سوريا: أرقام لوصف ما لا يوصف/ أحمد بيضون
أبقى مع الموقع الفرنسيّ الذي اقترَحْتُ ترجمةً لاسمه «شَرْح النزاع السوريّ للغشيم» وقد أوجزتُ، في عُجالتين سابقتين، عَرْضَه صورةَ المواجهة الجارية في سوريا أو شريطها وتعريفه أطرافَها في الميدان العسكري وفي المضمار السياسي. على أن ما هو أوقعُ من هذه التعريفات للعناوين من عسكرية وسياسية جملةُ أرقامٍ يقدّمها العرض يمنحها ما سبق سياقاً ولكنها تخلع حياد الأرقام البارد لتقول بأفصح لسان حقيقة ما حصل ويحصل لسوريّا وللسوريين.
250 ألفاً إلى 400 ألف سقطوا قتلى. بينهم 185 ألف مدني قتل النظام الأسدي 95٪ منهم ورُبْعهم من النساء والأطفال. 11000 معتقل وثّق تقرير سيزار المشهور موتهم تحت التعذيب، وقال المدّعي العامّ السابق للمحكمة الدولية الخاصّة بسيراليون إن صورهم «لم يشاهَد ما يناظرها منذ أوشفيتس». وكان مصدر هذه الصور ثلاثة مراكز اعتقالٍ لا غير من أصل خمسين منتشرة في أرجاء البلاد. 60000 مفقود ومليونٌ ونصف مليون من الجرحى. تركيزٌ في الفتك على الجسم الطبّي الذي فقد 654 من عناصره قتل النظام الأسدي 93٪ منهم فيما غادر البلاد 15000 آخرون.
26٪ من المشافي أصبحت عاجزة عن العمل و33٪ أصبح عملها متعثّراً جدّاً. هذا في بلاد يحتاج فيها 11 مليون نسمة إلى العناية الطبيّة و13 مليوناً إلى المعونة الإنسانية وقد عاودت الظهور فيها أمراض خطيرة كانت قد اختفت منها شلل الأطفال وحتى الكوليرا. أعمّ من هذا أن معدّل الولادات قد هبط بمقدار 50٪… وهو ما يفاقم ما بات مشهوراً من أن 4,8 مليون من السوريين قد غادروا البلاد وأن 7 إلى 8 ملايين منهم قد نزحوا في داخل البلاد فأصبح واحدٌ من كلّ اثنين من السوريين يقيم في غير مسكنه. هذا ويقدّر عدد المساكن المدمّرة بـمليونين ومائة ألف ويزيد عدد المدارس المدمّرة عن 7000. وقد باتت الكلفة المقدّرة لإعادة الإعمار تبلغ 300 مليار دولار.
وفي الاقتصاد، هبط الناتج الداخلي بمقدار النصف وتراجع إنتاج التيّار بمقدار 70٪ والإنتاج الزراعي بأزيد من 40٪ وبلغ معدّل البطالة 50٪ ومعدّل التضخّم السنوي 50٪. وارتفع سعر الدولار في السوق السوداء من 47 ليرة سورية تقريباً في مطلع سنة 2011 إلى 220 ليرة في ربيع 2015 ونحوٍ من 300 ليرة في السوق السوداء. وقد دان الاقتصاد السوري بنجاته من الانهيار الكلّي للدعم الإيراني الضخم بالدرجة الأولى… من جهة أخرى، تناوب النظام وداعش على ثروة سوريّا التراثية تدميراً وسرقةً لتمويل الحرب.
وأمّا تدبير السوريين معاشهم فلا يزال قريباً، في بعض وجوهه، من حاله المألوفة في المناطق التي يسيطر عليها النظام: إذ هم فيها بمنجاةٍ من القصف إجمالاُ ويفيدون من الخدمات العامّة من إدارية وتعليمية وصحّية ولكن يشكون تقطّع التيّار وقلّة المياه وندرة محروقات التدفئة وغلاء السلع الضرورية الفاحش. وأمّا في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة فتتبدّى ضراوة الحرب بصورها كلّها. فبعض هذه المناطق محاصر حصاراً مطبقاً وهي عرضة للقصف الذي بات الطيران الروسي طرفاً فيه.
وقد بقي فيها من لا سبيل له إلى الرحيل. وتُوزَّع مقوّمات الحياة اليومية وتنظَّم الخدمات الأساسية محلّياً وتمارَس نشاطات تجارية مشروعةٌ وغير مشروعة. وأشدّ ما تبلغه قسوة العيش حاصلٌ في المناطق التي تهيمن عليها داعش حيث تعاني النساء من العزل وتطبّق عقوبات التعذيب والإعدام بلا رويّة ويهيمن الجهاديون غير السوريين على مرافق الخدمة والسلطة.
ولا يوصف بغير القسوة ما يلقاه اللاجئون السوريون في المخيمات التي أنشئت لهم في الأقطار المحيطة. فها هنا ترزح على الوافدين شروط سكن وعيش مريرة وإن يكونوا يحظون بعناية منظّماتٍ مختلفة في ميادين الصحّة وتعليم الأطفال وعمل النساء. وهو ما لا يمنع النشاط المافيوي والاتّجار بالممنوعات والدعارة. هذا ويعدّ اللاجئون السوريّون ـ على ما سبق بيانه ـ بالملايين ويصل بعضهم إلى مقاصدهم الأوروبية (أو لا يصلون) بعد رحلات مروّعة. وتفيد الاستطلاعات أن أكثرهم يحلم بالعودة إلى سوريّا بلا نظامٍ أسدي ولا دواعش.
يتوجّه العرض في صفحاته الأخيرة إلى الفرنسيين مجدّداً موضحاً تعذّر الفصل ما بين الخلاص من نظام الأسد والخلاص من داعش إذ كلّ منهما يعوّل في «صموده» على الآخر. وأمّا المخرج من هذه النكبة الكبرى فيرى منشئو هذا الموقع بصيص أملٍ فيه متمثّلاً في اجتماع فيينا الذي انعقد في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 وقد خلا من السوريين وانتهى إلى خريطة طريق اعتمدتها أطرافه السبعة عشر ومعهم الاتّحاد الأوروبي والأمم المتّحدة… وهي قد نصّت على مساق يقوده السوريون بعد وقف النار ينتهي، في غضون ستّة أشهر، إلى جدول أعمال يؤول بدوره إلى وضع دستورٍ جديد. تبع هذا الاجتماعَ قرار من مجلس الأمن تقدّم بنصّه الأمريكيون والروس معاً وقضى بفتح محادثات في مطلع السنة الجارية بين الحكومة السورية والمعارضة ترسم مساقاً للانتقال السياسي حدّد القرار محطّاته: من الحكومة الانتقالية إلى الدستور فإلى الانتخابات الحرّة في غضون 18 شهراً.
على أن هذا القرار لم يفتتح مرحلة هدوء بل أجّج القتال في ما بدا تسابقاً إلى تحسين المواقع الميدانية تمهيداً للتفاوض. ذاك ما عمدت إليه، على الخصوص، قوّات النظام يدعمها سلاح الجوّ الروسي. وهو ما يعزّز الخشية من أن يكون أفق السلام قد أخذ ينأى عن المتناول مرّةً أخرى. هذا الأفق يتعذر إدراكه، في كلّ حال، إن لم يحمل، في ما يتعدّى مساومات لا بدّ منها، إنصافاً لشعب أراد الحريّة والكرامة والعدل.
ذاك ما تراه منشئات هذا الموقع وقد جهدنا في تقديم اللُباب من مضمونه وما زلنا نرى، مع ذلك، فائدة في وضع نسخة عربية تامّة منه في تصرّف المتصفّحين تجاور النسختين الفرنسية والإنكليزية. وذاك أن «الغَشامة» ليست حكراً على الناطقين بلغتي موليير وشكسبير بل هي واسعة الانتشار بين الناطقين بلغة أدونيس…
لم يبق علينا، من بعدُ، غير أن نشكر على هذا الإنجاز، موقّعاته وهنّ إيزابيل هوسر وهالة قضماني وآنييس لوفالوا وماري كلود سليك ومانون نور طنّوس. جميعهنّ نساء وقد يكنّ أَوْلى، بصفتهنّ هذه، بالتحسّس المستتمّ الأبعاد لنكبة السوريين.
القدس العربي