زوارق مطاطية ومتاحف مدمرة وإحراق كتب.. الثقافة المستقيلة/ اسكندر حبش
أينما نظرنا، وكيفما نظرنا اليوم، يبدو المشهد قاتماً. دمار يلفنا من كلّ حدب وصوب. نعيش في «حقول من القتل» الذي لا يتوقف. دماء تسيل في الشارع، تحيل الأنهار إلى اللون الأحمر، ونحن في مكاننا نتسمّر أمام الشاشات نشاهد عمليات الإعدام والحرق والذبح بأحدث الوسائل والتقنيات. أطراف بشرية مقطعة، ورؤوس تتدحرج على الطرق.
هذا ما آلت اليه شعوبنا. لا شيء سوى صورة في صحيفة يومية، أو فيلم قصير التقطته كاميرا الهاتف، تظهر امرأة تندب أو رجلاً ينوح فوق ركام أو طفلاً يبكي بحثاً عن والديه. لا شيء أكثر من هذا. صورة، ومن ثم خبر يضم بعض التفاصيل، ليطلعنا على المأساة. وكلّ يوم هناك مأساة جديدة. لذلك، لا داعي للإطالة ولا داعي لكثير الكلام، ما دامت الكلمات لن تغيّر شيئاً، وما دامت الصورة، لا تثير فينا سوى حزن صغير عابر، ولفترة قصيرة مندثرة. كأننا «نوفر» أحزاننا لأشياء أخرى، نعرف أنها ستأتي. أي نعرف أن مآسي أخرى، ستظهر غداً وربما في الشهر المقبل أو العقد المقبل وحتى القرن المقبل. لا شيء يقول لنا العكس. لا شيء يقنعنا أن عصر التراجيديات الإغريقية ولّى وانتهى. لا يزال حاضراً فينا. لا زلنا نعيشه.
هذا ما أصبحناه للآسف. نقرأ الخبر. ونحاول ان نطرد دمعة على سبيل المثال، أو فكرة أو لعنة على هذا الكون. ما نفع ذلك، ما دامت كل هذه الأشياء لن تنفع في أي شيء.
ما النفع ونحن ما زلنا نعتقد أن باخرة «التيتانيك» لا تزال موجودة وستحملنا إلى المشتهى. نصعد بالمئات إلى تلك المراكب المطاطية التي لا تحمل في العادة أكثر من عشرات قليلة. و «نكتشف» أن لا صالة «للروليت» هناك، ولا ثريات كريستالية ولا عطور نسائية من أجل قصة حب مقبلة. في أي حال، ليس هناك من مخرج هوليوودي، يهتم بفقراء «العالم الثالث» ليصور فيلماً. مئات يحلمون بأشياء بسيطة: طعام وحياة وفكرة عن «حرية» غير محددة المعالم. الأمر الوحيد المحدد: اختيار الغرق والموت.
لا لسنا أمام فيلم سينمائي، ولا نقرأ بالطبع رواية من روايات الخيال العلمي. كل ما نراقبه، يحدث فعلاً في الواقع، يحدث في القرن الواحد والعشرين. يحدث في عصر ما بعد الحداثة والاكتشافات العلمية والإنسانية الكبرى.
غروب الإنسانية
هل استعملت كلمة إنسانية في جملتي السابقة؟ قد تكمن المسألة برمتها في هذه الإنسانية التي تشرف على الغروب مثلما يبدو. لنقل إن ثمة إنسانية تنتهي اليوم حاملة معها نهايات كثيرة: نهاية تاريخ كان لا يزال معروفاً إلى الأمس، نهاية فكرة عن تسامح اعتقدنا أنه موجود بيننا، لكنه عملياً لم يكن سوى وهم من أوهامنا الكثيرة. هي أيضاً نهاية جغرافيات وبلدان وربما اندثار شعوب وقوميات وإتنيات وحتى طوائف. الرعب لم يعد موجوداً في الآخر فقط (على الرغم من كل مشروعية الخوف منه إلى الآن). الرعب الحقيقي ينبع من داخل كل واحد منّا. نخافنا أكثر ممن نخاف من أي شخص آخر.
هل يحمل كلامي أي تشاؤم؟ بالتأكيد لا أخترع شيئاً، فقط أحاول أن أصف. فكلّ التوصيفات محتملة وممكنة، بالأحرى ليست سوى توصيفات حقيقية. وبين ذلك كلّه نحاول أن نبحث عن «استراتيجية ثقافية». ثمة سؤال لا بدّ أن نجده ينبثق من ذلك كله: ماذا تعني لنا بعد كلمة ثقافة وفي هذه اللحظة بالذات، في هذه اللحظة التي نقف فيها على مفترق الكثير من الأشياء. بمعنى آخر، كيف علينا أن نحدد مفهوم الثقافة، ما هي الثقافة التي علينا أن نتحدث عنها؟
أشياء الثقافة
هل المقصود بكلمة ثقافة، هذه الأشياء «الصغيرة» التي «نتخانق» عليها؟ أقصد ماذا يعني بعد أن نناقش مفهوم قصيدة النثر والتفعيلة والعمود الشعري في زمن نُعلَّق فيه كلّنا على العمود؟ هل الثقافة هي فقط لوحة تجريدية تنافس لوحة انطباعية، بينما اللوحة الوحيدة اليوم هي واقعية الخراب المتنقل باسم الدين تارة، وباسم القومية طوراً، وباسم الطائفة والمذهب في كثير من الأحيان.. ماذا يمكن لنا أن نقول عن التراث والحداثة وما بعد الحداثة والهوية وما شابه من أسئلة تلهّينا بها منذ عقود، بينما حركية الواقع تكمن في مكان آخر، هو هذا المكان المعلق الذي يبدو خارج الزمن وخارج الحياة. بالتأكيد لا اقصد في كلامي هنا الإيمان الأسمى. بالنسبة إليّ جميلة هي فكرة الله من حيث أنه عدل ومحبة ورحمة ورأفة، لهذا لا أتوقف مؤخراً عن التساؤل لماذا حولناه إلى سيارة مفخخة، وإلى حزام ناسف. هذا هو السؤال الأساسي الذي يشغلني والذي يشكل بالنسبة إليّ سؤالاً ثقافياً بامتياز، بالمعنى الأكبر لكلمة ثقافة.
لنعد إلى زمن قريب نسبياً. كل الأسئلة التي طرحها المفكرون والمتنورون منذ عصر النهضة إلى اليوم، لا تزال أسئلة معلقة، لم نجد عليها جواباً واحداً، وحتى لو وجدنا هذا الجواب، أبقيناه مستوراً، مهمشاً، لا نملك الجرأة في إعلانه. بقينا نوارب بداعي الخوف. لا أعرف إن كان ذلك بداعي الخوف من الله أم من الذين صادروا قراره على الأرض وبدأوا يتكلمون باسمه، لدرجة أنهم تحولوا إلى آلهة. المشكلة أيضاً – وعلينا أن نعترف بذلك – أن الكثير من «عمّال» الثقافة وروادها و «قادتها»، يبدون أكثر عنفاً من أولئك الذين يحاسبون ضمائرنا على أشياء قبل أن نفكر فيها حتى. بهذا المعنى لو كانت ثقافتنا حقيقية وفعلية، لما كنّا وجدنا – ربما – هذا العنف المستشري. علينا أن لا نحيل العنف إلى الدين وحده، بل علينا أيضاً أن نجد جذور هذا العنف عند الكثير من المنظرين والمفكرين.
التباسات
كل شيء بقي في التباسه. لسنا، في الحصيلة النهائية، سوى كائنات تاريخية ملتبسة، تحاول العيش في ثقافة ملتبسة. ولأننا نحيا هذا الالتباس المستمر منذ أن تكونت ثقافتنا، أو ربما منذ أن وعينا أننا نشكل – مجتمعين ـ «وحدة» ثقافية ما. لهذا قد يكون علينا اليوم أن ننطلق من هذه النقطة بالذات، أي أن نعيد التفكير، لا فقط، بشأن الثقافة وبشأن استراتيجياتها المتنوعة، بل علينا قبل ذلك كلّه أن نعيد التفكير بإنسانيتنا. هذا هو السؤال الثقافي الأهم الذي يتبدى لي في هذه اللحظة بالذات، قبل أن نتحول إلى كائنات منقرضة تُعرض رفاتها بعد آلاف السنوات في المتاحف.
هل قلت متاحف؟ فكرة مضحكة بالطبع. المتاحف تُدمر اليوم، كذلك المزارات، وأمكنة العبادة، والآثارات.. كلّ شيء يسقط باسم جنون البعض ممّن يدَّعون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة. الحقيقة الوحيدة. لا يمكن لأي واحد منّا، إن سلّمنا بجدلية الثقافة، أن يدَّعي أنه يملك الحقيقة كاملة. الثقافة كما يجب أن نفهمها ـ وأعتقد ذلك ـ هي مشروع لا يتحقق إلا بقبول الآخر. إلا بالذهاب إليه وبالسماح له أن يقترب منك. الأفكار ليست مقدسة، بل هي قابلة للنقاش. من هذا النقاش علينا أن ننطلق لصوغ رؤى ولصوغ استراتيجية تجمع أكثر مما تفرق. وبين ذلك وهذا، ما زلنا في هذه اللحظات نشاهد ما يحصل من على الشاشات، وكأن ما يجري يحدث على كوكب آخر. نهز رؤوسنا ونصمت. بانتظار لا أعرف ماذا. هذا الانتظار ليس عجزاً، بل هو بسبب استقالتنا نحن من ندّعي أننا نقرأ ونكتب، من ندعي اننا داخل الشأن الثقافي. لهذا من أولى اولوياتنا في هذه اللحظة بالذات، أن نعيد التفكير بما يجري، وأن لا نصمت.. وإلا سيكون الصمت الأبدي.
السفير