سجل أنا شهيد – آية الأتاسي
آية الأتاسي
على هذا الطريق الشاق الذي نعبره من أجل الحرية نراهم يتساقطون أمامنا ….لا كأوراق خريف بل كزهور الربيع… و كأن للموت ذائقه مميزة تنتقي الأجمل و الأنقى والأشجع!
يلتحفون أكفانهم البيضاء، و في مراكبهم الخشبية يعبرون بحر المشيعين، يرقصون رقصة الموت الأخيرة على أنغام الحياة….. رقصة دائرية كرقصة الدرويش، في تحليق للروح حدود الله و لكن دون عودة ….فرحلة الشهيد هذه المرة هي رحلته الأخيرة للسماء. رحلة باتجاه واحد من دون إياب….فقط عندما يقترب موكب الشهيد من أم الشهيد يتوقف الشهيد عن الدوران و في سكون أشبه ما يكون باعتذار…. وبصمت يقول دون كلمات : يا أمي سامحيني… صمت طويل لا يقطعه إلا صوت رفاق الشهيد ينشدون: يا أم الشهيد زغردي له, هالشهيد دمه دين علينا! يختلط نحيب أم الشهيد بدموعها, و بزغرودة وجع أم, اقتلع قلبها من جسدها و حكم عليها بالبقاء في هذه الحياة!
كم هو ثقيل دين الشهداء ووجع أمهاتهم في أعناقنا, وكم هي غزيرة تلك الدماء التي ملأت شوارع سورية و ساحاتها حتى صارت بلاد غارقة في دماء و دموع أبنائها …مقبرة واسعة بلا شواهد و أسماء…الشهيد, فابن الشهيد, فأخت الشهيد, فجار الشهيد..يتعانقون جميعاً في قبر طويل و يغطون في موت جماعي واحد… يتقاسمون موتهم كما اعتادوا اقتسام حياتهم و أحلامهم!
كل مواطن هو شهيد أو مشروع شهيد قادم…لا شيء يحميه من قذيفة أو رصاصة طائشة أومتعمدة….كل الدروب تفضي للموت…..الموت شبح يحوم في كل مكان…في صف انتظار طويل أمام فرن الخبز أو محطة الوقود….في رحلة البحث عن القوت اليومي. أصبحت ملاحقة الموت عملية حتمية…..هل هو شهيد بالصدفة ذاك الرجل المسجى أمام دراجته و بقربه أنبوبة غاز و ربطة خبز دامية؟ و أين تبدأ الصدفة و أين ينتهي السبق والإصرار لعين القناص وإبهامه الذي يضغط على كل رمزية الحياة في رغيف خبز و أفواه جائعة تنتظر عودة الأب, الذي سقط قرب ربطة الخبز المنتظرة وأبداً لن يعود!
ألاف من الشهداء سقطوا منذ بداية الثورة السورية, ليسوا مجرد أرقام في إحصائيات منظمات حقوق الإنسان و في سجلات توثيق جرائم النظام , بل هم ألف قصة و قصة ببدايات و عذابات مختلفة و نهاية تكاد تكون واحدة في مأساويتها..وجوه كثيرة بتقاطيع وأعمار مختلفة…ورغم هذا أتخيلهم متكئين على بعضهم في حضرة حب الهي لا يمنح إلا للشهيد…وكأنهم سيستيقظون بعد قليل و يصبحون على وطن… أتخيلهم بعيون “صلاح صادق” الخضراوين و بابتسامة “أحمد كوسا” الفلسطيني و بقلب “مصطفى كرمان” العاشق و بثوب ملائكي أبيض كمرويل طالب الطب “ياسين الغوثاني”!
عيون صلاح صادق:
الكرز أحمر في صناديق على كتفيه وفي عينيه خضرة سهول الجنة…..لا يتدحرج الكرز إلا لتلتقطه يد طفل سوري من مخيم هنانو على الحدود السورية التركية…… قطار صغيرمن أطفال المخيم…قطار من بشر صغار تعلقوا بقميص صلاح الأحمر وعلى طول طريق الفرح…..توت توت توت على الحرية بدنا نروح…..توت توت توت يا صلاح لا تروح!
و لكن قطار صلاح القادم من السويداء باتجاه قلوب الأطفال الحزينة….توقف في حلب و لم يكمل رحلته…أصيب صلاح, سائق قطار الفرح بقذيفة واستشهد هناك…..و قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة في سيارة الإسعاف طلب من رفاقه ان يعملوا له زفة, لأنه لن يكتب له بعدها و هو ابن العشرين أن يزف و يصير عريسا …..دفن ابن السويداء القادم إلى حلب عند الحدود في قرية “أطمة” بعيداً عن أهله ومحبيه .
و في السويداء حكى الناس عن زفة عريس بعينين خضراوين و قلب من حرير…. زفة لوح فيها الناس بأغصان الزيتون الأخضر…و زغردت فيها الصبايا و بكت الأمهات عندما غنين: الموت و لا المذلة……زفة لعلع فيها صوت الرصاص و غاب عنها العريس!
ابتسامة أحمد كوسا:
هذه ابتسامة الأمل… هذا هو شعب المستحيل الفلسطيني …عائدون عندما تعود سوريه من جحيم الطغيان و مشكلة المخيم ستحل عندما تحل مشكلة حمص و داريا و درعا و ادلب و حماة…..هذه كانت قناعة أحمد ولأجلها عمل و من أجلها استشهد!
لا باسم “تحرير فلسطين” ستسحق الشعوب ..
أنا أحمد السوري …أنا أحمد الفلسطيني …جسدي هو الأسوار….فليسقط الطغيان!
لم يتقاسم الفلسطينيون مع السوريين الوطن و رغيف الخبز والحب فقط بل تقاسموا الوجع….تقاسموا سياط التعذيب في أبشع أجهزة الأمن، أكثرها قمعاً و توحشاً ” فرع فلسطين”….و لم يكن غريباً أن يشعرالفلسطيني السوري أن ثورة الحرية ثورته…..” واحد واحد واحد..سوري وفلسطيني دم واحد” هتف شباب مخيم اليرموك و سكبوا دمهم على أرض سورية ليلتحم الجرح الفلسطيني بالسوري حتى الرمق الأخير!
لم يكن في جعبة أحمد أكثر من مواد تموينية قليلة أراد بها كسر الحصار عن أهالي المخيم, عندما أصابته رصاصة القناص!
استشهد أحمد…أغمض عينيه نصف إغماضة و كأنه ما زال يحدق في وجه القاتل….و من ابتسامة فلسطينية ذابلة سال خيط طويل من الدم بطول الجرح الفلسطيني السوري معاً!
شيع أحمد في المخيم و دفن هناك ….لا كلاجئ غريب بل كبطل سوري بامتياز…..كتب رفاقه في وداعه: رحلت ورحلت معك كل الإبتسامات!
هل كان محمود درويش يتنبأ بأحمد حين كتب :
كان المخيم جسم أحمد
كانت دمشق جفون أحمد
قلب مصطفى كرمان:
مصطفى هو الجندي المجهول , شهيد المقاومة السلمية و أيقونة الثورة المدنية…..أحب مصطفى “مها” بصمت …. و تزوج حبيبته بصمت….عمل بصمت من أجل حلمه بسورية الحرة, سورية دولة المواطنة و المساواة والتعددية…..لم يكن ابن الطائفة التي ينتمي لها بل كان ابنا لحلمه الكبير!
في تمام الأسبوع الثالث من شهر عسله, في حي بستان القصر الذي أحبه وفي قلب مظاهرة سلمية …توقف قلب مصطفى عن النبض جراء قذيفة سقطت بين جموع المتظاهرين و مزقت قلبه….
مات مصطفى و لم يمت…
لم تلصق نعوة الشهيد في حي بستان القصر بل ألصقت نعوة الخوف التي كان يصدرها مصطفى مكانها…توقف قلبه و لكن ظل قلب مها ينبض بحبه, مها العروس الجميلة, التي صارت بعد أسبوعين لا اكثر من الزواج ” أرملة الشهيد”!
“من خلف ما مات “…و لمصطفى عشرات الأطفال الذين يزورون مدرسة بستان القصر كل يوم, تلك المدرسة التي عمل مصطفى لإنشائها لخلق بديل تعليمي و ثقافي للأطفال في ظروف الحصار و الموت…..استشهد مصطفى قبل افتتاح المدرسه و لكن اصدقائه أصروا على افتتاحها في الموعد المحدد….ومن هناك سيتابع الصغار اللعب و هم يهتفون ” كش ملك”!
للشهيد حلم و للحلم أجنحة لا تصيبها الطلقات….و شهيدنا، لا ما مات، زغردن له يا البنات!
مريول ياسين الغوثاني:
ياسين شاب من درعا, كان يدرس الطب في جامعة حلب……استشهد و هو يشيع شهيد!
ليست قصة موت عادية….هي قصة تتكرر كل يوم و في كل مدينة سورية و في كل زاوية و شارع….ياسين هو الشهيد المجهول دون تغطية إعلامية و دون صفحات تضامن ووداع…..
.كتبت لي صديقتي الحلبية الصغيره عنه كلمات مرتجفه و مبللة بالدمع:
” قالوا لي أن شابا من دفعتنا في كلية الطب استشهد…ترحمت عليه و أكملت طريقي …و كأن الموت حدث يومي اعتدناه و اعتادنا…أكملت يومي ببرود وعندما مررت قرب صورته في ممر الجامعة….تجمدت أمام الصورة و بكيت, بكيت كثيراً….لقد تذكرت وجهه الذي كان يبتسم لي في ذلك المكان بالتحديد…بكيت لأن الموت سرق وجهاً تعودت أن أراه ….و بكيت لأنني لم ابتسم له و لم اسمع صوته….لو كنت أعرف أنه سيموت, كنت قلت لهعلى الأقل مرحباً…..كنت ابتسمت له ابتسامه خجولة ….يا ياسين بكيت عليك, و أعدك أنني سأبكي عليك كثيراً عندما سأركض يوماً ممسكة بالحرية بكلتا يدي….سأخبرها عن شاب بمريول أبيض , سنه ثالثة طب…..كان يمشي في ممرات الكلية و يبتسم لي…..شاب بكفن أبيض, يمشي في ممرات الجنة و يبتسم! “
في حصة العملي …قرأ الأستاذ التفقد بالفئة العاشرة, سنة ثالثة طب بشري….عندما وصل لإسم ياسين الغوثاني ساد صمت مهيب…لم يجب أحد…..لحظات ثقيلة لم يقطعها إلا صوت خجول و بعيد: شهيد
لم يسجل الأستاذ لا حاضر و لا غائب أمام اسم ياسين بل سجل بكل بساطه شهيد و هو يمسح دمعة صغيرة بقيت عالقة في زاوية عينه لا تسيل!
خاص – صفحات سورية –
اللوحة للفنان السوري بشار العيسى