القنابل والصواريخ المحلية الصنع. ويقول توفيق: “لأنها قنبلة خردة وتافهة وقاتلة فإن نحو 30 في المئة منها لا تنفجر.. عندما يكون السقوط مائلاً بسبب ثقل طرف على آخر لأن واضع الحشوة تيس ومتخلف فإن نقطة الارتطام لا تكون على الصاعق”.

نهاية العائلة

بعد سياحة البراميل المتفجرة، التقينا بشاب لم يبلغ العشرين عاماً. قتل شقيقه قبل يومين من وصولنا إلى بلدته. تحمّسه الشديد لخدمتنا كان يحمل في طياته سعادة باطنية لتحمله مسؤوليات شقيقه الأكبر، وبدا أن هذا الأمر ابتلع الحزن الذي كان أثره واضحاً في انتفاخ محيط العين واحمراره. صادفنا والده أيضاً وهو جالس مع مجموعة رجال كبار في السن على رصيف مظلل. هؤلاء المسنون ليسوا متفرجين على الثورة كما يبدو للوهلة الأولى، ففي الريف على عكس المدينة بقيت التراتبيات الاجتماعية السابقة فعالة في الثورة، والذي يأخذ شكل تحريك الخيوط في الخفاء، وهو نمط معروف من القيادة العشائرية في الأرياف يقوم على وقوف بعض الوجهاء من كبار السن خلف أحداث يقودها ميدانياً شبان ومراهقون، وغالباً ما تكون خصومات اجتماعية وتصفية حسابات يبدأها الشباب ولا تنتهي إلا بقرار من الوجهاء. اليوم، وبينما قضت الثورة على الحنان الأسري الذي يغذي الجُبن، بات إرسال الأبناء إلى القتال قراراً أبوياً باهظ العاطفة.. فالشاب الذي لم يبلغ العشرين توجه إلى الحاجز الذي نصبه الجيش الحر على مدخل البلدة والذي يستهدفه الطيران بين حين وآخر. توقف بسيارته أمام والده.. تقدّم الأب خطوات قليلة ومدّ يده من نافذة السيارة ليودع حقيبة صغيرة التقطتها يد الابن سريعاً: كانت ستة مخازن ذخيرة لبندقية الكلاشينكوف رسمت أمامي صورة لنهاية “مفهوم العائلة” التي كانت الحبل السري لحكم حافظ الأسد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى