ســوريا تخــرج مــن شــعارات البعــث
خيري الذهبي
حين كان السوريون يهتفون في درعا: يا حمه نحنا معاك للموت، فيجيبهم أهالي دير الزور : يا درعا نحنا معاك للموت، ثم يصيح أهالي حمص: يا درعا نحنا معاك للموت، ثم يصيح أهالي السلمية: يا إدلب نحنا معاك للموت. كانوا يصيحون متخلين للمرة الأولى عن مناطقيتهم ومذهبيتهم وعزلتهم التاريخية، متخيلين وطناًً قادماً سوف يصير لهم.
ولكن، أفلم يكن هذا الوطن لهم قبل هذه القومات؟ الحق أقول: إن السوريين لم يكونوا واثقين من سوريتهم، ولم يكونوا راغبين في التخلي عن مناطقيتهم وعشائريتهم من أجل وطن لم يختاروه، ولم يصنعوه، ولم يكن الحزب الحاكم يهيئهم له، بل كانت شعاراته تقوم دائماً على تفضيل الأمة العربية الحلم، والقومية العربية من المحيط إلى الخليج على سوريا ودمشق العاصمة، فظلت سوريا شيئاً ينظر إليه على أنه حالة مؤقتة لا أهمية لعد الولاء لها. أما دمشق العاصمة الضرة المكروهة فهي مؤقتة سنتجاوزها يوماً كما تجاوزتها أجيال سابقة فجعلوا، أو جعلت عاصمتهم في القاهرة، أو استانبول، فكانت الدولة العربية، أو الإسلامية الكبرى شيئاً مريحاً أكثر من هذا الوطن الذي لا يحبه الحزب الحاكم، ولا الدولة القائمة بشعاراتها، ولا الشعب المرتبط في مناطقيته وعشائريته التاريخية، وربما كانت المذهبية شكلاً من أشكال العشائرية أكثر منها قناعات دينية، فالتدين الحق عموماً وعبر التاريخ نادر لا يجاوز معتنقوه الخمسة بالمئة، أما الآخرون فهم منتمون عشائرياً إلى عشيرة تسمى باسم هذا المذهب أو ذاك.
ولكنا، ولكنهم، ولكنهن يعيشون في هذا الإقليم الذي سموه لهم سوريا، ولم يكونوا قبلاً يعرفونه إلا بالاسم الغامض غير محدد الحدود بلاد الشام، ويلح السؤال، يلح ، ويلح، فمن يصنع الوطن إذاً، وهل ما يجري الآن في سوريا هو استدراك ما فشل البعث في إنجازه، أي صناعة الوطن المسمى سوريا.
ووعي السوريين لجيل مضى كان ضد فكرة هذا الوطن العجيب الذي لم يصنعه أبناؤه فيقررون حدوده وهويته وعقده الاجتماعي ليكون الوطن. صحيح أن الولايات المتحدة كانت بحاجة إلى حروب الاستقلال ضد بريطانيا في العام 1789 حتى تصنع الولايات المتحدة، ولكن الوعي الحقيقي بالوطن الأميركي وعقده الاجتماعي التراضوي صار بعد الحرب الأهلية التي تنازعتها فكرتا الانفصال والاتحاد، ثم وصلت إلى الاتحاد التراضوي الذي لم يلق تحدياً جدياً منذ ذلك الحين.
وصحيح أن فرنسا كانت بحاجة إلى الثورة البورجوازية لتتعرف بدءاً إلى هويتها، ثم إلى نابليون الذي سيدخلها إلى مطهر الموت في تلك الحروب العجيبة التي خاضها مختلعاً الشبان من أحضان نسائهم وأمهاتهم ليحاربوا في سبيل إسقاط الإقطاع وتمجيد البطل كما ظنوه وظن نفسه نابليون. هذا المطهر كما أعتقد هو الذي اقتلع الفرنسيين من غاسكونيا وبريتانيا وكورسيكا والألزاس ليجعل منهم فرنسيين.
أما في سوريا، فلم يتحقق لها لا حروب الاستقلال كالولايات المتحدة، ولا القائد الموحد الذي يقودها إلى تحقيق شكل من أشكال الخداع الذاتي بتسيد العالم فيتسيدوا على وطنهم متناسين الممذهبية والمناطقية واصلين إلى المواطنة ضمن الوطن التوافقي ذي العقد الاجتماعي الصريح بحيث يعرف الحاكم والمحكوم كل حدوده وحقوقه.
وكان من قدر سوريا أن أول من ذكرها بأنها سوريا بعد سنين من الضياع والتماهي في دولة مملوكية لا وجود للمواطن فيها إلا على أنه رعية ودافع جباية قد يسمونها جزية، وبالمناسبة كلمة جزية فارسية نقلها المسلمون عن التقليد الفارسي أو قد يسمون المدفوعات خراجاً أو مكساً، والمكس أيضاً كلمة لاتينية ليست بالعربية أصلاً، فالعرب والمسلمون لم يحددوا أبداً نظاماً ضريبياً واضحاً يحترم دافع الضرائب ولا يجعل من جيوب المواطنين خزينة السلطان.
وأخيراً جاء نابليون متنكراً تحت ثوب فاتح جديد هو ابراهيم باشا الذي خاطب الشاميين يسميهم بالسوريين مزيلاًَ عنهم غلافهم الديني والمذهبي ويعاملهم على أنهم مواطنون. هل قلت مواطنون؟ حسن، ربما كان إزالة القشرة الدينية والعشائرية عنهم واستدعاؤهم إلى الجندية على أنهم أبناء الأرض، ربما كانت هذه أول مرة يشعر فيها الشاميون بأنهم سوريون، ولكن الدواء الجديد مر فرفضوه بعنف، رفضوه في مناطق المذاهب المعتزلة في الجبال في سوريا ولبنان المعاصرين، وفي فلسطين قبائل أبو غوش الخ.
ومضى ابراهيم باشا ورجعت بلاد الشام إلى الشكل الهلامي لعلاقة الراعي بالرعية والرعية تعني أصلاً دواب الرعي ولا شيء آخر، أما السياسي فهو الراعي (كلكم راع وكل راع مسؤول عن دوابه، عفواً أعني رعيته).
وكانت هوجة في سوريا ضد الاحتلال الفرنسي يسمونها ثورة، ولم تصل في زعمي أبداً إلى معنى الثورة، وحصلت انتصارات هنا وهناك قوامها الأساسي الشجاعة والاستعداد للشهادة في المزرعة في السويداء، وفي جبل الزاوية وفي أكروم، الخ. ولكنه ظلت في قوامها الأساسي هوجات محلية لم تستطع أن تخلط الشعب في سوريا لتخرجه من مناطقيته وعشائريته فتصنع وطناً ومواطنين بعقد اجتماعي حقيقي، فلقد استورد جيل الآباء دستورا وقوانين كانت في معظمها أوروبية المنشأ مطعمة بقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، ولكن هل قام الوطن والمواطن؟! ثم كان الاستقلالان السوري واللبناني واللذان كان بطلهما الحقيقي الجنرال سبيرس سفير بريطانيا والذي كان من شروط سحب الجيوش الأجنبية منهما قبول الحكام الجدد بالإبقاء على الجيش والشرطة ومدراء الوزارات في أماكنهم وعدم تعريضهم لأية محاكمة أو طرد من الخدمة، هؤلاء الناس الذين كانت فرنسا قد بدأت تدريبهم وتهيئتهم ليكونوا حكام المستقبل.
ثم جاء البعث ، وجاء الإخوان، وجاء القوميون السوريون، وكانوا جميعاً في مانيفستوهم الأساسي ضد الوطن السوري بحدوده المعروفة حسب قرار للويد جورج واتفاقيات السيد مارك سايكس وبيكو. يا إلهي كم صرت أكره هذا التعبير لكثرة تكراره، ولكنه كان.
ونشأ جيل من الذين سيصبحون مواطنين سوريين وهم لا يؤمنون بسوريا إلا على أنها معبر لوطن تاريخي عرفوه من خلال ذواكر آبائهم وكتب تاريخهم × بلاد الشام، العالم العربي، العالم الإسلامي، الخ. وزاد من غربة هؤلاء الناس عن وطنهم الحكم العسكري وأجهزته الأمنية التي بالغت في استعراض قوتها فاغترب الناس عن الوطن ومفهوم الوطن إذ كانت الصحف المنادية بالبعثية والقومية تعاديه والحكم العسكري مطارد المواطن في كل مناحي حياته مغربّا للمواطن عن الوطن.
وانقسم الشعب إلى طائفتين، طائفة البعثيين والمرضي عنهم أمنياً ولهم كل منح الوطن ومكافآته، وطائفة اللابعثيين الذين كان عليهم أن يبحثوا لهم عن هوية فوجدوها في المناطقية والمذهبية والعشائرية، وفجأة قام ما يحق لكل منا أن يسميه حسب طريقته، ثورة، هوجة، هبة شعبية، الخ. وصار ابن دير الزور يحس بأنه سوري فيهتف محيياً الحوراني في أقصى الجنوب، وصار الحمصي يحيي الإدلبي في أقصى الشمال، وهكذا بدأ الشعب في سوريا يعي هويته ، ويعي مواطنيته ووطنه.
ترى، هل يحق لي ولمؤرخ المستقبل أن يقول إن سوريا الآن تبدأ وعي ذاتها وهويتها.
استدراك: أنا اعلن أني ضد الانقسامات المذهبية وأعلن أني ضد العرعور ومن ينادي بنداءاته، وأعلن أني ضد عاطف نجيب وما ارتكبه ولم يحاسب عليه حتى الآن، وأعلن أن ما يجري الآن في سوريا ستكون نتيجته بلا جدال في العام 2012 والذي سيكون من أهم نتائجه الصلح الكبير بين المواطن الذي أخذ يعي هويته، والوطن، بين السوريين متجاوزين العشائرية والمذهبة والمناطقية وسوريا التي لن يكون لنا وطن سواها بالمدى المنظور.
(روائي سوري)