سنة اكتشاف سوريا
عمر قدور
من الطرائف التي يرويها المسافر السوري إلى الغرب أنه قد يضطر إلى الشرح من أجل إفهام محدّثه الأميركي أو الأوروبي أين تقع سوريا، وقد يهزّ الغربيّ رأسه قائلاً: آه.. إنها قريبة من بغداد!. هذا بعد أن اشتهرت بغداد كثيراً أيام صدام حسين وحروبه، أما المعتاد عموماً فهو أن يعرف الغربي موقع سوريا بدلالة جوارها لإسرائيل. هكذا، وعلى العكس مما توحي به بروبوغاندا الممانعة والصمود، لم تكن سوريا المعاصرة إلا بلداً صغيراً مجهولاً بالنسبة إلى الكثيرين خارج المحيط الإقليمي، أما البارانويا الجماعية البعثية فلم تصل يوماً إلى أبعد من أقدام القائد المفدى، وأبعد من وهم المؤامرة العالمية التي ما أن يغادر أحد البلاد حتى يكتشف مقدار سخافة هذا الوهم.
في العام الذي انقضى وضع السوريون بلدهم على خارطة الاهتمام العالمي، ولأول مرة نال الداخل السوري اهتماماً دولياً، بل لأول مرة يكتشف العالم وجود داخل سوري بهذا الزخم، فصار من حق سوريا أن تُعرّف بشعبها لا بموقعها الجغرافي وحسب. السوريون أيضاً أعادوا اكتشاف أنفسهم بعد عقود من الاستكانة، وبعد أن يئس الكثيرون من قدرتهم على التغيير. في مستهل الثورة السورية اكتشفوا مدينة اسمها درعا، كان ذلك بمثابة المفاجأة فالثورة لم تنطلق جدياً من الأماكن التي يسلطون عليها أنظارهم، فيما بعد سيأتي يوم يقرّ فيه الجميع بأن حمص صارت عاصمة الثورة؛ مفاجأة أخرى لم تكن في البال، فحمص ليست دمشق ولا حلب. خالفت الثورة المتوقعَ، وخلخلت التراتبية المناطقية المعتادة، فأثبتت بذلك أنها ثورة بحق، لذا استحقت أن تكون مغامرة واكتشافاً، وأن تكون عصية على قمع السلطة وعلى التأطير الصارم أيضاً.
ليس من باب المبالغة وصف العام 2011 بأنه لحظة اكتشافٍ سوريةٍ، فاختزاله في لحظة هو أشبه بما يختزله الحلم على قصر زمنه، ويجوز القول إن انتفاضة السوريين أشبه بالحلم إذا ما قيست بعقود الصحو الممل السابقة عليها؛ كأن السوري اختزن في وعيه ولاوعيه قهراً شخصياً ومتوارثاً فأفرغه في لحظة على مدار العام. ما عبّر عنه السوريون يفوق الرغبة في التغيير السياسي بالمعنى المعهود للكلمة، هي انتفاضة كبرى كشأن الانتفاضات الكبرى في التاريخ، وكشأنها جميعاً تملك تلك الكثافة الهائلة من الزمن، وتصبح وظيفة ما مضى أن يؤدي إلى الآن وهنا. كثافة تلوي عنق التاريخ، وتنذر كل سلطة بأنها على حافة الانهيار، وبقدر ما أن الشعارات واضحة المطالب فإن مثل هذه اللحظة تتسبب بالقلق لكل من يفتقد حس المغامرة والتجريب، ولكل من اعتاد على نمط أو يقين يحتمي به.
لم يكن النظام السوري مُرضياً لبعض القوى الإقليمية أو العالمية، لكن التعاطي معه أسهل من اختبار القلق الذي تتسبب به سوريا الآن، وما هذا التخبط في المواقف الدولية والتذبذب بها صعوداً وهبوطاً سوى دليل على القلق من المغامرة السورية. لم يكن النظام مستَهدفاً خارجياً على النحو الذي تصوره دعايته، فالانتفاضة كشفت عن مقدار القبول الدولي به وإن على مضض. لقد كان على الدوام خصماً مقبولاً، أو حتى مدللاً!. لقد افتضحت مجمل دعاوى سياسات النظام ، فهو لم يفعل طوال الوقت سوى الركون إلى موقع سوريا الإقليمي، والمساومة على هذا الموقع بأساليب لا تنتمي إلى السياسة البناءة. لقد كان معروفاً أن النظام أقصى المجتمع السوري عن السياسة، أما ما بات واضحاً فهو أن الاستبداد أقصى نفسه عنها أيضاً بحكم بنيته، أو بالأحرى تبين أنه ينتمي إلى ما دون السياسة.
عندما انتفض السوريون كشفوا للجميع رثاثة الحكم الذي ادعى تمثيلهم، فكان سقوطاً مدوياً ومخزياً على أكثر من صعيد، ليس السقوط الأخلاقي سوى واحد منها. ربما تكون مفاجأة السوريين أنفسهم بالنظام كبيرة، وحتى على الصعيد القمعي الذي اختبروه سابقاً لم يخلُ الأمر من أساليب رخيصة مبتكرة وغبية معاً، أما الإصرار عليها فكرس عجز النظام عن أن يكون بارعاً حتى في المجال الذي اشتُهر به!. إن الفجوة الأخلاقية الهائلة التي ظهرت بين طالب للحرية وقاتل لها تعززت بالقتل الفظ الذي لا يداري جريمته بأبسط المعايير الإنسانية، وصار التشبيح سمة عامة لا فرقاً للموت كما عرفتها ديكتاتوريات سابقة. وبينما يبتكر المنتفضون يومياً أساليب جديدة تغني ثورتهم، وتغني المخيال السوري عموماً، يصرّ النظام على خطابه الذي لم يتغير منذ بدء الانتفاضة في دلالة بليغة على فقره الرمزي.
لقد أثبتت الحرية عظيم أثرها، فالسوري الذي اتخذ قراره بالحرية أصبح حراً حقاً، أما الثورة فهي لامتلاك الحرية للجميع. السوري الذي تحرر من خوفه هو غير ذاك الذي لم يفعل بعد، فبالحرية انزاح الكبت السابق وتفجرت إمكانيات الحياة والعقل، وعلى الرغم من الموت الذي يتربص عند كل شبر لم يعد بالإمكان التراجع إلى الرعب القديم. إن من جربوا طعم الحرية، ومن ينضمون إليها باطراد، لم يعد بوسعهم العودة إلى أنفسهم التي ألِفوها من قبل، لقد ودّعوا عطالتهم السابقة بمفهومها الشامل وامتلكوا ذواتهم على نحو يصعب معه التفريط بها. ثمة سباق يلاحظه كل مهتم يخوضه السوريون مع أنفسهم، هو سباق الحياة مع الموت من جهة، ومن جهة أخرى هو التنافس الذي يعيشه السوري مع ذاته ليثبت لها جدارته التي حُرم منها طويلاً.
ثمة اعتزاز سوري بالنفس صار قوياً خلال العام الأخير، وهو يختلف بالتأكيد عن البارانويا التي سبقت الإشارة إليها، فاعتزاز السوري بسوريته لا يقوم على دعاوى التفوق القومي السابقة، ولا يؤذن بعنجهية وطنية وليدة؛ هو بالأحرى فرح السوري بذاته التي عثر عليها أخيراً، وإن كلفه ذلك ثمناً باهظاً. وهو فرح السوري بأنه فرض حضوره على العالم، واستحق احترامه بالأمثولة التي يقدّمها أناس كانوا مغمورين إلى وقت قريب، أناس دفعوا أرواحهم في المقابل. ينظر السوريون إلى أنفسهم كشعب، وهذا ما لم يختبروه منذ زمن بعيد، وهذا ما يضعهم على خارطة العالم حقاً. لم تعد سوريا تُعرّف بنظامها، بل صارت تعرّف بثورتها وناسها، صارت محطّ فضول للذين لم يعرفوها من قبل، وموضع قلق للذين لا يريدون معرفتها الآن. صحيح أن النظام لم يسقط فعلياً في العام المنصرم لكن تم اكتشاف سوريا، لقد صعدت سوريا وما تزال بمقدار ما يواصل النظام سقوطه.
أين تقع سوريا؟ سؤال لم يعد متوقعاً من كل حر وصاحب ضمير.
المستقبل