صبحي حديديصفحات الثقافة

محاسن الصدف و… ملياراتها!/ صبحي حديدي

 

 

قبل أسابيع قليلة كان عالم آثار فرنسي يتجول، كعادته كلّ أسبوع، في سوق شعبي، في بلدة ساربورغ، شرق فرنسا. وحين توقف، كالعادة المزمنة أيضاً، عند بائع أنتيكات، شدّ انتباهه حفر على نحاس يمثّل مريم العذراء وطفلها يسوع، وملاك يتوّجها، في غمرة هالة من ضياء فائق. لم يتردد الفرنسي في شراء العمل، بحفنة قليلة من اليوروهات، لكي يكتشف ـ بعد العودة إلى البيت، وتفحص العمل جيداً ـ أنّ ما بين يديه يساوي ذهباً، وليس نحاساً؛ لأنه ببساطة واحد من سلسلة أعمال ثمينة بعنوان «مريم يتوجها ملاك»، لفنّان عصر النهضة الألماني الأشهر ألبريخت دورر (1471ـ 1528).

اللوحة ظلّت مفقودة منذ سنة 1520، ولا أحد يعرف كيف ساقتها الأقدار إلى ذلك البيت، سنة 2016، الذي اشترى البائع الجوال بعض محتوياته من اللوحات والزخارف وقطع الأثاث؛ لكي تنتهي، أخيراً، بين يديّ عالم الآثار الفرنسي. أخيراً، ولكن ليس آخراً في الواقع، لأنّ الرجل أبى الاحتفاظ بالقطعة، وأبى أن يتاجر بها أيضاً؛ فكان أن سافر، على نفقته الشخصية، إلى شتوتغارت، في ألمانيا، وسلّم العمل إلى متحف المدينة. مبهج، أكثر، في هذه الحكاية المبهجة، أنّ المواطن الفرنسي ظلّ مصرّاً على إغفال هويته؛ ربما لإيمانه بأنّ سلوكاً حضارياً كهذا يتوجب ألا يقترن بأي مثوبة، حتى على مستوى الإشهار الشخصي.

والحال أنّ هذه الحكاية تندرج في جمهرة من المفاجآت السارّة التي تروي وقائع العثور على أعمال فنية، كانت ضائعة غالباً، أو كان بعضها ملتبس الأصول، حتى اكتشفتها أعين خبيرة. في النمط الثاني من هذه الحكايات، ثمة منحوتتان من البرونز، تمثّل كلّ منهما فارساً على صهوة نمر؛ ساد شكّ طويل في أنّ خصائصهما، من حيث متانة البنية ودقة التفاصيل وبراعة النحت ولغة الجسد، تنمّ عن فنان كبير عالي المراس… حتى حانت اللحظة السعيدة، في سنة 2015، حين اكتُشف تخطيط يطابق المشهد، بريشة الفنان الإيطالي مايكل أنجلو بوناروتي (1475ـ1564)، أثبت بما لا يقبل الشكّ أنه صاحب المنحوتتين.

وفي سنة 2012 كانت مصلحة الضرائب في أوسبورغ، قرب ميونخ، في ألمانيا، تصادر بعض محتويات شقة، على خلفية التهرّب الضريبي؛ حين تمّ العثور على 121 لوحة مشدودة على إطارات، و1285 لوحة أخرى مطوية، في عدادها أعمال لأمثال كلود مونيه وبيير ـ أوغست رينوار وهنري ماتيس وفرانز مارك وبابلو بيكاسو ومارك شاغال وأوتو ديكس وماكس ليبرمان وآخرين… كان صاحب الشقة هو كورنيليوس غورليت، ابن مؤرّخ الفنون وجامع اللوحات الشهير هيلديبراند غورليت؛ وكانت المجموعة تنتمي، كما اتضح بعدئذ، إلى تلك الحقبة التي شهدت تهافت الضباط النازيين على نهب اللوحات الثمينة، من فرنسا بصفة خاصة، ونقلها إلى ألمانيا. أمّا قيمة الأعمال الإجمالية ـ التقديرية فقط، في الواقع، لأنها لم تُعرض في مزاد ـ فقد بلغت… 1.4 مليار دولار!

حكاية رابعة، تخصّ الفنان الهولندي فنسنت فان غوخ (1853ـ1890)، وقعت سنة 2013، حين عُثر على لوحة له، بعنوان «غروب في مونماجور»، رُسمت في بلدة آرل الفرنسية، وتعود إلى سنة 1888. أقدار هذا العمل تقلّبت طويلاً، حين ارتاب شاريها الأول، الصناعي النرويجي كريستيان نيكولاس ماشتارد، في أن تكون مزيفة، فألقى بها في السقيفة. ولسوف يستغرق التحقق من أصالتها سنوات عمل شاقة، وعلى دفعات، حتى حسم متحف فان غوخ في أمستردام صحة نسبة اللوحة إلى الفنان الهولندي الكبير. وعنه، أيضاً وختاماً، حكاية خامسة، هي المفضّلة عندي شخصياً: لوحة، زيت على قماش، غير موقّعة، وغير معنونة، صغيرة الحجم (12X14 بوصة)، تصوّر فلاحة فرنسية عابسة، متوسطة العمر، ترتدي قلنسوة بيضاء.

كانت اللوحة ملك الرسام الياباني كازوماسا ناكاغاوا، الذي توفي في عام 1991، وكان يهوى جمع اللوحات إلي جانب كونه أحد أبرز رسّامي بلاده. وحين قررت إحدى دور المزاد اليابانية بيع مقتنيات ناكاغاوا، قُدّرت اللوحة الغامضة بمبلغ يقلّ عن 90 دولاراً. أحد العاملين في المزاد راوده الشكّ في أن تكون اللوحة أصلية، وأن يكون صاحبها فان غوخ… دون سواه. وهكذا أُرسلت اللوحة إلى متحف فان غوخ في أمستردام، لتُعرض على الخبراء هناك؛ وبعد فحص وتدقيق جزم المتحف بأنّ العمل أصلي بالفعل، وهو بريشة فان غوخ، ويعود إلى العام 1885، أي قبل خمس سنوات من انتحار الفنان الكبير. بالطبع، قفز سعر اللوحة من 83 دولاراً إلى 550 ألف دولار! الأكثر إثارة أنّ فان غوخ، وجرياً على عادته، كان مستعداً لبيع هذه اللوحة مقابل قبلة واحدة من الفلاحة صاحبة البروفيل، أو من أيّ أنثى؛ ولم يفلح!

محاسن صُدَف، كلّ هذه الحكايات، تخدم الحفاظ على دُرَر التراث الإنساني؛ مع فارق فريد، بالطبع: أنها محاسن صدف، تُثمّن بالمليارات!

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى