سوريا.. ذروة الربيع العربي!
أسامة الغزالى حرب
إذا كانت تونس قد افتتحت ربيع الحرية في العالم العربي, وإذا كانت مصر قد شهدت الحدث الأكبر فيه,
وإذا كانت ليبيا قد مثلت المشهد الأكثر إثارة وصخبا, فلاشك في أن سوريا تقدم اليوم النموذج الأكثر دموية وعنفا, الأمر الذي يجعل انتصار الثورة السورية بلاشك لحظة الذروة المنتظرة للربيع العربي!
غير أن بلوغ هذه اللحظة لن يكون سهلا علي الإطلاق! فالنظام السوري (الذي هو واحد من أكثر النظم قسوة ودموية في العالم كله) يحارب اليوم معركته الأخيرة. إنها بتعبير أدق معركة حياة أو موت, لأن فرصة التسويات والحلول الوسط أو التوفيقية قد فات أوانها تقريبا, بفضل حماقة وتخلف ووحشية النظام هناك.
لقد أكملت ثورة الشعب السوري بالفعل في 17 أغسطس الماضي شهرها السادس, وهي الآن في شهرها السابع, ولاتزال المواجهة الدموية متصلة بين الشعب السوري العظيم والنظام الفاشي المقيت لبشار الأسد. ولحسن الحظ (إذا جاز هذا التعبير هنا!), فإن المحاولات المستميتة من جانب ذلك النظام لفرض ستار حديدي علي الأوضاع هناك, وحجب ما يجري داخل سوريا عن أنظار العالم, قد فشلت تماما. فعلي الرغم من منع دخول أي محطات أو قنوات إعلامية إلي داخل سوريا, فإن التقدم المذهل في وسائط الاتصال, من خلال أجهزة الموبايل وشبكة الانترنت, وما تتيحه من وسائط متعددة للتواصل, جعل ما يحدث في شوارع دمشق وحماة وحمص واللاذقية ودرعا ودير الزور وإدلب, وجميع مدن وشوارع وميادين سوريا, متاحا أمام العالم كله (ولابد هنا في هذا السياق من الإشادة بالدور الحيوي الذي تلعبه قناة الجزيرة, والذي لا يمكن إنكاره أو تجاهل تأثيره في إذاعة ما يحدث وتعريف العالم به!).
وهكذا, أتيحت لنا في مصر وفي العالم العربي, بل وفي العالم كله, مشاهدة ما لا يمكن تصوره, فرأينا جنود الجيش السوري (!!) ومعهم البلطجية (أو الشبيحة بالتعبير السوري) وهم يقتلون بالرصاص الحي, وبدم بارد, المتظاهرين المسالمين, ورأينا مشاهد متعددة لعمليات تعذيب ومعاملة وحشية لمواطنين, أوقعهم حظهم العاثر في أيدي أولئك الجنود والشبيحة, لا يكتفون فيها بالصفعات والركل بالأقدام علي الوجوه والأجسام, وإنما أيضا بطلب أن يهتفوا باسم الرئيس, بل وأن يقولوا لا إله إلا بشار! وغيرها من العبارات المقززة والمهينة! غير أننا أيضا شهدنا (وأعجبنا وذهلنا) بذلك الإصرار العجيب من جماهير الشعب السوري التي تتحدي بمسيرتها ومظاهراتها ونداءاتها الثورية الهادرة ذلك النظام الدموي! رأيناهم وهم يخرجون بعد صلوات الفجر, وعقب صلاة العيد, وهم يهتفون من أجل الحرية, ومنادين ليس فقط بسقوط بشار, وإنما أيضا بمحاكمته وإعدامه! فإذا انتقلنا إلي قنوات التليفزيون السوري الرسمي, فسنجد وياللسخرية- مشاهد أخري تماما, لمذيعات ومذيعين لا يفلح مظهرهم المنمق الخادع في إخفاء قبح ما ينطقون به, وما يعبرون عنه! وفي الحقيقة, فإننا إزاء نظام يقدم نموذجا استثنائيا في تصنيع صورة مزيفة كاملة: لشعب بديل, وإعلام بديل, ونخبة بديلة.. إلخ. فإذا بك وكأنك في بلد غير سوريا, ومع مواطنين ومتحدثين ومذيعين من كوكب آخر, وذلك هو إبداع الاستبداد!
وفي واقع الأمر, فإن صعوبة ودموية الثورة السورية ترتبط, إلي حد بعيد, بوضع الجيش السوري الذي يجعله, بحكم الطابع الطائفي للنظام, في صف القوي الحاكمة لا المحكومة, أي في صف النظام ضد الشعب, وليس العكس! وهو ما يختلف جذريا بداهة عن الوضع في مصر, حيث التاريخ الوطني للجيش, الذي جعله يقف بلا تردد, ومنذ اللحظة الأولي في صف الشعب!
غير أن المكانة العربية لسوريا كانت, وسوف تظل, أكبر بكثير من النظام الفاسد لبشار الأسد والحكم البعثي العلوي! إنها مكانة ثابتة, تاريخيا وثقافيا ومعنويا, منذ يقظة العرب القومية الحديثة, قبل ما يقرب من مائة عام, وتحديدا منذ الثورة العربية في 1916 ضد الدولة العثمانية, ثم دخول قواتها بقيادة الأمير فيصل بن الحسين- إلي دمشق في 1918 ولم يكن غريبا أن كانت سوريا في بؤرة الاهتمام الاستعماري (الفرنسي الإنجليزي) سواء من خلال اتفاقية سايكس ـ بيكو في 1916, أو من خلال وضعها (مع لبنان) تحت الانتداب, ثم الاحتلال الفرنسي عام 1920
وضرب الشعب السوري, منذ الاحتلال حتي الاستقلال في عام 1941, أمثلة فذة في مقاومة المحتل, واستخلاص حقوقه, والحفاظ علي هويته العربية ووحدة ترابه الوطني. ولم يكن غريبا في هذا السياق أنه عندما واجهت سوريا مشكلات داخلية عديدة (خاصة مع بدء الانقلابات العسكرية منذ عام 1946) فضلا عن المؤامرات السياسية الخارجية, مثل محاولة دفعها للدخول في حلف بغداد, أو التحرشات مع كل من تركيا في الشمال, والأردن في الجنوب واللتين كانتا جزءا من التحالف الغربي بشكل أو بآخر لم يكن غريبا أن سعت للتقارب مع مصر عبد الناصر, بدءا من معاهدة الدفاع المشترك عام 1955 إلي الوحدة مع مصر عام 1958, التي شكلت برغم كل المشكلات أول تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث!
إن هذا الطابع العربي الوحدوي الأصيل لسوريا والشعب السوري يضع بعدا آخر لنجاح الثورة السورية العظيمة الراهنة ضد بشار الأسد, وهو أن هذا النجاح يمكن أن يكون الخطوة الأولي نحو طموح وحدوي عربي, حقيقي وشعبي هذه المرة, ويتجنب العيوب القديمة للعمل الوحدوي, والتي كان في مقدمتها بلا شك افتقاده للديمقراطية, قيما ومؤسسات!
غير أن التأثير المنتظر لنجاح الثورة السورية لن تكون له نتائجه الكاسحة داخليا وعربيا فقط, وإنما أيضا علي الصعيدين الإقليمي والدولي. فمن الناحية الأولي, تبرز بالذات تأثيرات نجاح هذه الثورة في العلاقة السورية الإيرانية, وفي النفوذ الإقليمي لإيران الذي يعتمد بالإضافة إلي النظام السوري علي حزب الله في لبنان! فإيران اضطرت أخيرا للإعراب عن قلقها مما يحدث في سوريا, بالرغم من العلاقات الوثيقة بين الطرفين, والتي تتمثل في اجتذاب سوريا لما يقرب من 10% من إجمالي الاستثمارات الخارجية لإيران, والتي تتمثل في مشروعات مشتركة (مثل البنوك, ومصانع إيرانية للسيارات والأسمدة وتكرير البترول.. الخ). والأمر نفسه ينطبق علي حزب الله في لبنان وزعيمه حسن نصر الله, الذي تورط مبكرا في الدفاع عن نظام بشار الأسد, ثم اضطر أخيرا لدعوة السلطة السورية للقيام بإصلاحات في النظام ترضي القاعدة الشعبية المعترضة, وتسهم في تجديد النظام والسلطة!!
وبعبارة أخري, فإن إيران لن تقف بالقطع مكتوفة الأيدي إزاء هذا التدهور المتسارع في وضع حليفها( الأسد!), وهو ما يفسر علي سبيل المثال اللقاء الذي كشف عنه أخيرا بين جهات إيرانية وأطراف في المعارضة السورية في باريس, تحسبا لأي تغييرات مفاجئة في سوريا.
أما علي الصعيد الدولي, وبالرغم من الإدانة المتزايدة والمتسارعة للنظام السوري ولممارساته القمعية, فإن من الصعب حتي الآن التكهن بإمكانية تكرار التدخل العسكري( خاصة من حلف الناتو) الذي حدث في الحالة الليبية! وبالتالي فإن المصالح الغربية في سوريا ليست بثقلها في ليبيا. وفضلا عن ذلك, فإن روسيا, وأيضا لاعتبارات مصلحية بحتة, لا تزال تعلن اعتراضها الشديد علي مثل هذا التدخل, وكذلك علي فرض العقوبات علي النظام السوري. وعلي أية حال, فإن هذا التدخل العسكري إذا حدث فإنه سوف يكون غالبا من خلال تركيا المجاورة لسوريا, والتي أعلنت قيادتها فقدانها الثقة في الأسد ونظامه!
ومع ذلك, فإن من الخطأ الشديد التقليل من الضغط الدولي الذي تم حتي الآن مع النظام السوري! والذي دفعت إليه المشاهد المشينة للممارسات القمعية والوحشية لذلك النظام, والتي يصعب علي الضمير الإنساني تجاهلها. إنه ضغط ولدته لدي العالم كله تلك المشاهد اليومية للمواجهة بين جماهير الشعب السوري الأعزل, المسالم, والتي خرجت تطالب بحريتها وكرامتها, وبين جنود وشبيحة النظام الذين يتعاملون بكل وحشية مع المحتجين والمتظاهرين الذين لا يملكون غير أصواتهم وهتافاتهم. ووفقا لبيانات الأمم المتحدة, فإن أعمال العنف في سوريا خلفت2200 قتيل علي الأقل, فضلا عن آلاف الجرحي والمصابين. ولا أعتقد أن هناك مبالغة في وصف المرصد السوري لحقوق الإنسان لما يحدث من جانب نظام الأسد في سوريا بأنه يصل إلي حد جريمة الإبادة الجماعية.
في هذا السياق, وإذا كانت هناك اليوم جهود دولية تبذل لاستصدار قرار دولي ضد النظام السوري( لحظة كتابة هذا المقال9/4), فإن الأحري بنا في مصر, وفي العالم العربي- أن نسهم في دعم هذه الجهود الدولية وتكثيفها, وأن نسعي إلي إصدار قرارات, واتخاذ مواقف وإجراءات عملية, تعبر ليس فقط عن إدانتنا كمصريين وكعرب للممارسات والانتهاكات الوحشية للنظام السوري الفاسد, وإنما أيضا تحيتنا وإجلالنا للشعب السوري البطل, الذي يضرب كل يوم أروع أمثلة البطولة والشجاعة والكرامة!
الأهرام