روسيــا و«الـربـيـع الـعـربـــي»
مصطفى اللباد
تمترست روسيا، طيلة سنة ونصف كاملة، في موقع المتشكك من «الربيع العربي» وآثاره السياسية، وفي حين نظمت الاحتفالات في عواصم غربية وإقليمية كانت موسكو تنظر بعين الريبة إلى ما يجري. تراوحت التفسيرات للموقف الروسي بين إرجاعه إلى العداء الأيديولوجي أو إلى نظرية المؤامرة، وفي كلتا الحالتين – وما بينهما – غاب عن التكهنات تعيين المفاتيح التفسيرية للموقف الروسي، والتي تلقي الضوء على مجموعة الأسباب من دون الاكتفاء ببعضها. لذلك تحاول السطور المقبلة تسليط الضوء على الاعتبارات التي دفعت بروسيا إلى موقعها المتشكك، ثم ينتقل التحليل إلى محاولة تفسير أهمية سوريا في الحسابات الروسية، وأخيرا إلى توقع خطوات روسيا المقبلة في الملف السوري.
الشاهد أن هناك مجموعة من المفاتيح لفهم الموقف الروسي من «الربيع العربي»، أولها أن السمة المشتركة للتغييرات السياسية التي جرت في البلدان العربية الواقعة في شمال أفريقيا تمثلت ـ من المنظور الروسي – في إحلال حركات إسلامية محل الديكتاتوريات المدنية، حتى مع اختلاف طبيعتها البنيوية بين بن علي ومبارك والقذافي. وعزز ذلك التقدير التطورات السياسية التي جرت في الدول الثلاث منذ نهاية العام 2010 وحتى الآن، وبالتالي لم تر موسكو أسبابا كثيرة للاحتفاء بالظاهرة. ويظهر ثاني المفاتيح في تجربة روسيا المريرة مع أفغانستان، والتي استنزفت قدرات الاتحاد السوفياتي إلى درجة دق المسمار الأخير في نعشه. وقتذاك انتظم تحالف إقليمي – دولي لاحتضان الحركات الجهادية يتشابه إلى حد ما مع ذلك التحالف المتبلور الآن لإسناد النتائج السياسية للتغيير في دول «الربيع العربي»، الفارق يكمن فقط في أسماء العواصم، إسلام آباد والرياض وقتذاك واسطنبول والدوحة الآن. صحيح أن الحركات الجهادية العاملة في أفغانستان وقتذاك تختلف فكرياً مع الحركات السياسية المتصدرة للمشهد السياسي في تونس ومصر وليبيا، إلا أن الرابط الأميركي في المنتظم الإقليمي ـ الدولي المتشكل حول «الربيع العربي» يشكل قاسماً مشتركاً بين تجربة أفغانستان وما يجري الآن، من المنظور الروسي أيضاً.
يمكن تقدير أن ثالث المفاتيح لفهم التشكك الروسي حيال «الربيع العربي»، يعود إلى تخوف روسيا من امتداد نطاق تأثيره إلى الشيشان ذات الأغلبية السكانية الإسلامية والأهمية الاستراتيجية الفائقة؛ كون الشيشان ممر روسيا الإجباري إلى بحر قزوين وثرواته. ويعني ذلك استحضار تجربة مريرة أخرى لروسيا، التي اعتقدت – ومازالت – أن الحركات المسلحة في الشيشان التي خاضت ضدها حربين رسميتين وأخرى كثيرة غير معلنة، لم يمكن أن تتم من دون إسناد إقليمي – دولي مشابه. تشكل هذه المفاتيح الثلاثة أرضية الريبة الروسية المبدئية من ظاهرة «الربيع العربي»، فإذا أضفنا إلى تلك الاعتبارات عاملا رابعا يظهر في امتداد الحراك الشعبي إلى سوريا، لأمكننا أن نتصور «التهديدات والمخاطر» التي يحملها الربيع العربي بين جناحيه، من المنظور الروسي طبعاً. يتمظهر العامل الخامس لفهم الموقف الروسي من ظاهرة «الربيع العربي» في انتظام شريحة جغرافية ممتدة على قارتين من تونس وحتى سوريا، إذا سارت نتيجة الحراك في الشام كما سارت في تونس ومصر وليبيا، وهو ما يعني «لعبة كبرى» من نوع جديد، على غرار الحروب الاستراتيجية التي دارت بين بريطانيا العظمى وروسيا القيصرية قبل قرنين من الزمان، وبين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة 1945-1990.
[[[
تتعزز المخاوف الروسية من امتداد «الربيع العربي» إلى سوريا لاعتبارات خاصة إضافية بالحالة السورية مقارنة بالحالة الليبية مثلاً، لأن طبيعة سوريا الجيو – سياسية تجعل ما يعتمل فيها من حراك، يفيض خارج حدودها السياسية الحساسة، فيما تحبس الصحراوات الليبية الشاسعة ارتدادات ما يعتمل فيها من تغيرات عن المضي خارج الحدود. من نافلة القول أن روسيا تملك عبر علاقاتها مع سوريا إمكانية التأثير بمعادلات القوى الإقليمية، وما يعنيه ذلك من حضور بموازنات القوى الدولية كذلك. تمكن علاقات دمشق وموسكو الأخيرة، معطوفة على عامل الديموغرافيا في إسرائيل (خمس السكان من أصول روسية)، من إطلاق مبادرات سلام في أي وقت تقريباً وحجز مكان على طاولة التفاوض. كما أن مشاركة روسيا في عمليات مكافحة القرصنة في البحر الأحمر، لا يمكن تعقلها من دون قاعدتي الإمداد والتموين على الساحل السوري. تأسيساً على ذلك، تعد سوريا أحد المداخل الممتازة لروسيا كي تلعب أدواراً دولية تحتاج إليها موسكو، في سعيها الحثيث واللا منتهي والمشروع لتظهير نفسها قطباً دولياً. ومع تطور الحراك الشعبي في سوريا لغير مصلحة النظام؛ بالتوازي مع عجز الأخير عن إظهار أية إمكانات للحل السياسي واعتماد القبضة الأمنية، اضطرت موسكو للتدخل بغرض إحباط التحركات الدولية في مجلس الأمن وإغلاق الطريق أمام استصدار قرارات ضد النظام في دمشق. وإن أغضب التدخل الروسي دوائر عديدة إقليمية ودولية، إلا أنه أظهر قدرات موسكو وجعلها هدفاً تسعى العواصم المعنية إلى استمالته. وراجت أحاديث «الصفقات» لتسيطر على التفسيرات العربية مجدداً، وإن احتار المفسرون في تحديد الثمن الذي تريده روسيا لقاء التخلي عن سوريا؟ ما هي طبيعته؟ وأين؟
[[[
حضرت قبل أيام ندوة هامة في العاصمة الروسية عن «الربيع العربي» واعياً بالاعتبارات والسؤالين السالفي الذكر، وشارك في الندوة مستشرقون وديبلوماسيون وسياسيون روس على مستوى عال. وأظهرت حصيلة النقاشات والأحاديث أن السؤالين المذكورين أعلاه يبدوان في غير محلهما، بل يعكسان قصوراً في فهم السياسة الروسية، ناهيك عن أهمية سوريا في الإطار الروسي العام لاستعادة المكانة الدولية. لا تستطيع روسيا الاستمرار في المواقع ذاته والقيام بالأداء السياسي ذاته لعرقلة مساعي المنتظم الإقليمي – الدولي المناوئ في مجلس الأمن دون أفق سياسي، خصوصاً مع تدحرج الوضع على الأرض باتجاه مآس من المرجح أن تفيض عن الحدود السياسية لسوريا. ومن ناحية أخرى، وفي ضوء الأهمية الاستثنائية لسوريا، لا تستطيع موسكو المقايضة على سوريا. ولذلك يبدو منطقياً وتحليلياً أن موسكو سائرة على طريق حل سياسي ترعاه هي، بحيث تجنّب سوريا ضربة عسكرية أو تقسيما جغرافيا – طائفيا، وكلاهما سيكون وبالاً على المنطقة في كل الأحوال. الأرجح بعد سماع المداخلات وتحليل اللغة الديبلوماسية الهادئة، الذكية وغير المباشرة، أن روسيا التي دعت قبل أيام قليلة إلى مؤتمر دولي حول سوريا يضم الأطراف المعنية إقليمياً ودولياً (لم يلق اهتماماً إعلاميا وسياسياً يتناسب معه)، تسير في اتجاه حل يحفظ سوريا من ضربة عسكرية وتقسيم، وفي الوقت نفسه يعطي الشعب السوري حقه في الحرية والكرامة، ويضمن عملية سياسية تنتهي بانتقال سلمي للسلطة وبضمانات دولية. في هذه الحالة ومع احتفاظ «سوريا ما بعد الحل» بالخطوط الأساسية لسياستها الإقليمية، تكون موسكو قد حرمت المنتظم الإقليمي – الدولي المناوئ لها من جني مكاسب سياسية ومنعته من تعميم السمة المشتركة الأساسية للتغيير السياسي في دول «الربيع العربي» – إحلال الديكتاتوريات المدنية بحركات ذات طابع أيديولوجي متشابه – على سوريا أيضاً. ومن شأن نجاح هذا السيناريو تحقيق نتيجتين، واحدة إقليمية والأخرى دولية. تعني الأولى الإقليمية تغيير كامل مسار «الربيع العربي» في السنة والنصف الماضية، إلى وجهة جديدة تعترف للشعوب بحقها في الحرية والكرامة، ولكنها لا تقلب التوازنات الإقليمية والدولية الراهنة. أما الثانية الدولية فتعكس سعياً روسياً واضحاً لتحدي النظام الدولي الأحادي القطبية وتراتبيته الراهنة. طبيعي أن حلاً/ سيناريو كهذا سيواجه بعراقيل جدية ومتنوعة من أطراف المشكلة، ولكن روسيا تبدو، على الأرجح، في طريقها في الفترة القريبة المقبلة لتصبح «عرابا للحل» في سوريا ضمن الإطار والمقتضى الوارد أعلاه.
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية – القاهرة.
السفير