سلمان رشدي في رواية»البَيْت الذَهَبي»: متاهات الاغتراب والاستلاب بحثاً عن الهوية والأنا/ محمد محمد الخطابي
تدور رواية الكاتب الهندي- البريطاني سلمان رشدي الأخيرة التي نُقلت إلى اللغة الإسبانية تحت عنوان «انحطاط نيرون الذهبي» وكان عنوانها الأصلي The Golden House، «البيت الذهبي» تدور في السياق السياسي والاجتماعي والثقافي لأمريكا الشمالية الحالية، من خلال الأدب والسينما والثقافة الشعبية، وتقدم لنا مجموعة من الشخصيات الفريدة، بما في ذلك الشاب الأمريكي الذي يطمح بأن يصبح مخرجاً سينمائياً، والذي يجد نفسه متورطاً في القضايا المظلمة لعائلة غولدن التي تتخبط في دهاليز الأسرار، كل ذلك سيفضي به لأن يصبح رجلاً ناضجاً يعرف حدوده الخاصة، وفي آخر المطاف فإن انهيار بطريركه (نيرون غولدن) إن هو إلا انعكاس للتغييرات العميقة التي يشهدها المجتمع الأمريكي المعاصر.
رشدي يسلط الأضواء على الثماني سنوات الأخيرة في حياة الولايات المتحدة الأمريكية، كما يرصد صعود الاتجاه الحزبي المحافظ الجديد والسياسات المُناصرة للمرأة، وردود الفعل المناهضة للإصلاح السياسي.
هويات جديدة
تشير «دار جوناثان كايب» إلى أن هذه الرواية تصور أحداثاً سياسية واجتماعية معاصرة، كصعود حزب الشاي اليميني وفضيحة «غايمغيت» التي كشفت عن تفشي التحرشات الجنسية، والتعرض لقضية أخلاقيات المهنة في الأوساط الإعلامية. كما تصور كذلك أزمات الهويات المشروخة، والإرهاب، والأباطيل، والاغتراب والاستلاب. وقد تكون رمزاً لحياة الكاتب نفسه وهجرته وعائلته من الهند إلى العالم الغربي، وما رافقه خلالها من مفارقات ومنغصات. وانتقال قطب العقارات القوي نيرون غولدن إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل ظروف غامضة، أصبحت له ولأولاده الثلاثة الكبار هويات جديدة، بأسماء «رومانية»، ثم انتقلوا للعيش في قصر كبير وسط مانهاتن. وبعد وصولهم بفترة وجيزة تم تنصيب باراك أوباما على سدة الحكم، فوجدت العائلة نفسها في خضم مجتمع نيويورك المتلاطم، و»صعود نجم رجلٍ شرير ذي طموح كبير، نرجسي الطبع، مميز بشَعره المُلون يجيد استعمال وسائل الإعلام، وهو شغوف بالتطرية، وإضفاء مساحيقه عليها لصالحه». وواضح أن المقصود هنا هو دونالد ترامب.
ثقافة الجهل العدواني
يشير الناقد الإسباني ماثيو سانشو كاردييل من جهته خلال استجواب نشرته جريدة «الباييس» الإسبانية الواسعة الانتشار إلى: «أن رواية سلمان رشدي الجديدة الصادرة عن دار النشرالإسبانية (سيكس بارال) تعالج قصة عائلة هندية مهاجرة تصل إلى نيويورك هاربة من قدر محتوم، بنغمة تراجيدية يونانية، وتخفي هذه الرواية تحت سطورها مجازات مضيئة حول أزمة استثمار القيم، وطبيعة الشر الكامنة في الإنسان، إلا أن حقيقة هذا العمل الروائي الجديد لرشدي يذهب بعيداً لتجلية صورة زائفة عن الانحطاط الأخلاقي في العصر الحديث، وهو يلتقط لنا من واقعنا الحالي المعاش صورة قطب من أقطاب الثراء الفاحش الذي يملك العديد من العقارات.
يقول كاردييل عن هذه الرواية إنها انعكاس لحقيقة الناس التي أمسينا نلمسها اليوم في الواقع وفي الشوارع، ولشخصياتها وضعية مُعقدة ثلاثية الأبعاد عندما تصل إلى السلطة تتحول إلى صور الكوميك، وهكذا نغدو محكومين من طرف أشباه أشباح غريبة مثيرة للسخرية والضحك، حتى أن أحد أبطال الرواية يقول: إن إحدى الشخصيات المصورة (الكوميك) تحتل واشنطن العاصمة. ويشير رشدي إلى «أن الحقيقة كانت تنتمي للقرن العشرين في الزمن الغابر، أما اليوم فقد أصبحنا نعيش « ثقافة الجهل العدواني العنيف، ففي الإنترنت أضحينا نجد الحقائق والأباطيل متساوية في آن، وهنا يكمن مجال عمل الروائيين، لأنه في مقدور الفن إعادة إحياء المشاعر الحقيقية الصادقة، إن إعادة بناء التراضي على مفهوم طبيعة الواقع أصبح اليوم – ومن غريب المفارقات- مهمة الخيال».
ويخبرنا رشدي من جهة أخرى «أن القناع قد طفق في السقوط اليوم، أنظر إلى هؤلاء الرجال الأقوياء الذين كانوا يحظون إعجاب الناس بأعمالهم السينمائية الشهيرة، واتضح بعد ذلك أنهم كانوا مفترسين جنسياً لعقود من الزمن مضت، ومع ذلك تمكنوا من السيطرة على دفة التاريخ، إلا أن شرخاً أو تصدعاً عميقاً أصاب هذا السد المنيع، وأصبح العاملون في هوليوود يهرولون في كل اتجاه مثل ديكة بدون رؤوس».
ويقول الناقد الإسباني إن سلمان رشدي يسرد علينا في عمله الأخير غير قليل من المجلدات، كمحاولة لفهم عالم اليوم، مع مسحة من الحنين نحو أزمان البراءة الأولى التي ولت، إنه يقول: «لقد تحدثتُ مع الناس الذين صوتوا لصالح ترامب وأيقنتُ أنه لا يجمعهم أي شيء مشترك، كما أنه ليست هناك أي مجاملة مع هذه الطبقة العاملة الجاهلة البيضاء، وهم ليسوا كلهم عنصريين أو جاهلين»، إن أحد مفاتيح عالم الكاتبة الأمريكية صاحبة «سن البراءة» إديث وارتون هو أن القوى المحافظة قوية جداً. وأن أي عملِ تمردٍ ضدها صعب للغاية، إلا أنه يمكن هزيمتها من قبل شخص قد يعرف كيفية إتقان لعبة النظام».
وعندما سأله الناقد الإسباني عن الكاتب البريطاني، ج. ك.شيسترتون الذي بحث عن نموذج بديل للرأسمالية والشيوعية، يتساءل: هل علينا أن نبحث عن هوية سياسية جديدة؟ وقال ينبغي علينا هجر المعارك القديمة التي عفى عليها الزمن، لا بد أن يكون هناك تغيير عام حقيقي للأجيال والعقليات. ففي فرنسا وكندا رأينا كيف بدأت أجيال شابة تحتل مكانَ الصدارة والقيادة، وأردف ساخراً: فأنا عمري اليوم 70 سنة، ودونالد ترامب في 72 من عمره، وهيلاري كلينتون في 70 من عمرها، وبيرني ساندرس قد بلغ 147 حولاً (في إشارة تهكمية إلى أقدم سياسي مُعمر من الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية.
يتساءل الناقد الإسباني أنه كيف أمكن لسلمان رشدي في الرواية أن يقوم بذلك التنبؤ المبكر لما وقع في الهجوم الأخير الذي حدث في هالوين في نيويورك، إذ تحدُثُ في الرواية عملية إطلاق النار كذلك خلال مهرجان هالوين، إلا أن الذي قام بذلك ليس إرهابياً (إسلامياً) بل إنه أحد المواطنين الأمريكيين الذي كان منخرطاً في صفوف الجيش الأمريكي ثم أُبْعِد منه لطبعه العنيف. ويشير رشدي في هذا القبيل أنه علينا أن لا ننسى أن أكثر الحوادث الجنونية الحمقاء في أمريكا يرتكبها الرجال البيض الذين يحملون أسلحة نارية في أيديهم».
مذكرات العار
وكان سلمان رشدي خلال ندوة صحافية أقيمت في مدريد أثناء تقديمه لكتابه السابق «جوزيف أنطون» الذي جاء على شكل مذكرات مروية من وراء قناع مستعار عن السنوات العِجاف التي قضاها هارباً، فاراً، ومتخفياً، وزعم رشدي أن كل ما جاء في هذا المؤلف هو واقعي، وأن الاسم المستعار الذي وضعه عنواناً له هو حقيقي كذلك، إذ هو الاسم الذي استعمله خلال تسع سنوات وهو يرمز به إلى اسمي جوزيف كونراد وأنطون تشيخوف. وأن الجانب الظاهر من قصته قد تعرضت له الصحف والجرائد إلا أنه لا أحد يعرف الجانب الشخصي لهذه القصة، أي كيف أمكنه أن يعيش هذه المرحلة الصعبة من عمره؟ ويشير إلى أن الكتاب ينطلق من معايشاته الحميمية، وإنه يحكي فيه عن صحته وحياته، وعلاقته بأسرته، ثم ينتقل في ما بعد إلى فضاء سردي أوسع عندما تطلب منه وزارة الخارجية البريطانية تقديم اعتذار عما يُسمى بـ»آيات شيطانية»، وتبلغه الشرطة أنه الرجل الأكثر تعرضاً للخطر في البلاد بعد الملكة.
يشيرالكاتب الإسباني توماسو كوش إنه بعد الحكم على رشدي بالإعدام من طرف الخميني، انقلبت حياته رأساً على عقب، وهي نقطة انطلاق كتابه الذي يحكي فيه كابوس حياته في المملكة المتحدة، حيث كان يعيش تحت عيون حراسة مشددة، ومتنقلاً من منزل إلى آخر. لقد عانى العديد من المشاكل مع اسم «جوزيف أنطون»، وانتظر طويلاً حتى يضع هذا الكتاب، إذ تفادى أن يتم ذلك في وقت كانت فيه الانفعالات لما تزل في قمة غليانها.
سيف ديموقليس
يحكي هذا الكتاب مأساة سيف ديموقليس العائد لرشدي، إنه يتذكر بعض الفصول الأكثر سريالية لتلك السنوات التسع بعد محاولة فاشلة لاغتياله، كما يتطرق للتهديدات التي تلقتها دار النشر «بينغوين» عندما نشرت كتابه المأسوف عليه «آيات شيطانية». وقال إن مدير هذه الدار أطلق عليه في البداية لأسباب أمنية عنواناً غريباً ومتداخلاً من أسماء بعض الطيور القطبية والحَمام والزقزاق المذهب. يشير الكاتب الإسباني إلى «أن رشدي عندما بدأ الكتابة لم يتمالك نفسَه، ولم يتردد في إستعمال ضمير الغائب، فالإنسان في منظوره يمكنه أن يكون منتقداً لذاته حتى ولو استعمل صيغة الغائب (هو) بدلاً من استعمال صيغة المُتكلم (أنا). فالشخصية التي تقمصت دورَه أو سكنته، عمرها ربع قرن وهي حديثة العهد باستشعار العاصفة الهوجاء التي كانت تعصف به. وادعى رشدي – حين صدور كتابه هذا- أنه آخر كتاب يتحدث فيه عن نفسه، فهو لا تروقه السير الذاتية، كما زعم أنه بشكلٍ مباغت أصبحت حياته ذات أهمية، وهو يومئ بذلك إلى ملايين الدولارات التي قد تعود لمن يقتله، وبسبب هذا التهديد فقد هلك كثيرون، منهم مترجمه الياباني الذي تم اغتياله، ومترجمه الإيطالي الذي تعرض لضربٍ مُبرح، وناشره النرويجي الذي استقرت في جسده ثلاث رصاصات.
الإسلام والغرب
قال رشدي: إنه شاهد بعض الفيديوهات الركيكة حول الإسلام التي أفضت إلى القتل والهجوم على سفارات الولايات المتحدة الامريكية في عشرين بلداً. وفي محاولة منه – على ما يبدو – لمحو عقدة الذنب التي يشعر بها التي تؤرق حياته انتقد رشدي الفيديو المسيء للإسلام، ووصفه بأنه «سيئ للغاية ورديء، وأن القيام بمثل هذا هو أمر خاطئ وسخيف». كما زعم آنذاك: «أن العالم الإسلامي يبدو وكأنه أصبح مقتنعاً بأن هناك مؤامرة تحاك ضده من طرف قادة الغرب لتدميره، وزعم رشدي أن قضيته قد أصبحت تنتمي للماضي، وهو لم يعد قلقاً كما كان عليه من قبل».
وضمن استجواب أجراه الصحافي الإسباني أنطونيو أستورغا مع رشدي في جريدة (أ. ب. ث) الإسبانية جاء فيه:
– هل تشعر بأنك تعيش حياة عادية، كيف عوملت خلال 11 سنة في ملجئك في حماية سكوتلنديار؟
ج: كان هناك حارس خاص، وسائق مغضوب عليه طُرد من سلك الشرطة بتهمة الاختلاس.
– كيف كانت علاقتك مع ضباط الشرطة؟
ج: كانوا يعتبرونني عنصراً مزعجاً، ويقولون إن جميع الأشخاص الذين تولوا حراستهم من قبل قدموا خدمات للدولة الأمر الذي لا ينطبق عليّ.
– ألا تشعر بالندم، ما هي المشاعر السلبية الناتجة عن كتابتك «جوزيف انطون»؟ ج : كثيرون أرادوا قتلي ولم يمسكوا بأحد ممن كانوا يهددونني، كان الناس يقولون إنهم لو ظفروا بي لقتلوني، كانوا يقولون ذلك في كل مكان في المساجد أيام الجُمع، وخلال مظاهرات رُفعت فيها لافتات نُظمت ضدي، لو كان هذا قد حدث ضد ملكة إنكلترا (كذا) لألقي القبض على هؤلاء واقتيدوا إلى المحاكم، كنت أشعر بنوع من الغيظ ، ولكنني اليوم أوثر حياة هادئة.
– كيف ترى التطرف الإسلامي اليوم؟
ج: التطرف الإسلامي الحالي يمكن مقارنته بالكاثوليكية المتطرفة التي كانت منذ مئتي أو ثلاثمئة سنة، قد تكون هناك صلة لذلك بمحاكم التفتيش الإسبانية.
– هل أراد أصدقاؤك حقا تكوين حلقة من حديد حولك للدفاع عنك بعد تهديدك بالقتل؟
ج: إذا حللنا التاريخ لوجدنا أن الكتب التي توبعت لم تكن دفاعاً عن الحرية في حد ذاتها، بقدر ما كانت دفاعاً عن نصوص تلك الحرية.
– وماذا عن كونراد وتشيخوف؟
ج: عندما وضعتُ هذا الكتاب كنت من جهة جوزيف (كونراد)، ومن جهة أخرى كنت أنطون (تشيخوف). ككاتب أنا لا أشبه أحداً منهما، أنا مُعجب بهما، إلا أنني لستُ مثلهما، لقد أصبحت حياتي تشبه كتبهما، إنني أبدو كما لو كنت خرجتُ من أعمال العملاء السريين لكونراد والأخوات الثلاث لتشيخوف، هذان العالَمان المتباينان انصهرا في ما بينهما وتفتق عنهما هذا العالم الذي أصبحتُ أعيش فيه.
– ما تحكيه هو نوع من جحيم الظلمات، هل عشت ذلك حقا ؟.
ج: لقد عشت سنواتٍ طويلة في دياجير الجحيم، الذي أنقذني كوني «كاتباً « لأن الكُتاب مُعتادون على العُزلة، والجلوس طويلاً، ولهذا فقد أمكنني كتابة عدة كتب خلال هذه المدة.
جاء في هذا الاستجواب كذلك
– هل كرهت «آيات شيطانية»؟
ج: لا بل إنني فخور بهذا المؤلف، فلو قرأ الناسُ الكتابَ بحياد لاتضح لهم أنه لا ينتقد الإسلام وليس فيه إيذاء ولا ضرر.
ـ لماذا إذن يكره المسلمون كتابك هذا؟
ج : إنهم لم يقرأوه، أو ربما أساؤوا فهمه.
– تقول في كتابك إن والديك لم يلقناك التدين؟.
ج: أجل وهذا ما أفعله مع نفسي، ومع أولادي كذلك، بل إنهم أكثر نأياً مني عن الدين.
– كيف كانت حياتك منذ أن حكم الخميني عليك؟
ج : كانت مصيبة عظمى، ولقـــــد أثر ذلك في مســــار حياتي اليومية، وعلى طريقة ونمط تربية أولادي، هكذا عشت وسط هذا الكابوس في حالة من الاستثناء.
– خلال هذه المدة ربحت صــــداقات وخسرت أخرى؟
ج: لقد انتقدتني صحافة الإثارة، ولكن كثيراً من الكتاب تعاطفوا معي حتى في العالم الإسلامي.
– ابتداءً من الآن هل وُلد رشدي من جديد؟
ج : أجل ابتــــداءً من الآن أصـــبحت لدي حياة عادية.
القدس العربي