ســوريا حيّــة رغـم كـل شــيء
صهيب عنجريني
بخطى قصيرة وسريعة، تتقافز ابنة العاشرة بين المارَّة القلائل في مثلِ هذا الوقت، عارضة بضاعتها من الورود عليهم، فيما يعبر سريعاً صوت طائرةٍ حربيَّة، من دونِ أن يطغى على صوت فيروز المنبعث من خلف أحد الأبواب متداخلاً مع أصوات تفجيرات وقذائف. هكذا يبدو المشهدُ صبيحةَ يومٍ آذاريٍّ من العام 2013 في شارع «القشلة» الشهير بحي باب توما الدمشقي. صحيحٌ أنَّ المكان قبلَ عامينِ من الآن كان أشدَّ حفاوة بالحياة، لكنَّ الدَّم المسفوك لم يُفلح في الاستئثار بالأحمر رغم أنَّه نازعَ الوردةَ عليه.
اسمي؟ «سميرة» تقول الطفلة، «بينادوني سوسو».. «لأ من سنتين كانت أختي تبيع الورد، أنا كنت صغيرة.. هلأ صارت أختي صبية وأنا كبرت شوي». ليستِ الطفلة وحدها من كبُرت، سوريا أيضاً.. ربَّما شاخت قليلاً، لكنَّها ما زالت نابضة رغم كلِّ شيء، قصصٌ كثيرةٌ تروى عن الموتِ هنا، لكن ثمَّة أيضاً حكايات لا تنتهي عن الحياة.
دمشق ما زالت عروساً..
لـكنَّـها تنــامُ باكــراً
ازدحامُ الظّهيرة في «سوق الحميدية» ليس جديداً، دقائق معدودة تكفي لملاحظة أن حركة البيع داخل المحال المنتشرة على امتداد السوق لا تتناسبُ مع حجم الازدحام.
يقول أبو سامر «أحياناً يزدحمُ السوق بصورة تشبه الأيام الخوالي، فأتساءل هل سأستيقظ الآن لأكتشف المدينة، وأن الحرب كانت مجرد كابوس، وأن سوريا بخير فعلاً؟». وماذا عن البيع؟ «لم نعد نبيع إلا قليلاً، خصوصاً وأننا نعمل في تجهيزات العرائس كما ترى، لكنني رغم ذلك لم أتأخر يوماً عن فتح المتجر في التوقيت المعتاد، استمرار توافد الناس على السوق يعزيني قليلاً.. دمشق تعرف كيف تبقى حيّة رغم كل شيء».
ما زالت معظم الأماكن التي اعتادت احتضان سهرات سكان دمشق وزوارها فاتحةً أبوابها، رغمَ أن روادها باتوا أقل، وسهراتهم لم تعُد ممتدةً حتى خيوط الفجر.
تروي ربى «منذ سبعة أعوام وأنا أحتفلُ بعيدِ مولدي في هذا المكان، وقد كنتُ مصرة على أن أستقبل عامي الخامس والعشرين هنا أيضاً، لكنَّ الساعة الحادية عشرة صارت موعداً لنهاية السهرة، بينما كانت في الأعوام الماضية موعد بدايتها. أصدقائي الذين احتفلوا معي اليومَ أقلّ من المعتاد أيضاً، فكثيرون منهم غادروا دمشق، لا بأس.. ربما يكونون معنا في العام المقبل».
الحياة تقهرُ الحرب.. هنا حلب
الدمارُ الذي لحق بعاصمة الشمال يفوقُ كثيراً ما أصاب دمشق، الحرب غيرت معظم الأشياء، تبدلت عادات المدينة وسكانها، صارت المدينة تستيقظ باكراً، بعدما كانت في أيام الرخاء تنام حتى الظهيرة. راحت المحالُ تفتحُ باكراً وتغلق باكراً. فعلت الحرب ما عجزت عنه الكثير من القرارات الرسمية التي حاولت تنظيم مواعيد العمل التجاري أيام السِّلم. وبتناسب طردي مع حجم الموت والدمار، أصرت حلب على التشبث بالحياة بصورة مدهشة، ورغم الخراب الذي طال أسواقها، ورغم أن المعارك عطَّلت ما يقارب نصف مساحة المدينة، إلا أن نصفها الآخر اتسع ليحتضن معظم الذين نزحوا من بيوتهم، وقامت فيه أسواقٌ بديلة، شعبية وعلى عجل، يباع فيها كل شيء. فلم يعد مستغرباً مثلاً أن تشاهد حلاقاً يقصُّ شعر زبائنه على الرَّصيف !
أما النازحون من بيوتهم إلى المدينة الجامعية وإلى المدارس، فقد جهزوا أنفسهم لإقامةٍ شبه دائمة، بعدما اتضح أن الوضع المستجدَّ سيكون طويلاً، وصار بديهياً أن ترى أسواقاً داخل المدينة الجامعية أنشأها النازحون أنفسهم، وصالات ألعاب للأطفال، وصحوناً لاقطةً (ستلايت) على نوافذ الغرف وأجهزة تلفاز داخلها، فلا بدَّ من متابعة الأخبار!
حالات الزواج التي عُقدت بين النازحين كانت كثيرة، وكثيرةً جداً، حتى في ظل انعدام إمكانية توثيق عقد القران نتيجة تعطل عمل المؤسسات الرسمية. يقول عثمان «تعارفنا في مدرسة حسان كيالي التي صارت سكناً لنا بعد نزوح عائلتينا، وبشكل سريع اتفقت العائلتان على تزويجنا، لم نجد عائقاً في الوضع الذي تعيشه المدينة، فما دام الموت ممكن الحدوث في أي وقت علينا أن نتعلم كيف نعيش إلى آخر لحظة.. نحن سعيدان لأننا تزوجنا».
الكلاسيكو في المقهى..
وســـــط الحــرب!
تشكلُ متابعة المباريات الكروية الهامة طقساً تقليدياً لدى عشاق الرياضة، وهذا ليس حكراً على حلب، لكن تمسك أبناء المدينة بهذا الطقس وسط الحرب يستحق التوقف عنده، إذ يصر المهتمون على ارتياد المقاهي لمواكبة أنديتهم المفضلة، رغم أن معظم مباريات البطولات الأوربية تبدأ في العاشرة ليلاً، وهو موعدٌ متأخر جداً في ظل المعارك المستمرة، والظلام الذي تغرق المدينة فيه نتيجة الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي.
هكذا يتكرر المشهد: يكتظ المقهى، وتبدأ المباراة وسط صيحات الحماس وانقسام الزبائن إلى فريقين خصمين، لكنهما لا يتبادلان إطلاق الرصاص، الذي يختلط صوته بأصواتهم قادماً من الخارج.
ويشرح الصحافي أحمد بيطار «كوني متابعاً لمباريات دوري أبطال أوروبا، قررت رغم الظروف حضور إحدى مباريات فريقي المفضل، كان الازدحامُ كبيراً، واضطر البعض إلى مشاهدة المباراة وقوفاً، ولأن المباراة انتهت مع منتصف الليل، اضطر عدد من الحضور لقضاء ليلتهم في المقهى، لأن بيوتهم بعيدة، وكنتُ واحداً منهم، هذه ليست المرة الأولى، فقد تحول النوم في المقهى إلى ظاهرة معتادة مع كلِّ مباراة، ويصل الأمر ذروته مع ازدياد أهمية المباراة، إذ يتضاعف عدد النائمين هنا بعد مواجهات ريال مدريد وبرشلونة مثلاً».
أثر الفراشة لا يزول
يُمثل «أثر الفراشة Art café» تجسيداً فريداً لتمسك الشباب الحلبي بالحياة واحتفائهم بها. فالقائمون على المكان أصروا على مواصلة نشاطاتهم الثقافية والفنية رغم كل الظروف، وبوتيرة فاقت مثيلتها أيام السلم، وعلى سبيل المثال فقد أقيمت خلال الشهر الحالي أمسيةٌ موسيقية، وأخرى أدبية، ودورة إعداد ممثل ستتوج بعرض مسرحي، بالإضافة إلى استمرار «أثر الفراشة مكتبة»، وهو مكانٌ رديف لإتاحة الفرصة أمام رواده للقراءة الدائمة. والملفت للنظر أن هذه النشاطات تشهدُ إقبالاً كبيراً بشكل دائم، ويوضح الشاب ثائر مسلاتي، وهو واحدٌ من شابين اثنين يمتلكان المكان ويديرانه، يوضح لـ«السفير» أن «المكان واصل استقطاب عدد كبير من شبان وشابات المدينة الذين يتمسكون بشريان الفن والثقافة لمقاومة الموت، نحن لن نتوقف رغم كل شيء، لدينا جدول نشاطات حافل، أمسيات فنية وأدبية، وعروض لمسرح الغرفة، معارض مستمرة، ورشات الرسم والنحت، يشارك فيها جميع الراغبين من هواة ومحترفين بإنجاز لوحات أو منحوتات جماعية».
هل يمكن أن تتوقفوا يوماً ما عن نشاطاتكم؟ تسأله «السفير»، فيجيب «قطعاً لا.. هذه رئتنا التي نتنفس الحياة ونقاوم الموت عبرها، لن نتوقف، فببساطة، أثر الفراشة.. لا يزول».
الفئة الثالثة.. رئةٌ ثالثة
هكذا، ومع انقضاء العام الثاني من الحرب، ثمة فئة ثالثة تبدو مصرة، برغم فداحة الثمن الذي تدفعه لاحترابِ الآخرين، أن تكون الرِّئة التي تتنفَّس سوريا الحياة عبرها.
السفير