سلسلة بيانات (غير) ذكية
حسام عيتاني
كتب المؤرخ إيريك هوبزباوم أن جل ما قدمته البرجوازية الألمانية لثورة 1848 كان «سلسلة من الخُطب الذكية».
أدركت الكتلة الأكبر من البرجوازيين الألمان أن مساندة ثورة تخوضها الفئات المسحوقة والمهمشة، ستؤدي إلى ارتداد الفئات هذه ضد أصحاب الثروات والمطالبة بالاستحواذ على السلطة، من جهة، وستسد الأبواب التي رآها أصحاب الثروات تُفتح أمامهم لتوسيع نطاق أعمالهم توسيعاً قياسياً. المثقفون الذين انخرطوا في الثورة ضد الأمراء الإقطاعيين، لم يكن في وسعهم سوى تزويد الثوار بالحجج والذرائع التي وصفها هوبزباوم بـ»الخطب الذكية». المهم أن الثورة سقطت سريعاً وقضي على الفقراء الذين نهضوا بها وافتتح عصر من الرخاء للبرجوازية الألمانية، والأوروبية عموماً على حساب المهزومين.
اليوم، نكاد نكون شهوداً على أمر مشابه. فالثورة السورية تتعرض لمجموعة معقدة من أعمال الحصار. هناك من قطع التمويل والتسليح. وهناك من يضع أولوية «مكافحة الإرهاب» كشرط لأي مساندة ديبلوماسية أو سياسية، وهناك من يملك جدول أعماله الخاص ولائحة أعداء يطلب تصفيتهم قبل تقديم المساعدات للثورة.
في المقابل، الذهول هو الانطباع الوحيد الذي تثيره قراءة بيان «الائتلاف الوطني» بعد اجتماعاته نهاية الأسبوع الماضي في إسطنبول. أخفق المجتمعون في الاتفاق على تأليف حكومة انتقالية لكنهم شكلوا ثماني لجان تعالج مشكلات تمتد من الحرب الدائرة في رأس العين/ سري كانيه بين المقاتلين الكرد وكتائب من «الجيش الحر» إلى «السلم الأهلي». وقرروا صرف 250 ألف دولار إعانة عاجلة إلى داريا التي تشهد حملة تدمير منهجية من قوات النظام لمنع تقدم الثوار إلى دمشق، بعد المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها مجاميع الشبيحة والجنود النظاميون في البلدة في آب (أغسطس) الماضي.
أقل ما يقال في البيان وفي الأجواء التي تسربت من داخل قاعات اجتماعات المعارضة، إنهما علامات على الفارق الفلكي بين هموم التشكيلات السياسية المعارضة وبين ما يجري على أرض الواقع، وفق ما ينقله النشطاء الميدانيون.
وبغض النظر عن السجال العقيم حول معارضتي الداخل والخارج وأيهما تمثل الثورة وشرعية عمل كل منهما، والاختلاف بين «نزلاء الفنادق وسكان الخنادق»، تتعين الإشارة إلى حالة من الفقر الشديد تعانيه قيادة المعارضة السورية. الفقر إلى المبادرة وإلى الخيال وإلى القدرات العملية، على الأقل لوقف بدايات التصدع في صورة الثورة سواء من خلال ما يجرى في رأس العين أو بالتحلي بالشجاعة لقول كلمة صريحة عن التفجيرات التي تقع في المدن ويسقط بسببها مدنيون. فلم يعد مقنعاً تحميل النظام، رغم إجرامه المشهود والموصوف، مسؤولية كل التجاوزات والانتهاكات التي تقوم بها مجموعات مسلحة تعلن انتسابها إلى الثورة.
العطب العميق في «الائتلاف» وفي «المجلس الوطني» قبله وفي أي تشكيل سياسي سيليهما، هو في تلك المساحة الشاسعة الفاصلة بينهم وبين الحراك الشعبي العريض الذي يفرض نفسه ويسبق كل التوقعات ويتجاوز كل القيادات ويحطم المرة تلو المرة كل محاولات «عقلنة» الثورة التي تنمو على طريقة الجذور الممتدة («الجذامير») التي تحدث عنها جيل دولوز وفليكس غاتاري في غير هذا السياق.
ثمة إذاً مشكلة مركبة بين الثورة وقيادتها (المفترضة). بين شعب يخوض معركته بما تصل إليه أيديه من أدوات ووسائل وحتى أفكار، وبين سياسيين يحاولون العمل ضمن ضوابط النظام الدولي والإقليمي المعادية، في العمق، لتغيير ثوري على هذه الدرجة من الجذرية والاتساع. فلا يعود أمام السياسيين غير إصدار سلسلة من البيانات (غير) الذكية.
الحياة