رسالتان بحبر اليأس/ راتب شعبو
أصدر النظام السوري طبعة جديدة من ورقة العملة السورية من فئة الألف ليرة، أعلى فئة ورقية في العملة السورية، مع إلغاء صورة الأسد الأب عنها؛ الصورة التي كانت إزالتها عن حائط ما في سوريا تستدعي معاملات طويلة وتكليف مجموعة من عناصر الشرطة المهمة بعد إجراء مراسم تتضمن تأدية التحية العسكرية للصورة. اليوم يزيل النظام صورة الأسد الأب عن العملة بصمت، فهو يقوم بما يدرك أن فيه ما يرضي قطاعا واسعا من الشعب السوري، كنوع من شراء القبول أو استجداء الرضى. تجتمع وحشية البراميل والألغام البحرية، مع هوان استجداء الرضى لخدمة غاية واحدة هي بقاء النظام اليائس.
من ناحية ثانية، تختفي صورة الأسد الأب وابنه عن الغالبية العظمى من جنازات الجنود والمقاتلين الذين تصل أو لا تصل جثامينهم إلى أهاليهم. لم يعد يهتف المشيّعون للأسد، بل للشهيد الذي بات الأهالي يميلون أكثر فأكثر إلى إسباغ أبعاد دينية عليه فيسمّونه “المجاهد الشهيد”، وبات المشيّعون، بدلاً من تمجيد الأسد، يهتفون “الشهيد حبيب الله”، وغيرها من العبارات التي يضعها الضعف البشري على ألسنة البشر.
الرسالة الأولى، إزالة الصورة عن العملة، موجهة من النظام إلى الجمهور المعارض مما تبقى من الشعب السوري، تريد أن تقول: إننا أصبحنا أقل احتكارية مما كنا حين ثرتم علينا، ها نحن نسحب رموزنا لصالح الرموز الوطنية من آثار ومعالم ومنتجات. رسالة كهذه لا تأتي ممن هو أقل بدرجة واحدة من السلطة العليا في سوريا؛ ذلك أن قرار إزالة صورة الأسد الأب، لا يمكن أن يأتي من سلطة أدنى. لهذه الرسالة منطوق آخر يقول إن النظام يتخلى علناً عن التصور الذي بناه وحرص على حراسته وزرعه في وعي السوريين على مدى عقود، وهو أن الشعب السوري يرى في قائده رمزاً وبانياً ومحرراً وأن الشعب معجب بقائده إلى الحد الذي يفيض معه الإحساس عن حدود السياسة ويبلغ حدود الغرام، ما يجعل هذا الشعب يكثف شعوره هذا بكلمة واحدة، “منحبّك”، كتبها على صور ابن “القائد الخالد” ووارثه، ورددها الجمهور في الساحات، وغنّاها المطربون …الخ. لكن النظام يعلن اليوم أن الصورة التي سحبها عن العملة ليست صورة وطنية، إنما هي صورة رمز لنظام تسببت سياسته الحمقاء وغطرسته الفارغة واستعداده للقيام بأي شيء، سوى المشاركة في الحكم، في تدمير البلاد وضياعها.
الرسالة الثانية، الكف عن رفع صور الأسد، موجهة من الجمهور الموالي إلى النظام تريد أن تقول: إننا لا ندافع عن النظام بل عن أنفسنا وقد بتنا أسرى صراع لا يبدو أنه يحمل بذور حلّه، بل يبدو أنه كلما طال أمده أكثر امتلك وسائل استمراره أكثر. رسالة من الجمهور الموالي تقول إنهم أدركوا محنة السقوط بين نظام يقول لهم: لكي أحميكم يجب أن تموتوا أولاً، وبين خصوم النظام الذين باتوا يقولون لهم: بالذبح جئناكم. رسالة الجمهور الموالي هذه تقول إن ما يدفعهم للقتال هو الخوف من الإسلاميين وليس الرغبة في النظام، وإن ما يجبرهم على المرّ شيء هو أمرّ. وقد جاءت رسالة الموالين في أكثر من لغة. جاءت بلغة التهرب من الخدمة العسكرية، وبلغة تفضيل الانضمام إلى تشكيلات عسكرية شيعية (لا سيما “حزب الله”) لها استقلالية عن النظام وعن آليات فساده، وكان هذا صريحاً في البيان الذي وزّعه أهالي قرية اشتبرق مثلاً، داعين فيه شباب القرية للالتحاق بـ”حزب الله” اللبناني الذي يطعم مقاتليه ويحترمهم ولا يتخلى عنهم وعن ذويهم كما يفعل النظام السوري. وجاءت بلغة التبرم من استشراء الفساد والفقر والتسلط ورفض أي احتجاج، على اعتبار أن المهمة الآن هي الخلاص من الإسلاميين، كما لو أن الفساد والفقر والتسلط ليست من أسباب ظهور التطرف الإسلامي واستشرائه، وكما لو أن الفساد والفقر والتسلط ليست من النتائج الضرورية لنظام التمييز والمحسوبيات والقمع واستضعاف الناس.
بعدما سيطر الإسلاميون على ضفة المعارضة، لا يشعر النظام بأي خوف من فقدان جمهوره الموالي، فهو يدرك أن هذا الجمهور محكوم بالتمسك به طالما بقيت السيطرة للإسلاميين على الضفة المقابلة. لذلك يوجه إيماءة إزالة الصورة عن العملة إلى جمهور المعارضة غير مبالٍ بما يمكن أن يتركه إجراء كهذا من إحباط واستياء على الجمهور الموالي.
النهار