سايكس-بيكو-بوتين/ مازن عزي
تدخُلُ روسيا الحرب السورية، من باب دعم النظام السوري وتثبيته، ومحاربة جميع معارضيه، باستثناء “الدولة الإسلامية”. التدخل العسكري الروسي، بآلاف الجنود والترسانة الحربية المنقولة بحراً وجواً، يعيد الزمن إلى الحقبة الكولونيالية، والوصاية الخارجية. كما أنه يثير أسئلة تتعلق بحدود التدخل، وإمكانيات التقاسم للجغرافية السورية، بعد تقاسم سمائها.
لطالما كان انهيار الدول، مدخلاً للتدخل الخارجي، وفرضاً للتحاصص الجغرافي، وتقاسماً لمناطق النفوذ. شهدت السلطنة العثمانية، ذلك الأمر، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وخروج دول المحور كخاسرين. حينها رسمت اتفاقية سايكس-بيكو-سازانوف بين فرنسا وبريطانيا، باشراف روسيا القيصرية، حدوداً أولية، لتقسيم المشرق بينهما. وكان دور المندوب الروسي سازانوف هو الإشراف على المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا، والذي فضحته لاحقاً الحكومة البولشيفية في موسكو.
الفترة الكولونيالية، التي عاشها المشرق بين العامين 1919-1945، كانت في أحد وجوهها، فعلاً خارجياً لمنع الثورة العربية الكبرى من توحيد العرب تحت راية الهاشميين. بدا ذلك حينها كتفصيل هامشي، في ظل انعدام التوازن بين ضعف الفعل السياسي العربي وشهية الدول المنتصرة في الحرب الأولى، لفتح الأسواق والحصول على مصادر المواد الأولية. كما أن المجتمعات العربية، كانت غارقة في زمنها التطوري الخاص ولم تكن تعرف أنها على موعد “عنيف” مع الحداثة.
بدورها، الثورة السورية لم تتمكن – بعد أربعة أعوام – من قلب النظام، واستعصت في متاهات الفصائل الجهادية الإسلامية. الالتباس تجاه الثورة السورية، وعدم الإعتراف العالمي بها كحركة تحرر من الاستبداد، بسبب أسلمتها، تسبب في تحجيمها، وزيادة أسلمتها. ومع مرور الوقت، ازداد أعداؤها، حتى من الإسلاميين، فأصبحت “الدولة الإسلامية” أحد أشد الأخطار المحدقة بها.
تحالف “داعش” والممانعة
من باب “الدولة الإسلامية” تقاسم الطيران الأجواء السورية. ويبدو بأن نطاقات النفوذ بين الدول الإقليمية والعظمي في الجو، ساهم في تشكيل حدود الجبهات على الأرض. إلا أن التدخل الروسي المباشر، قام بخلط الأوراق، وبات على غيره من الطيران أن ينسق الحركة المزدحمة في الجو. كما أن الطيران الروسي، الراسم لحدود النفوذ الروسية، أظهر شهية واسعة في مناطق عمل “جيش الفتح” المدعوم تركياً في أرياف إدلب وحماة واللاذقية. وفعلياً، يبدو بأن خلاف الروس المباشر هو مع تركيا، في السماء التي طالما أرادتها تركيا منطقة حظر جوي، وسيّر فيها “التحالف الدولي” طيرانه.
التدخل الجوي الروسي، في إدلب وحماة واللاذقية، يستهدف المعارضة المسلحة من غير “الدولة الإسلامية”، وبعضها مدعوم من برنامج التسليح الأميركي السري، الذي يزودها بصواريخ مضادة للدروع. ولهذا يتعرض التقدم البري من قبل قوات النظام، والقوات الإيرانية، رغم الغطاء الجوي الروسي، لخسائر كبيرة. الأمر الذي يجعل الحدود الجوية غير متطابقة مع تلك على الأرض. كما أن التدخل الروسي، قد يدفع ممولي الحرب لدعم المعارضة بمضادات جوية، تعيد التطابق بين الجو والأرض.
إلا أن ذلك، قد يتسبب في دفع روسيا، لمد تنظيم “الدولة الإسلامية” بأسلحة نوعية، ومعلومات عن عمليات “التحالف الدولي”. تعاون قد يبدو قريباً للواقع، في ظل ما يشاع عن “هارموني” بين التنظيم على الأرض والقصف الجوي الروسي، في حلب. افتراض كهذا، قد يجد طريقه للتحقق، فروسيا تنسق مع اسرائيل في الأجواء السورية، فماذا يمنعها من العمل مع “دولة الخلافة”؟
التنسيق الضمني القائم بين الممانعة و”الدولة الإسلامية”، قد ينقلب تحالفاً استراتيجياً. في الواقع، ما يجمع “دولة الخلافة” بإيران وروسيا، أكثر مما يفرقهم: عداء مزمن للديموقراطية وحقوق الإنسان، وحكم الطغم العسكرية الفاشية، وميل للهندسة البشرية القائمة على التهجير والتدمير. ما يجمع تلك الدول الشمولية، من عداء لجوهر الوجود الإنساني والحريات، والنقض لكل العقود الاجتماعية القائمة على التعددية والمساواة، هو المشترك الأصيل بينها.
الأرقام تقول، إن 6 في المئة فقط من معارك سوريا، كانت بين قوات النظام و”الدولة الإسلامية”، خلال العام الماضي. كما أن الأرقام تقول بإن “حزب الله” لم يخض معركة واحدة طيلة السنوات الماضية مع “الدولة الإسلامية”. والطائرات الروسية، قصفت مرة واحدة مدينة الرقة معقل تنظيم “الدولة” دون إصابة أي هدف عسكري.
تبدو “داعش” هي الحاجة الموضوعية لاستمرار محور الممانعة، كعدو “موضوعي”. فـ”الدولة الإسلامية” هي المعارضة “الصحية” التي يتمناها الكرملين، وهي الحلقة المفقودة لمحور الممانعة.
نهاية سايكس-بيكو
مشهد جرافات “دولة الخلافة” مطلع العام 2014، وهي تزيل مقاطع من الحدود العراقية-السورية، مازال حاضراً على الأرض. إعادة “توحيد” ما قسمته سايكس-بيكو، على يد “الخلافة”، كان بداية نهاية “الدول الوطنية”. دول تهافتت، وسقطت حدودها، مع انكشاف شرعيتها، وانهيار العقود الاجتماعية التي تأسست عليها. التدخلات الإقليمية والدولية ساهمت في تداعي تلك الدول، ونشوء “دولة” لقيطة، في الصحراء الشاسعة بين بغداد ودمشق.
واليوم يبدو بأن التدخل الروسي العسكري، أضاف عائقاً جديداً أمام إمكانية توحيد ما فرقته أربع سنوات من الحرب الأهلية. إلا أن القصف الجوي الروسي، بحسب تقديرات الخبراء العسكريين، يحتاج إلى 200-300 غارة يومياً، حتى يتمكن من تحقيق تغطية حقيقية لقوات النظام ومن يدعمها على الأرض. وهذا ما يفوق قدراته حالياً، بمعدل لا يتجاوز 60 غارة يومياً.
للتدخل الروسي الحالي، حدود، لكنه لن يتمكن من تغيير خرائط السيطرة على الأرض، بشكل جذري، إلا أنه سيشرّع عملياً، تقاسم الأرض السورية والعراقية، بين القوى الكبرى والإقليمية.
وإذا كانت سايكس-بيكو-سازانوف التي تمت بإشراف روسيا القيصرية، قد قسمت التركة العثمانية إلى أربع دول، فسايكس-بيكو-بوتين، قد تشرع عملية التقسيم، بفعل الواقع، إلى كانتونات طائفية وإثنية، تبدو معها حدود سايكس-بيكو ضمانة لوطن عربي كان ذات يوم.
المدن