سارية الرفاعي:عن الأشعرية والسلفية ومعضلة الثورة السورية/ عقيل حسين
ذهب الداعية السوري الشيخ سارية الرفاعي، خلال تعليقه على المواجهات الأخيرة في الغوطة الشرقية، بين “جيش الاسلام” السلفي و”فيلق الرحمن” الأشعري، إلى القول إن “السلفية يكفرون الأشاعرة”.
مفاجئ أن يصدر هذا الكلام عن الشيخ الرفاعي، أحد مؤسسي “المجلس الاسلامي السوري” المعارض، وهو الذي وصف في حزيران/يونيو 2013، “جبهة النصرة” بأنها جماعة سلفية معتدلة. تصريح الشيخ سارية، حينها، جاء في سياق الحديث عن موقف علماء الدين في حلب من الثورة، وعدم مساندة غالبيتهم للحراك الثوري، حيث تطرق في إجاباته إلى قضيةُ تخوف علماء حلب وسوريا بشكل عام، من هيمنة الفكر السلفي على قوى المعارضة العسكرية.
الرفاعي، أحد أبرز علماء دمشق ومن رموز التيار الأشعري فيها، وهو التيار الديني الشعبي العام للمسلمين السنة السوريين، لم يكن بحاجة وقتها لمن ينبهه إلى هذه النقطة، فهو أكثر من يعرف حقيقة الصراع الفكري بين التيار السلفي والتياري الأشعري، لا على المستوى المحلي، بل وحتى تاريخياً، ومع ذلك عبر عن تفاؤله، بعد لقائه بعدد من قادة “النصرة” وغيرها من الجماعات السلفية، كما قال.
لكن هذا المستوى المتقدم من الطمأنينة تجاه التيار السلفي، والانفتاح الذي عبر عنه الشيخ سارية في ذلك الوقت، ودعوته المترددين من علماء الدين السوريين إلى عدم المبالغة في التوجس من التيار السلفي، وحصره مجمل الخلاف معه في قضية القبور والمزارات، لا يبدو أنه على الدرجة ذاتها من الرضا الآن!
والحقّ أن الشيخ سارية، سليل العائلة الشامية التي تعتبر من أركان المذهب الأشعري في العصر الحديث، في جملته الأخيرة: “السلفية يكفرون الأشاعرة”، من التعليق الذي أزيل لاحقاً من الانترنت، كان يتحدث “من الآخر” كما يقول السوريون.
فالشيخ المولود عام 1948 في دمشق، والذي اضطر للتنقل والعيش في أكثر من بلد عربي واسلامي بعد مغادرته سوريا لأسباب سياسية عام 1981 حتى عام 1993، لديه من العمر والاطلاع والاحتكاك، ما يكفي ويفيض من تفاصيل هواجس ومآخذ وحساسيات كل مذهب تجاه الآخر، منذ ما قبل ابن تيمية والعز بن عبد السلام، حتى اليوم.
فالسلفي، لم يكن يرى في التيار الاشعري المسيطر على الطيف السني بشكل عام، سوى تيارٍ يستقوي دائماً بالسلطة ويقويها في الوقت ذاته، من أجل الاستمرار في الهيمنة على المجتمع، ومواجهة كل ما يهدد مكانة ومركزية علماءه ورجالاته.
موقف سلفي تنكب على الدوام مظلومية ابن تيمية الذي تعرض للسجن والاضطهاد في مصر ودمشق خلال فترة الحكم المملوكي، ومعاناة محمد بن عبد الوهاب في نجد لاحقاً، للتأكيد على أن حرب الأشاعرة ضده لم تتوقف يوماً، بل استمرت دائماً بلا رحمة ولا هوادة كما يقول السلفيون، الذين يتهمون خصومهم بالتسبب في الزج بالمئات من شباب التيار ورموزه في سوريا بالسجون والمعتقلات.
في المقابل، لم يتوان علماء ومشايخ التيار الأشعري، خاصة الصوفيين منهم، عن السعي للتحذير من الفكر السلفي ومواجهته، بسبب الخلافات الفقهية العميقة بين المدرستين، والتي يسميها الأشاعرة غلواً وانحرافاً، بينما يعتبر السلفيون أن الأشاعرة منحرفون ومرجئة وأهل بدع وشِرك.
لكن كل ذلك لا يعني سوى جدل فكري كما يقول الأشاعرة والصوفيون، وهو جدل لا يعيب، ولم يكن ليدفع نحو كل هذه السلبية من بقية التيارات ضداً على السلفية، لولا توسعها في التكفير وإباحة استخدام العنف ضد المخالفين بتأويلات فقهية خطرة، ما يجعلها تتجاوز مسألة الخلاف العادي كما يؤكدون.
لكن هل يبدو منطقياً القول إن الشيخ سارية الرفاعي، كان يحتاج إلى كل هذا الوقت ليكتشف ما اكتشفه أخيراً، وفقط عندما تعلق الأمر بفصيل “فيلق الرحمن” الذي يدعمه ويؤيده “المجلس الإسلامي السوري” وعموم مشايخ دمشق الذين وقفوا مع الثورة. أم أن الشيخ بالفعل كان كمن انفجر في النهاية بعد صبر وتراكمات؟
يقول مؤيدو الرفاعي، إنه وعموم التيار الإسلامي السوري، تعاملوا بانفتاح كبير مع السلفيين خلال كافة مراحل الثورة، بدليل موقفه المشار إليه أعلاه، والذي لا يعدو أن يكون سوى موقف واحد من عشرات المواقف الايجابية النظرية والعملية، والتي لم يقابلها السلفيون إلا بشكل سلبي.
ويضيف هؤلاء، إن آخر ما كانوا يتوقعونه هو أن يتصرف “جيش الإسلام”، الأكثر اعتدالاً في التيار السلفي على الساحة السورية، بهذه الطريقة ضد الآخرين في دمشق وريفها، بدءاً من القضاء على “جيش الأمة” المحسوب على الجيش الحر، مروراً بالتضييق على “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام”، المدعوم من “الإخوان المسلمين”، وانتهاءً بـ”فيلق الرحمن”.
ويرى هؤلاء، أن “جيش الإسلام” لم يتوقف فقط عند محاولاته السعي لانهاء القوى العسكرية المدعومة من التيار الأشعري أو غير المصنفة، بل تعداها كذلك إلى العمل على نشر رؤيته الفقهية وفرضها بالقوة في مناطق تواجده. وهذا ما تبدى واضحاً من خلال تضييقه على “الهيئة الشرعية للغوطة الشرقية” وتهميشها، بالإضافة إلى غرس فكر تكفير الأشاعرة في صفوف منتسبيه، وهو آخر ما كان يمكن توقعه وتقبله من “جيش الإسلام”.
وعلى عكس مناصري “جيش الإسلام” والمدرسة السلفية العلمية التي ينتمي إليها، الذين شنوا هجموماً عنيفاً على الشيخ سارية وفكر والده الشيخ عبد الكريم، وشقيقه الشيخ أسامة الرفاعي، تعامل رموز المدرسة وقادة “جيش الإسلام” مع تصريح الرفاعي بحرص أكبر.
فالشيخ عدنان العرعور، أحد أهم وجوه المدرسة السلفية العلمية اليوم، اعتبر تصريح الشيخ الرفاعي أنه عار عن الصحة، وطالبه بالتراجع عنه، محذراً من أنه لمثل هذا التصريح نتائج سلبية.
وأضاف العرعور في حسابه في “تويتر”: “إن كل من يكفر الأشاعرة هو ضال مضل، وكل من يتهم الآخرين بغير دليل فهو جاهل أو فتان، وإلا فليأت بدليل”.
والدليل الذي طالب به العرعور، المقيم في السعودية منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي يعتبر أنه وريث منهج الشيخ الألباني، أحد مجددي المدرسة السلفية النجدية “الوهابية”، عاد وطالب به الشيخ سعيد درويش، أحد شرعيي “جيش الإسلام”، خلال كلمة له بحضور “الهيئة الشرعية لجيش الإسلام” في الغوطة.
لكن الشيخ درويش استخدم لهجة أخف في رده على الرفاعي من لهجة العرعور، حيث بدا معاتباً أكثر منه منتقداً، وأعلن أنه، وكل شرعيي “جيش الإسلام”، مستعدون للقسم على أن الجيش لا يكفر الأشاعرة، متهماً بعض المتنفذين في “الهيئة الشرعية للغوطة الشرقية”، التي يسيطر عليها “فيلق الرحمن”، بنشر هذه الاشاعات.
واذا كان شرعي “جيش الإسلام” قد اكتفى بذلك، بعد التذكير بأن الجيش لم يتوان عن التصدي لتنظيم “الدولة”، المصنف سلفياً، وطرده من الغوطة بسبب نهجه التكفيري، وبالتالي فإنه لا يجب التعميم على تيار كامل بسبب وجود منحرفين فيه، فإن الشيخ ابراهيم الحسون، عضو أمناء “المجلس الإسلامي السوري”، حاول التوسع في هذه النقطة بشكل أكبر، في إطار سعيه لرأب صدع يتسع أكثر فأكثر.
الحسون، وفي مقال له بعنوان “أعيدوها سيرتها الأولى”، رأى أن تعميم الرفاعي على عموم السلفية خطوة غير موفقة، وإلا لصح نسبة كل مواقف مفتي النظام، أحمد حسون، الأشعري للأشاعرة، وكذلك نسبة تزكية البوطي قوات النظام لعموم التيار، حيث يعتبر الأخير من أبرز منظري التيار الأشعري في هذا الزمن، كما قال، إضافة إلى المئات من المشايخ الأشاعرة الذين ما زالوا في صف النظام.
الحسون وفي مقاله الذي كرر فيه أن السبب في ما آلت إليه الثورة اليوم، من تفرق في الصف وفوضى في الفكر، واضطراب في المواقف، يعود لانتشار التقسيم الفكري والتصنيف الديني، الذي يعتبر أسوأ ما قامت به الفصائل على حد قوله. ورأى الحسون أنه “كما لا تصح نسبة كل هذه المصائب المذكورة للمذهب الاشعري، باعتبارها تصرفات أفراد ومواقف خاصة، ليست حاكمة على المذهب بأكمله، فإن نسبة أخطاء تقع من جيش الاسلام، أو من جماعة منسوبة إلى السلفية، كداعش، لعموم المذهب السلفي بأكمله، لا تصح أيضاً”.
وإلى جانب تساؤله الملح “كيف يمكن للشيخ سارية الرفاعي اتهام السلفية بشكل عام بمثل هذا القول، في الوقت الذي يقاتل فيه فيلق الرحمن، الذي جُر جراً ليكون أشعرياً بعد أن كان جيش حر، إلى جانب جبهة النصرة السلفية، ضد حيش الاسلام؟”، فإن الحسون طالب بعودة الجميع إلى مفهوم الجيش الحر، بمعتقده الفطري البعيد عن الخلاف، لمنع الاقتتال المبني على التوجه الفكري أو العقدي.
لكن إلى أي حد يبدو ذلك ممكناً اليوم، يتساءل الكثيرون، بعدما تسلقت كل الأطراف تقريباً شجرة التصنيف والتقسيم العالية، والتي تمتد جذورها إلى مئات السنين، ثم وجدوا أنفسهم جميعاً عالقين في قمتها، لكنهم مع ذلك، لم يكتفوا بأنهم أهملوا البحث عن سلُم آمن للنزول، بل راحوا يتحاربون من أجل الاستحواذ على هذا المكان الضيق والمتعالي كلياً عن أرض الواقع، حيث تحت هذه الشجرة، يعيش مئات الآلاف، كما كانوا دائماً، غير آبهين بهذه المفاصلات والتقسيمات. بل زد على ذلك اليوم، أن لديهم ما يكفي ويزيد من المعاناة ليشغلهم عن ذلك الترف القاتل.
المدن