من تابع الأخبار والتعليقات والتحليلات السياسية في وسائل الإعلام المختلفة، عقب الكارثة الهائلة التي حلت بحلب، تمكن من رؤية عجب عجاب وتناقض شديد في هذا الكم الهائل من الكتابات المتنوعة، وهذا شيء طبيعي إلى حد ما، لأن الناس بطبيعتهم الفطرية مختلفون دائماً. إلا أنهم جميعاً لم يقتربوا من الحقيقة، ولم يبحثوا عن سر هذا السقوط المدوي المزعوم. فالفريق الذي اعتبر أن حلب سقطت أخذ يتباكى ويصرخ ويلطم ويستحضر كل المآسي التي حلت بحلب وأهلها، مع تسليط الأضواء على المعاناة الشديدة التي ألمت بالناس المحاصرين، والجرائم التي ارتكبتها العصابات الطائفية المتوحشة، وعلى نشر الاستغاثات التي أطلقتها بعض النساء الخائفات من الاغتصاب، ومناشدة المسلمين والنشامى – إن بقي مسلمون ونشامى – للإسراع لنجدتهن وإنقاذهن من براثن الذئاب الطائفية. وهذا ما أدى إلى مزيد من الأسى واللوعة عند كل المتابعين لهذه الأخبار وإلى مزيد من الانكسار والشعور بحالة الضياع. كما أدى إلى شيء من الإحباط واليأس. وأشاع جواً من الذعر. وفي الوقت نفسه دفع المسلمين الضعفاء الذين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً إلى الالتجاء إلى الله ومناشدته والإلحاح عليه بالدعاء، لتفريج كرب أهالي حلب. كما أنه حرّض بعض المحسنين المسلمين على البذل وإعانة المهجرين قسرياً من حلب.
أما الفريق الثاني الذي زعم أن حلب لم تسقط فأراد من هذا الكلام تطييب خواطر البؤساء المنكوبين وتهوين المصاب الجلل عليهم ورفع معنوياتهم وزرع الأمل في نفوسهم.
ولكن الحقيقة الصادمة التي لم يتطرق إليها أي محلل أو كاتب ليست مع الفريق الأول، ولا مع الفريق الثاني، لأن مصطلح السقوط لا ينطبق على حالة حلب.
فمصطلح سقوط أي منطقة في العالم يعني أن المدافعين عنها قاوموا وقاوموا حتى آخر رمق لديهم، وحينما استنفدوا كل قواهم وفرغت الذخيرة عندهم حينئذ إما أن يستسلموا وإما أن يخرجوا تحت جنح الظلام تاركين المنطقة تسقط في أيدي المهاجمين.
مثل على ذلك داريا التي لا تعادل مساحتها ربع مساحة المنطقة الشرقية من حلب، وعدد المدافعين عنها لم يكن أكثر من بضع عشرات من المقاتلين، ومع ذلك ظلوا صامدين مستبسلين ومدافعين بكل ما لديهم من قوة… أربع سنوات. وحينما نفدت الذخيرة لديهم اضطروا إلى مفاوضة النظام على أساس الخروج منها. وهكذا سقطت داريا، بعد تسطير أروع البطولات على أرضها.
أما حلب فلم تحصل فيها مقاومة في الفترة الأخيرة إطلاقاً.
نعم، كانت ثمة مقاومة خارقة، وصمود أسطوري، طوال سيطرة المقاتلين عليها، ولم يتمكن الروس، طوال 14 شهراً من احتلال المدينة، ولا استطاعت الميليشيات الطائفية أن تزحزح المدافعين عن أماكنهم، إلا قليلاً في عمليات كر وفر.
أما في الأسبوعين الأخيرين فقد تغير المشهد كلياً. فالمقاتلون ولوا على أدبارهم وانهزموا تحت جنح الظلام، تاركين الحرائر والعجائز والشيوخ والأطفال لتفترسهم الذئاب الطائفية، ما عدا كتيبة واحدة تعاهد أفرادها على الموت في سبيل الله وحماية المدنيين.
إن ما حصل في حلب هو مسرحية بيع وتسليم! كما حصل بالضبط في الجولان 1967 حينما أصدر (وزير الدفاع حافظ الأسد) أوامره إلى الجنود السوريين في الجبهة بالانسحاب الكيفي وأعلن سقوط الجولان قبل وصول اليهود إليها واحتلالها بأربع وعشرين ساعة!
ومثلما حصل لبغداد في سنة 656 هجرية، بتسليمها لهولاكو، زعيم التتر، على يد العلقمي!
وحصل مرة ثانية لبغداد أيضاً، حينما تسلمها الأميركيون، على يد الربيعي وجماعته الطائفية التي هي نفسها سلمت بغداد للمغول في المرة الأولى.
ففي حلب تهاوت الأحياء، واحداً وراء آخر، بسرعة خيالية. حيث إن ستة أحياء في يوم واحد… تسلمتها الميليشيات ونكلت بسكانها، ولم يقف مقاتل واحد، فيه ولو مثقال ذرة من شهامة ورجولة، في وجههم ليردعهم. لذلك فإن القول إن حلب سقطت هو خداع وتضليل وانحراف عن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الناس بشكلها الفعلي الواقعي، بغضّ النظر عن مرارتها وقسوتها.
يجب على الشعب السوري كله أن يعرف من هم الذين خانوه وباعوا أرضه بسوق النخاسة، ومن الذي أعطى أوامره للفصائل كي تنسحب وتُسلم الأحياء بسكانها، أو بجزء من سكانها، أو من دون سكانها، للميليشيات الطائفية. ويجب أن يُحاسبوا حساباً عسيراً يتناسب مع جريمة الخيانة العظمى التي مارسوها بحق الإنسانية وحق الوطن. وعلى افتراض عدم التمكن من محاسبتهم، فعلى الأقل يجب أن يُستبعدوا نهائياً من المشاركة في القتال في الأيام المقبلة.لأنهم سيقومون بالخيانة مرة أخرى. وربما أشد وأسوأ.
ومن هنا ينكشف السر الغامض الذي يحير الجميع وهو: عدم اندماج الفصائل، على رغم المناشدات الكثيرة، لأن القسم الأكبر، أو الأقوى، يريد الفرار. والتسليم ولا يريد القتال، بينما القسم الأصغر، أو الأضعف، يريد القتال، لكن ليست لديه الأسلحة الكافية لمتابعة القتال. ولهذا السبب توقف القتال وسُلمت حلب بقضها وقضيضها، وممتلكات الناس فيها، للمحتلين، وأُجبر أهلها على الخروج منها بغير حق.
الحياة
