صفحات الرأيعبدالناصر العايد

سقوط وهم السيطرة الشاملة


عبد الناصر العايد

أسقطت أحداث الربيع العربي في ما أسقطت، وَهم السيطرة الشاملة الذي كانت تعيش فيه المجتمعات المحكومة، وتتعيش عليه الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة.

والسيطرة الشاملة التي نعنيها هي شكل من أشكال فرض السلطة التي سقطت تباعاً، كالاستعباد والتسلط والاستعمار، وقد ظهر بعيد الحرب العالمية الثانية وبروز ظاهرة الأجهزة الأمنية المخابراتية، التي تعتمد على جمع المعلومات والعمليات السرية، وتفرض السلطة بغرس فكرة المعرفة الكلية للحاكم بعقول المحكومين، وقدرته الفائقة على إلحاق أقصى الأذى بهم، من دون أن تكون لديهم أدنى فرصة، لمقاومته أو محاسبته.

وقد تلقفت الأنظمة العربية، بخاصة ذات الشكل الحداثي، هذا الأسلوب منذ الستينات، وربطت وجودها معه بقوة. وأدى نجاحها في الهيمنة من خلاله، إلى ما يشبه الهوس به، حتى زج طرفه المادي، أي الأجهزة الأمنية، في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياة المجتمع الذي أصيب بدوره بالوسواس المرضي الجماعي، بالحاكم «العليم القادر».

ومع انتهاء حقبة الحرب الباردة، وانفراط عقد نظام القطبية الثنائية، ودخول البشرية في طور العولمة، وما يقترن بها من سلطات جديدة، متعددة وعابرة للحدود، بدأ نجم السيطرة الشاملة وأدواتها بالأفول تدريجاً في معظم بقاع العالم، ليحل محله شكل جديد، تقوده ذهنية واقعية تقرُّ بالنسبية، ويستخدم أدوات القوة الناعمة العصريةsoft power ، كالاقتصاد والإعلام والشبكات العابرة.

لكن النخب العربية الحاكمة لم تقرأ المتغيرات كما ينبغي، بل استهزأت أحياناً بقوة الأدوات الجديدة مثل شبكات التواصل الاجتماعي، وركنت بثقة إلى الأسلوب الأمني الشامل الذي تُختبر فاعليته وصلاحيته كل يوم، إلى أن حـــــرق البوعزيزي نفسه، لتكشف الأحداث اللاحقة أن ذلك كــــان مجرد وهم، وأن المياه تسربت إلى ما تحت أساسات الديكتاتوريات التي راحت تغوص. لــــقد منــــحت سابقة تونس ومصر الأنظمة الأخرى فرصة مـــراجعة استراتيجيتها للسيطرة، لكن الديكتاتورية ذات الطبيعة الاطلاقية والطبع المتغطرس، رفضت قبول الحقيقة، وفضلت الهروب إلى مواقع أكثر قدامة، واستعادت القاعدة التي تقول: من ثقلت وطأته وجبت طاعته، واتجهت إلى تطبيق السيطرة المادية المباشرة بواسطة الجيوش والسلاح العاري، وكان أن ارتكبت الفظائع في ليبيا واليمن وسورية، وطبعاً بلا جدوى.

وما زالت سلطـــات عربية، وأخرى في أنحاء في العالم، مرشحة لمواجهة استحقاق هذا التحول التــــاريخي الحتمي. وعلى فهمها له وقدرتها على التكيف مع مقتضياته، يتوقف مصيرها ومستقبل شعوبها، وكمّ المعاناة التي سترافق ولادة الشكل الجديد للسيطرة.

أما النخب الجديدة في بلدان الربيع العربي، التي كان لهذا التحول فضل في اقترابها من السلطة، فهي مطالَبة بالقطيعة مع الذهنية والسلوك الشموليين، وملزمة أمام شعوبها بالتأسيس لقواعد الحكم الرشيد الحديثة، وتطويرها. وهو تحدٍ ليس باليسير، فقد يكون من يطبقه أول ضحاياه، ويقصيه عن السلطة سريعاً، لكن هذا أفضل لها من النكوص إلى أساليب النظم الشمولية، مباشرة أو مداورة، إذ يقود هذا السبيل إلى خارج العصر والتاريخ.

إن تحديد الإستراتيجية والآليات الجديدة للسيطرة السياسية، التي لا بد منها في مجتمعاتنا، كما في أي مجتمع آخر حديث، يحتاج مختصين ودارسين وساسة جدداً. لكن المبادئ العامة لهذه الإستراتيجية كما يبدو من تجارب المجتمعات التي سبقتنا في هذا الطريق وواقعها، هي بالدرجة الأولى قبول النتائج النسبية، وعدم الانسياق إلى وهم الإطلاق والاكتمال، وهوسه. والمبدأ التالي هو الاعتراف بسلطة الآخر ولو كان محكوماً خاضعاً. والمبدأ الثالث هو النأي عن الأيديولوجيات في الممارسة العملية للسلطة، فهي في معظمها، بخاصة الدينية، تميل إلى الشمولية في الممارسة كما في الفكر. ورابعاً عدم الفصل بين الداخل والخارج، أو اللجوء إلى تقسيم الحيز وعزله للسيطرة عليه في شكل مطلق، فذلك لم يعد ممكناً. أما على صعيد الآليات والأدوات فلا بد من التفكير بطرق النفوذ لا التسلط، والإدارة لا التحكم.

في المرحلة الانتقالية المتسمة بالفوضى وعدم اليقــــين، تبرز مسألة السيطرة كقضية تنظيمية ملحّة. وبسبب عدم اكتمال الملامح والمعايير، لا نستطيع أن نسبر مدى تمثل النخب للقواعد الجديدة، وإستراتيجيتها لاكتساب السلطة وممارستها، إلا من خلال معيار أولي، هو مدى تأسيس هذه القوى لنفسها ولسلطتها، على العنف المعنوي والمادي، أي مقدار مدنيتها.

إن جوهر التحول الاجتماعي الذي يحدث في عالمنا اليوم، يطاول ماهية المجتمع ذاته، فهو غدا حيزاً تعينه الحركية المرتبطة به، لا كما كان يتم تشخيصه تقليدياً بأفراده وعلاقاتهم. وهذا سيرافقه تحول في ماهية السلطة وسبل طلبها، فهي لن تأتي بعد اليوم عبر نشدان التملك المادي النهائي، بل عبر البحث في الاستحواذ الفكري، المُبدِع.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى