سوريا: الأقليات والتطييف والثورة
علي العبد الله
ما فتئت قضية الأقليات في سوريا تثير جدلاً واسعًا بين القوى السياسية والاجتماعية في ضوء الثورة الشعبية والتغيير القادم، وهل سيكون في صالح تعميق التعايش الاجتماعي والاندماج الوطني أم سيكون بوابة لأزمات وصراعات دينية ومذهبية وقومية، وانعكاسه على هذه الأقليات وعلى مستقبلها، خاصة أن هناك من ينفخ في الرماد، كما يقال، مثل جبهة السلطة الاستبدادية التي تسعى إلى تضخيم الهواجس والمخاوف وتصب الزيت على النار بإثارة التوترات بين مكونات الشعب السوري على أمل التشكيك بالمستقبل الذي تبشر به الثورة، والتأثير على موقف الأقليات والقوى التي تدعي حمايتها من الثورة، أو جبهة بعض القوى الدولية التي تبحث عن موضع قدم في سوريا ما بعد نظام الأسد عبر بوابة حماية الأقليات من الأكثرية الصاعدة على خلفية الهواجس والمخاوف التي أطلقتها بعض الظواهر السلبية التي نبتت على سطح الثورة.
واقع الحال أن للقضية تاريخًا وأبعادًا مركبة ومتشابكة ومعقدة؛ فالعالم الإسلامي الذي تكونت فيه الشخصية العربية كان وما زال محكومًا بالثقافة الإسلامية بمكوناتها الثلاثة: العقيدة الدينية، الفقه الإسلامي، التجربة التاريخية، ومع أن هذه المكونات تتطابق في مرحلة وتتمايز وتتباين إلى حد التناقض في أخرى، فقد ظلت تتمتع لدى غالبية العرب المسلمين السنَّة بالقداسة باعتبارها الإسلام، إنها بالنسبة لهم كلٌّ موحد ومتجانس ومتسق، وهذا كرَّسها فكرة حافزة لاستجاباتهم وجعلها مقياسًا ثابتًا لسلوكهم ورد فعلهم على الأحداث والمتغيرات، أو بتعبير غراهام فولر “مقياسًا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد” (الشرق الأوسط: 24/9/2001).
في هذا الفضاء وتحت هذا السقف طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحولت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنة والجماعة أو السنة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم: شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين…. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية أي الولاء لشخص أو فكرة، وانفجار صراعات عنيفة ودامية، عمَّقت الخلافات الفقهية/الطائفية، وكرست انقسامات أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي، كل هذا أفرز قراءات مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت سارية في ثنايا التاريخ الإسلامي، يضاف إليها في كل جيل تفصيل جديد أو رواية جديدة مشوهة لحدث قديم. تراكمات متواترة بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، وأس الفساد والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصًا اعتباريًّا يرى في ذاته معبِّرًا عن الإسلام مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين أو العقيدة، ونال المذهب السني غلبةً كونه صاحب الأكثرية العددية ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/الطوائف الأخرى خوارج عليه.
مع انقطاع الدور الإسلامي الفاعل في التاريخ، وجمود الحضارة الإسلامية، ورسوخ قدم التخلف والانحطاط العقلي والثقافي والسياسي، بانتصار الأشاعرة والمتصوفة وسيادة رؤاهما الفكرية والسلوكية، وتآكل الإنجازات المادية والفكرية، وانكماش التطور الحضري، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من البداوة والتريف، ناهيك عن الحروب الداخلية والخارجية وما نجم عنها من مظالم وخسائر وكوارث اجتماعية، وهزائم عسكرية، وغياب مشرع سياسي إسلامي، انتقلت الخلافات إلى عمق الاجتماع الإسلامي، وتسربت المواجهات والمناكفات حتى بلغت القاع الاجتماعي عبر تداول روايات تنطوي على اتهامات وتكفير وتخوين يتم تداولها تعكس حالة خصومة شديدة إن لم تكن عداوة، الشتيمة الكبيرة بين شيعة العراق أن يقول شخص لآخر: عظْمُ سُني بقبر أبيك، وتشكُّل صور نمطية متبادلة، لكنها، الخصومة والعداوة، بقيت في أغلب الأحيان عند مستوى محدد لم تتجاوزه، بقيت نارًا تحت الرماد أو حربًا أهلية باردة إما لاعتبارات اجتماعية، نشير هنا إلى سبب عميق تميزت به البيئة العربية: القرابة، لعل أول من أشار إلى وزن عامل القرابة وحضوره في السلوك الاجتماعي والسياسي العربي قبل وبعد الإسلام هو الدكتور طه حسين في كتبه “على هامش السيرة” و”الشيخان” و”الفتنة الكبرى: عثمان” و”علي وبنوه”، أو لأسباب قاهرة حيث لعب النظام السلطاني بداية والاستبدادي لاحقًا دورًا كبيرًا في لجم التوترات الطائفية عندما لا يكون بحاجة إلى تسعيرها لتوظيفها في مواجهة مصاعب أو مشكلات يواجهها.
لم تكن العلاقة بين أبناء الأديان المختلفة في العالم الإسلامي، كما في بقية دول العالم، بأحسن حالاً من العلاقة بين أبناء المذاهب والطوائف الإسلامية فقد نسي أبناء هذه الأديان الأصل السماوي المشترك ودخلوا في حالة إنكار وتشكيك متبادلة، وتاهت تعاليم العقائد السمحة في ثنايا اجتهادات الفقه الإسلامي، وتعاليم الكنائس، والأحبار، وتلاشت محددات ثابتة لتنظيم العلاقة وضبط الاختلاف لصالح اعتبارات مصلحية، وانخرط اتباع الأديان السماوية في صراعات عقائدية وسياسية وحروب قاسية ومدمرة ترتب عليها عداء صريح تارة ومضمر أخرى، كرسه في المشرق العربي ما نجم عن اختلال التوازن السكاني الذي نجم عن انتشار الإسلام ودخول معظم سكانه فيه بعد أن كان يدين في معظمه بالديانة المسيحية.
مع ظهور الفكرة القومية وانتشارها، ونشوء الدول الوطنية، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبني أسس حديثة للدولة، أسس دستورية وقانونية، زادت الأمور تعقيدًا، حيث تحمس المسيحيون للقومية كمدخل للمساواة مع الأغلبية الإسلامية، وتحمست الأقليات الإسلامية للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية كمدخل للتساوي في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنية، بينما لم تنظر الأكثرية السنية إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا فقد رأت في تبنيها حطًّا من قدر الإسلام وخفضًا في مكانته، فالإسلام في نظرها متفوق ثقافيًّا وسياسيًّا، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدة موحدة، تجلَّى هذا الموقف بوضوح بموقف السنة من قيام دولة لبنان الكبير، ناهيك عن شكها الفكري والاجتماعي بـالعلمانية والديمقراطية والشيوعية ورفضها لها.
لم تنجح الدولة الوطنية في العالم الإسلامي في جسر الهوة بين مواقف مكوناتها الدينية والمذهبية والطائفية، ناهيك عن القومية والإثنية، فبقي الاندماج الوطني هشًّا وعرضة للاهتزاز والتفكك عند أي تحد، والوحدة الوطنية مرهونة بقوة السلطة وقدرتها على ضبط الحراك الاجتماعي والسياسي أكثر من ارتباطها بالتماسك الداخلي.
الوضع في سوريا، وكذلك العراق، أكثر تعقيدًا فقد عاش السوريون حالة إضافية من التفتيت والتشتيت نتيجة لسياسات النظام الذي حكمهم باسم العروبة والاشتراكية ومارس ضدهم أبشع أنواع الظلم والقهر، نظام حكم تسلطي تعسفي تمييزي بدأ مع ما سُمى بـ “ثورة” 8 مارس/آذار عام 1963 بإقامة نظام استبدادي مبني على هيمنة الحزب الواحد شكلاً وعلى سيطرة الجيش واقعًا. نظام عسكري: جيش له دولة وحزب بعبارة المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري، قبل أن يحوله حافظ الأسد بعد ما سُمي بـ “الحركة التصحيحية” 16 نوفمبر /تشرين الثاني 1970 إلى نظام استبدادي أكثر سوءًا قائم على هيمنة الرجل الواحد، نظام يرتكز على شخصنة السلطة، وعبادة الفرد، عبر السيطرة على الجيش بالاستناد إلى عصبية طائفية؛ فقد بدأ بإخراج آلاف الضباط، ممن توقع أن يعوقوا سيطرته، من الجيش بإحالتهم الى التقاعد، أو بفصلهم منه لأسباب مفتعلة، أو بتصفيتهم جسديًّا بذريعة قيامهم بالتآمر على النظام “التقدمي”، أو باعتقالهم لسنين طويلة من جهة، ومن جهة ثانية وضع ضباط من لون طائفي واحد (علويين) في مواقعهم، كان من مفارقات هذه الحملة ترفيع آلاف الضباط العلويين بعد هزيمة أكتوبر /تشرين الأول 1973 ووصول القوات الإسرائيلية بلدة سعسع على مشارف دمشق، والتي سُميت زورًا وبهتانًا حرب تشرين التحريرية، ونال عليها الأسد الأب وصف بطل التشرينين: تشرين التحرير وتشرين التصحيح، مكافأة لهم على “الانتصارات” العظيمة التي حققوها؛ حصل رفعت الأسد، وكان وقتها نقيبًا، على نجمتين، شهد الجيش بعدها ما عُرف بظاهرة العليات ( علي حيدر، علي أصلان، علي حسين، علي إبراهيم) التي سيطرت على الجيش قبل أن يصعد نجم أولاد الأسد: رفعت في سرايا الدفاع، عدنان في سرايا الصراع، وأخيرًا باسل وبشار وماهر الذين أُقحموا في القوات المسلحة وتخرجوا ميجورات في دوراتهم.
غير أن خوف حافظ الأسد وحذره من الجيش، لمعرفته بطبيعة الجيش السوري وما يمكن أن يحصل داخله من مؤامرات، وما تحاك فيه من دسائس جعله لا يركن إليه، ولا يطمئن على حكم العائلة في غيابه، ودفعه إلى إعادة تشكيل الجيش على شكل فرق مستقلة ومكتفية بذاتها من جهة وإعطاء سرايا الدفاع التي يقودها شقيقه أفضلية في التسليح والتدريب والسلطة بحيث يضمن عدم وقوع انقلاب باتفاق عدد من الضباط، قبل أن يتحول، بسبب عدم ثقته بموقف الضباط العلويين من حكم الأسرة، فكلهم يطمحون إلى خلافته في السلطة، إلى تشكيل أجهزة مخابرات متعددة ومتنافسة ومتصارعة تلعب دور السيطرة على المجتمع والجيش في آن ويسيطر هو عليها عبر تغذية طموحات قادتها وتشجيع التنافس بينهم على كسب رضاه، والصراع على الهيمنة على السلطة والمجتمع، كل هذا وهو يحضِّر وريثًا للحكم: ابنه البكر باسل.
كرست عملية إعادة تشكيل الجيش وتأسيس أجهزة المخابرات هيمنة أبناء الطائفة العلوية فيهما، قبل أن يبدأ غازي كنعان بإطلاق حملة “علونة” جهاز الشرطة، ناهيك عن ملء دوائر الدولة والمدارس بالموظفين العلويين. لقد استدرج أبناء الطائفة العلوية ليكونوا جيش وأمن النظام وظهير سلطة بيت الأسد عبر استخدامهم في حمايته مقابل منحهم حظوة أمنية واجتماعية واقتصادية؛ فأصبحوا عصبية النظام بالتعبير الخلدوني.
في مستوى آخر سعى حافظ الأسد إلى تجميد الاندماج الوطني، إن لم يكن تفكيكه، عبر إثارة المخاوف والهواجس في أوساط الأقليات، ناهيك عن دق إسفين بين العرب والأكراد باتهام الأخيرين بالسعي إلى الانفصال واقتطاع جزء من أراضي سوريا، وتخويفهم من الطائفة السنية التي في حال استلامها للسلطة ستبيدهم، جرى ذلك بدعوة الأقليات الدينية (المسيحيين) والمذهبية (الدروز والإسماعيلية) إلى التحالف مع العلويين لدرء هذا الخطر، قالها لهم حافظ الأسد إبّان أزمة ثمانينيات القرن الماضي، ويقولها بشار الأسد الآن، وأعطاها امتيازات، وإن بدرجة أقل من امتيازات العلويين، كما لجأ إلى محاصّة طائفية في الوظائف والمناصب العليا، خاصة في الجيش وأجهزة المخابرات؛ ما ترتب عليه مزيد من ربط هذه الأقليات بالنظام الاستبدادي وضرب أساس الدولة المدنية وسيادة القانون، وتدمير الحياة السياسية بتحويلها إلى منظومة ولاء للرئيس وإسباغ القداسة عليه وعلى أقاربه وأعوانه بصورة أدت إلى تغولهم وسيطرتهم على مقدرات البلاد الإدارية والمالية بوضع اليد على الدورة الاقتصادية، ونهب المال العام، وتخريب القيم الاجتماعية، وضرب المنظومة الأخلاقية عبر إشاعة آليات الفساد والإفساد التي رعتها أجهزة المخابرات، وتفكيك الوحدة الوطنية بتلغيم المجتمع بالمخاوف والهواجس وخلق انقسامات عمودية بين المواطنين والمناطق عبر إشاعة التمييز بينهم في الحقوق والواجبات لتنتهي إلى تجويف كامل للنظام الجمهوري عبر عملية توريث السلطة.
لذا كان من الطبيعي أن نجد في مقدمة القوى المدافعة عن النظام علويين في الغالب، وأبناء طوائف صغيرة بدرجة ثانية، هذا لا يعني عدم وجود سنَّة لأن الكثرة العددية والتحالفات والمصالح وضعت عددًا منهم في السلطة ولكن بمواقع وأدوار غير حاسمة؛ فالسياسة التي عملت على إخضاع المجتمع والدولة السوريين وبرمجة سلوكهم وتنميط ردود أفعالهم لن تفرز إلا هذه المظاهر.
مع انفجار الثورة الشعبية جدد النظام الاستبدادي حملته ونشط أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطَّط، في إطار الدفاع عن سلطته، لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية لاعتبارات عديدة أهمها: تحشيد الأقليات بعامة والطائفة العلوية بخاصة حوله وربط مصيرها بمصيره، تخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وخاصة المسيحية في مغازلة للغرب الذي طالما لعب بورقة حمايتها تغطية لأطماع استعمارية، تسعى للاستفادة من المذهبية والعرقية المنتشرتين في سوريا فحسب بل وفي دول المنطقة التي تعاني من انقسامات دينية وطائفية مماثلة. لذا لم يكن صدفة أن تُسرَّب فيديوهات تصور عمليات القتل والتعذيب والاغتصاب والمجازر وذبح الأطفال والشيوخ والنساء تشي بطائفة “أبطالها” صراحة من خلال لهجتهم: “بدكن حرية، هاي مشان الحرية”… إلخ، في محاولة واضحة لاستدراج رد فعل مماثل يقود إلى تسخين المواقف ودفع الطوائف إلى الانخراط في حرب قاتل أو مقتول.
لم تنجح قوى الثورة، ولا قوى الأكثرية المذهبية: السنة، في اختبار مقاومة الاستدراج فانزلق بعض أبنائها إلى موقف طائفي، وراح تحت المعاناة الدامية، والألم الشديد الذي ترتب على وحشية النظام وقواته (الجيش والمخابرات والشبيحة)، وهول الصدمات التي أحدثتها صور الأطفال والنساء والشيوخ المذبوحين، والجثث الممزقة والممثل بها، والصبايا المغتصبات، يهاجم الطوائف الموالية للنظام، وخاصة طائفتي العلوية والشيعة؛ الأولى كونها طائفة رئيس النظام، ومصدر عناصر قوة بطشه المباشرة، والثانية كونها طائفة حلفائه في إيران والعراق ولبنان (حزب الله) وامتداداتهما في العالم الإسلامي، ومصدر الدعم المباشر العسكري والفني والمالي، والدخول في مناكفات صبيانية عبر تسميات الجُمَع، والكتائب فيما بعد، بأسماء تعكس فرزًا طائفيًّا، أو رفع شعارات وهتافات استفزازية مثل الهتاف الذي أُطلق في بعض أحياء حمص: “قرداحة جني جني؛ راح يحكمك سني”، وحملات شتائم وتهديدات فيسبوكية لهذه الطوائف.
ومع ذلك يمكن ملاحظة بقاء هذه النزعة عند حدود الهجوم اللفظي في الغالب الأعم والقليل من الفعل المباشر: خطف بعض العلويين والعلويات للمبادلة بمخطوفين من السنة، وهجمات انتقامية على الأحياء العلوية في حمص بخاصة، حيث أخذت وحشية النظام صورتها الأقسى والأبشع، في لحظة توتر وهياج إثر حصول قصف أو اقتحام، واعتقالات واسعة.. إلخ، وخطف بعض اللبنانيين والإيرانيين في سعي لتقديم قرائن على اشتراك حزب الله وإيران في الصراع بدليل وجود هؤلاء الأتباع في سوريا في هذا الوقت وهذا المكان.
هذا دون أن ننسى الإشارة إلى الدور الذي لعبه الإعلام، المرئي بخاصة، في تصعيد التوتر الطائفي في سوريا من خلال الفضائيات (وصال والصفا والمجد وصلة والرسالة السنية، وأهل البيت، والنعيم، والغدير، والمنار الشيعية) التي تعج بأحاديث التكفير لأبناء الطوائف الأخرى، ونقل فتاوى تحث على الكراهية المذهبية والتحريض على العنف الطائفي (فتاوى العرعور ومقولة: الدم السني واحد، وأحاديث بعض رجال الدين الشيعة المحرِّضة على الكراهية وتحليل قتل الأطفال السنَّة)، أو من خلال استضافة مواطنين أو شهود عيان ونشطاء ميدانيين ليس لهم ثقافة سياسية، ويعانون من ضغط نفسي بسبب معايشتهم للقتل والدمار ومقتل الأهل والأحبة وسؤالهم عن الدوافع التي تقف وراء القتل والمجازر وعمليات الذبح التي يرتكبها النظام ضدهم ومبرراتها فلا يجدون إلا السبب المذهبي، أو كما عبَّر أحدهم: “عم يقتلونا لأنو عم نهتف: قائدنا سيدنا محمد”، كمدخل متوهم من قبل إدارة هذه الفضائيات هدفه جذب قطاعات شعبية إلى المشاركة في الثورة.
هذا بالإضافة إلى سلوك بعض الدول الإقليمية وتعاطيها مع الثوار بمعايير تنسجم مع توجهاتها المذهبية عبر توجيه الدعم والمساعدات المالية والإغاثية والعسكرية إلى جهات بعينها والدفع باتجاه تمكينها ووضعها في صدارة المشهد السياسي، واستخدام دول كبرى للتحريض الطائفي ضد إيران الشيعية كتكتيك لعزلها ومحاصرتها وإضعافها وضرب نفوذها في الإقليم، وانعكاس ذلك على صورة الثورة والثوار من جهة وتداعياتها على المجتمع السوري من جهة ثانية.
غير أن التطييف سابق على الثورة السورية بعقود والذي يحصل فيها ليس أكثر من ارتدادات للشحن والتوتير الذي شهدته المنطقة قبل ذلك بفترة طويلة بدأت مع تحرك الغرب ضد الدولة العثمانية نهاية القرن التاسع عشر وحصول دول منه ( فرنسا، بريطانيا، روسيا)، قبل أن تدخل الدولة الوليدة الولايات المتحدة الحلبة عبر التبشير بالمذهب البروتستانتي، على امتيازات تجارية وقانونية بما فيها حقوق حماية الأقليات الدينية والمذهبية (كل دولة حصلت على حماية طائفة من الطوائف المسيحية ولما لم تجد بريطانيا طائفة مسيحية مرتبطة بالمذهب السائد فيها أخذت حق حماية طائفة أخرى وهي: الموحدين/الدروز)، واستخدام هذه الامتيازات والحماية في ابتزاز الدولة العثمانية واحتواء وضرب تحرك محمد علي باشا والي مصر الطموح إلى حكم الدولة العثمانية، وهي المرحلة التي شهدت انطلاق المشاعر والعواطف المتضاربة والعدائية نتيجة هيمنة المسيحيين على الاقتصاد وحصولهم على المناصب والوكالات التجارية والتعليم… إلخ، وانفجار صراعات ومواجهات دامية بين المسيحيين والدروز في العام 1860، وتنقل العشائر بين الأديان والمذاهب للاستفادة من الحماية وللحصول على مكاسب مادية مباشرة: الاستقلال عن الدولة العثمانية في ولايات مستقلة، جبل لبنان أيام المعنيين والشهابيين (يمكن العودة إلى كتاب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين بازيلي في تلك الفترة “سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني” الصادر عن دار التقدم في موسكو عام 1989، وكتاب دومينيك شوفالييه “مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا” الذي نقلته عن الفرنسية الأستاذة منى عبدالله والصادر عن دار النهار عام 1994)، قبل أن تتفق الدول الكبرى على اقتسام تركة الرجل المريض وتقضي على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
لم تنته الأمور عند الامتيازات والحماية بل دخلت مرحلة أعقد واخطر مع اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو وسيفر ولوزان ووعد بلفور، وعهود الانتداب حيث القاعدة الاستعمارية للسيطرة: فرِّقْ تَسُد، وإطلاق آلية التفتيت عبر تقسيم سوريا إلى دول طائفية، وتحريض البريطانيين للآشوريين على التمرد على السلطة في العراق، واستثمار قضية حقوق الشعب الكردي في الصراع على النفوذ بين الغرب والاتحاد السوفيتي، وسعي إسرائيل لتفتيت دول الجوار على أساس ديني ومذهبي لتبرير قيام دولة إسرائيل على أساس ديني من جهة، ولإضعاف هذه الدول من جهة ثانية (دراسة يديد ينوون: إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات، منشورة كملحق في كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة “دفاع عن ثورة مصر العربية”، القاهرة، دار المستقبل العربي 1990).
مع معركة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وقيام الدولة الوطنية عادت الأوضاع إلى التعايش والتفاهم، فقد أطلقت معركة الاستقلال دينامية وحدوية كرّست حالة وحدة واندماج وطني جسدتها الثورة السورية الكبرى التي جمعت سلطان باشا الأطرش الدرزي والشيخ صالح العلي العلوي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الأشمر السُّنَّة، والتي امتدت إلى الجلاء والاستقلال وقيام حكم وطني رئيس وزرائه فارس الخوري المسيحي الذي اختارته الأغلبية المسلمة، قبل أن تعود مرحلة الاستبداد التي دشنتها الأنظمة “التقدمية” بتبني عقائد سياسية وتحويلها إلى دين للدولة، وفرضها على المجتمع، وإطلاق دينامية معاكسة، تفتيتية وتدميرية هدفها إحكام السيطرة على المجتمع والتحكم بإيقاع حياته وردود أفعاله.
أما الموجة الحديثة من التطييف والتوتر وانطلاق الصراعات المباشرة بين المذاهب، خاصة السنة والشيعة، فقد انفجرت في ضوء حدثين إقليميين: الثورة الإيرانية، واحتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان: الأول: عبر اعتماد إيران نظام ولاية الفقيه، واعتبار دستورها المذهب الجعفري الاثني عشري دينًا للدولة، وتبني سياسة تصدير الثورة والولاية على الشيعة أينما كانوا وبغضِّ النظر عن أعراقهم وأوطانهم، والعمل على استتباعهم وما نجم عنها من توترات وحروب، الحرب العراقية الإيرانية وتوتير المناخ بين السنة والشيعة وتفجير المشاعر الطائفية، ووضع اليد على المواقع التاريخية والمزارات التي يقدسها الشيعة، مثل مزار الست زينب في دمشق وقبر أويس القرني في الرقة، لربط ممارسة هذه الطقوس بالنظام الإيراني والسيطرة على الدورة الاقتصادية المرتبطة بها، والتحكم بمشاعر وعواطف أبناء الطائفة، والعمل على نشر التشيع عبر التبشير وبذل المال بسخاء في الدول الإسلامية المجاورة (سوريا، مصر، السودان، تونس، المغرب) كوسيلة لخلق نفوذ والحصول على موطئ قدم في هذه الدول، وتشكيل لوبيات داخلها تلعب دور “حصان طروادة” أو “طابور خامس” في خدمة النظام الإيراني، وهذا استدعى تصعيدًا في المشاعر الطائفية ونبش الماضي بكل مآسيه. إبّان قيام الثورة الإيرانية نشر شاعر شيعي قصيدة في مجلة الشراع، مجلة حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري القومي، استعرض فيها المواقع والمذابح التي تعرض لها المسلمون الشيعة على أيدي جيوش الخلافة السنية وختمها بعبارة استفزازية: “سنجمع دَيْن التاريخ كله ونأخذه دفعة واحدة”. وكعينة على ما تفعله إيران الإسلامية لنشر المذهب الشيعي بين السنة ما قامت به في محافظة دير الزور شرق سوريا حيث تقيم عشائر عربية مثل عشيرة البكارة، تقول: إن التسمية جاءت من انتسابها إلى محمد الباقر أحد أئمة الشيعة، وعشيرة البوبدران، التي تزعم أن جدها الأول هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهما عشيرتان سنيتان، فقد استثمرت الحديث عن صلة الرحم مع أئمة الشيعة وعلاقة القربى الحقيقية أو المدعاة، وبذلت المال في وسط فقير لجذب أفراد من هاتين العشيرتين إلى المذهب الشيعي، كيف تنتمون إلى من قتل جدكم؟! هكذا قالوا للبوبدران، والمؤسف أن أول دروس عملية التشييع إشاعة شتم أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين بين “المؤمنين” الجدد، وهذا أثار التوتر والاقتتال بين أبناء العشيرة الواحدة.
أما الثاني، الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، فعبْر توظيف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين للعامل الديني لحشد المقاتلين والممولين وراء حركات الجهاد الأفغاني وما ترتب عليه من نتائج: ولادة تنظيم القاعدة وما تمثله من ثقافة وسياسة تكفير الحكام والمذاهب الإسلامية غير السنية، وخاصة الشيعة، وانطلاق نشاطات تنظيمية وعسكرية في عدد من الدول العربية والإسلامية على خلفية تحريرها من الحكام الكفرة وتطبيق الشريعة قبل تبنيها لإستراتيجية محاربة العدو البعيد (الكفار واليهود) أولاً، وتنفيذ عمليات إرهابية كثيرة وكبيرة في عدد من دول العالم ضد المصالح الغربية بعامة والأميركية بخاصة بما فيها “غزوة” نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول عام2000، واحتلال أفغانستان والعراق من قبل الولايات المتحدة وبدء الانتقام من الشيعة في العراق “لدورهم” في هذا الاحتلال.
هل ستنجح الثورة السورية، كما فعلت القوى الوطنية السورية في مرحلة التحرر من الاستعمار، في إعادة التوازن إلى المجتمع السوري، وتعيد الاعتبار لمنطلقاتها السياسية والأخلاقية كثورة حرية وكرامة، وتحقق النصر على النظام الاستبدادي وعلى النزوع السلبي نحو التمييز الديني والمذهبي الذي انتشر كطفح جلدي على سطحها، وتنفيذ برنامجها للمرحلة الانتقالية القاضي بمنع الفوضى والانتقام أو الاقتتال الطائفي وتحقيق عدالة انتقالية على قاعدة المصارحة والمصالحة بسلاسة ويسر وإقامة نظام ديمقراطي على قاعدة المواطنة، وإشاعة العدل والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق والجنس واللون والدين والمذهب في ظل سيادة القانون، كمدخل لتكريس دينامية توحيدية واندماج وطني. إنها مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة.
علي العبد الله – كاتب سوري