رودولفو هاسلِر: أنا الكوبي مواطن هذا العالم/ باسم النبريص
في مقهى “Casa Almirall” الكائن في حيّ الرابال الشعبي في برشلونة، الذي لا يزال يفتح أبوابه الخشبية منذ أُنشئ سنة 1860 حتى اليوم، كان لقاء “ملحق الثقافة” مع رودولفو هاسْلِر، الشاعر الذي يملك صوتاً ذا خصوصية جليّة في المشهد الشعري الإسباني، والمجدّد الساعي على الدوام لتحقيق نقلة لا منتظرة يأمل أن تدفع بقصيدته سنتيمتراً إضافياً على رقعة الحداثة. شعره عميق، متعدّد الإحالات، ينزعُ فيه المعنى إلى شساعةٍ محيّرة تارةً وغموضٍ شبه مطلق طوراً، ولهذا يكاد يكون عصياً على الترجمة.
ولادة متشعبة
ولد رودولفو في سانتياغو لكنه يعيش في برشلونة :”ولدت في مدينة سانتياغو دي كوبا عام (1958)، وبعد سنة انتقلنا إلى العاصمة هافانا. وبالطبع لا أتذكّر شيئاً من مكان ولادتي، فهو بالنسبة إليّ مكان فارغ، خالٍ من الصور. لكنني زرته بعد مرور ثلاثين سنة. تشرّبتُ تفاصيلَه الصغيرة وتنفّست هواءه. كانت زيارة مشحونة عاطفياً، وأيقظت في نفسي الكثير من الأحاسيس الجميلة والملتبسة. وعشت في هافانا حتى سنّ العاشرة فقط، إذ هاجر والداي عام 68 إلى إسبانيا. أبي سويسري الأصل وهو رسّام معروف. وحين خرجنا من كوبا لم يفكّر بالعودة مطلقاً إلى بلده سويسرا، لأنّ أمي لم تكن تتكلّم الألمانية. كانا يفتّشان عن مستقرّ، واختارا برشلونة”. وعن سبب الاختيار يضيف :”عندما رأى أبي المدينة وتجوّل فيها، أُعجب كثيراً بطابعها المعماري وبشوارعها وأزقة مركزها القديم، وبحرها ومناخها، أيضاً لفت انتباهه على نحو خاص ضوءُ النهار فيها، فقال: هنا نبقى. لقد وجد أن الضوء هنا خافتٌ بعض الشيء وذو خصائص بديعة بالمقارنة مع الضوء الشديد القوة في هافانا، هو ضوءٌ يغيّر الألوان بتنوعٍ هائل، وكرسام، كان هذا الأمر يعنيه للغاية”.
لكن رودولفو لا يحس بالاقتلاع في برشلونة : “أشعر هنا وكأنني في بيتي، مع وعيي الحارق بأنني لست من هنا. إذن الشيئان معاً. وعندما أذهب إلى كوبا ينتابني الإحساس ذاته. صحيح ثمة علاقة عاطفية مع المكان الأول إلا أنني لا أعيش فيه. وحتى شخصيتي مختلفة عن الشخصية الكوبية في النهاية، ولكن هذا لا يشكّل لي عقدة نفسية ولا صدمة. أنا أحب هذه المسافة التي تفصل بين “هنا” و”هناك” أو بين “الهُنا” و”الهُناك” مُعرّفيْن. فقد منحني ذلك القدرة على النظر إلى المكان من مسافة، وكأنك تقدر دائماً على الدخول والخروج، التأمل والاستبطان عن بُعد. كما أني أشعر بالراحة هنا أكثر من كوبا. بمعنى: عندما أزور كوبا أشعر بشيء من الغربة: الشخصية، المزاج، الطقس، اللهجة وأسلوب تخاطب الناس فيما بينهم.كل شيء مختلف”.
هذه الولادة المتشعبة جغرافيًا لو جاز التعبير، أثّرت في الشعر “الكوبي” لرودلفو :” كوبا بلد حديثة نسبياً (عمرها 100 سنة تقريباً)، إلا أنّها تتمتع بحضور كبير وقوي في الشعر، فالشعر الكوبي وُلد في القرن التاسع عشر. وبدايةً لا يمكن نسيان جماعة أوريخينِس Grupo Orígenes الطليعية التي أطلقت مجلةً حملت اسم الجماعة “Orígenes”، وعلى رأسهم مؤسسُها الشاعر خوسيه ليثاما ليما. كانوا مجموعة من الشعراء دشّنوا الحداثة وأدخلوها إلى المشهد الشعري، بالاتصال مع شعراء السوريالية الفرنسية ونشر ترجماتهم في المجلة، وعن طريق تقديم الشعر الباروكي الإسباني من خلال رؤية جديدة. والشاعرة الوحيدة التي بقيت منهم حيّةً إلى الآن هي فينا غارثيّا مارُّوث. ثم إن كوبا جزيرة، وطوال تاريخها، سيما في الأحقاب الكولونيالية كانت مكاناً للعبور فقط، حيث لم يكن للغزاة مصالح ومطامع مباشرة فيها. لم تكن مركز سلطة مثل مكسيكو أو ليما، وذلك ترك للكوبيين هوامش واسعة من الحرية ومساحة للتجريب. إنّ كونها نقطة بحرية فحسب، جعلها بوتقة لقاء وانصهار للثقافات والأعراق، ما جعل سكانها منفتحين على العالم بشكل أوسع من جيرانهم، خلافاً للنظرة النمطية السائدة”.
وإذ سُئل عن الانتشار الضئيل للشعر الكوبين أجاب :”المشكلة الأساسية تتركّز في توزيع الكتب، إلى جانب كبر المسافة الجغرافية الفاصلة، وهذا لا يحدث فقط بين كوبا وإسبانيا، وإنما أيضاً بين إسبانيا وباقي بلدان أميركا اللاتينية. في الـ 15 سنة الأخيرة، شرعت دور النشر الإسبانية بنشر كتب شعرية للكوبيين، لكن يبقى هذا النشر محدوداً. ولا ننسى أنه حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان ممنوعاً على شعرائنا النشر خارج البلاد، ومن فعلَ واكتُشِف أمرُه دخَلَ السجن. وسأورد لك مثالاً: بدأ الشاعر رينالدو أريناس ينشر في فرنسا وإسبانيا بمساعدة بعض أصدقائه الذين كانوا يهرّبون مخطوطاته إلى الخارج، وحين علمت السلطات بذلك سجنته. عموماً، أعتقد أنّ من يهتم بالشعر ملزمٌ بالبحث عنه في هذه الدول. وواقع الحال يشير ـ للأسف ـ إلى انتفاء الاهتمام. ثم إن دور النشر الكوبية التي تنشر الشعر الحديث، ولديها مقدرة على التوزيع خارج البلد، قليلة جداً وما ينطبق على كوبا ينطبق على معظم الدول اللاتينية. وإذا وجِدت هذه الدور، فهي بالمُجمل دور نشر إسبانية. وبناء على هذه الأسباب مجتمعة، لا بد من زيارات متكرّرة إلى كوبا أو إقامات فيها ليفهم المرء حجم ونوعية الحركة الأدبية هناك”.
الناس تسمع الشعر
ورغم ذلك، إلا أن للشعر في أميركا اللاتينية جمهورًا، يعلّق رودولفو : “دائماً هناك جمهور للشعر ـ قليل لكنه موجود. وعلى الأرجح، فإنّ لأميركا اللاتينية وشيجة حميمة وجدّ وثيقة بالكلمة الشعرية إلى يومنا، خاصة بين المهتمين بالأدب، ربما أكثر من أي مكان آخر في العالم. ويمكن ملاحظة ذلك في مهرجانات الشعر، كمهرجان مديين في كولومبيا وأشباهه في نيكاراغو، المكسيك، وكوبا، حيث يقرأ الشاعر شعره محاطاً بالألوف. ففي هذه الدول تشعر بتقدير الناس لصورة الشاعر، هذا الشيء الذي اختفى في قارة أوروبا أو يكاد نهائياً. وربما يعود السبب إلى أن الناس تسمع الشعر هناك أكثر من ذهابها إلى الشعر المطبوع في الكتب.ولا ينبغي، في سياق كهذا، تجاهل حقيقة أن علاقة الشعوب اللاتينية بلذة الكلام، ما تزال قوية جداً ونضرة ـ وهذا بالطبع يُساعد. فلو قارنّا بين المحكي اللاتيني ونظيره الإسباني، سنجد الأول أكثر غنى وكثافة من الأخير. الناس في إسبانيا فقدت هذه العلاقة المائزة بالكلام .. تلك اللذة الحريفة التي لا يعرف طعمها سوى من يمارسها يومياً، ولهذا السبب افتقَرَ اللسانُ الإسباني وانكمشت مفرداته. كما أني مع الرؤية التي ترحّب بانحسار الشعر وأقلّويته، فهما أمران جيدان كي يبقى الشعر خارج ضغوطات السوق”.
آباء شعريون وأسئلة ضرورية
السؤال عن الآباء الشعريين ضروري في هذا الفن الهش، يجيب رودلفو : “هم كثر: فرانثيسكو بينو، أنطونيو غامونيدا، لويس فيريا (من جزر الكناري)، أنيبال نونّييث، رفاييل بيرث إسترادا. ومن جيل 27، أذكر جزءاً من لوركا، لويس ثيرنودا، وماتشادو. جيل 27 له في الحقيقة، تأثير محسوم عليّ، سيما في بداياتي. ومن الشعراء الأحياء أذكر الشاعرة أولبيدو غارثيّا بالدِس. وإجمالاً، إذا سألت عن نوع الشعر الذي يروقني وأحبه، فهو ذلك النوع الذي يحتاج إلى إيقاظ” ويوضح فكرته :”لا أحب الشعر الوصفي، الشعر الذي يصل واضحاً ولا يستدرج القارئ إلى حلبةٍ يتصارعُ فيها التأمّلُ والحيرةُ إزاء المعنى. أحب الشعر الذي يوقظ في نفس الشاعر، وفي نفس القارىء أسئلةً تنفتح على اللامعقول، والغموض، والخيال”. والسؤال الضروري الآخر هو : لماذا الشعر؟، يقول رودولفو: “فكّرت في ذلك طويلاً وعديد المرّات، ولم أحظ بجواب وازن. غير أني أظن أنني أكتب الشعر بسبب ظروفي الشخصية. لقد ولدت بمكان، والآن أعيش بمكان آخر. بدأت التحدّث بالإسبانية الكوبية، واضطُررت فيما بعد إلى تغييرها ونسيانها. مكان الشعر هو هذا المكان ـ المسافة ـ الحيّز الذي استطعت فيه التعبير عن تجربتي الذاتية. هذا الوعي الذي ينشأ مع تعلّمك للهجتك، وأن ترى نفسك في مكان آخر، مختلفاً عن الآخرين، فتكتسب وعياً لغوياً خاصاً بك”.
يرى رودلفو هاسلر في فن الشعر أشياء وعطاءات منها : “الشعر أعطاني قدرة كبيرة على التأقلم مع كثير من الظروف دون أن أخسر شيئاً من ذاتي. أعطاني القدرة لأن أكون أشياءً كثيرة وأشخاصاً عديدين، في وقت واحد. الشعر، وهذا هو الأهم، جعلني أشعر بالراحة في كل مكان أحلّ فيه، لأني مواطن هذا العالم. هذا من جانب، ومن جانب ثان: الشعر صعّبَ عليّ، في أوقات ليست بالقليلة، العلاقة مع بعض الأشياء وبعض الأشخاص”.
وسأل “ملحق الثقافة”عن بذور الغربة أو الاغتراب التي يزرعها الشعر في الشاعر، وفيما لو كان هاسلر يشعر حقًا أنه “مواطن هذا العالم”، فقال :نعم، فما ذكرته هو جزء من عملية الانفصال التي يعيشها الشاعر. أن يكون لديك وعي وذهن متّقد، وفي نفس الوقت، فإنك تدفع ثمن كل هذا”. وبالعودة إلى أثر المكان فيه أجاب : “جزء من شخصيتي تشكّل من الثقافة الكتلانية، فأنا أعيش هنا، وأقرأ الشعر الكتلاني: شعر القرون الوسطى، شعر القرن التاسع عشر، والشعر الحديث.
هي ثقافة مهمّة وفاعلة لكل من يعيش بين ظهرانيها. فنحن (الإشارة للغرباء) من نسكن هنا متعوّدون على القراءة باللغتين، وننتقل بسلاسة من الحديث بالقشتالية إلى الكتلانية، دون أن نشعر بأية صعوبة. كل غرباء الإقليم الذين ولدوا أو عاشوا فيه سنوات طويلة، لسانُهم مزدوج. جميعنا لدينا ثقافة تتوزع بين اللغتين والثقافتيْن، وثمة شاعر كتالاني مهم جداً أثّر في شخصيتي هو جوان بينيولي”.
العربي الجديد