سوريا الجديدة.. خطوات التأسيس/ طيب تيزيني
تبرز أهمية «خارطة العمل» مع التأسيس لمشروع عمل ما، سواء تحدد ذلك من هذا الحقل أو ذاك من حقول العلوم الطبيعية أو الأخرى الاجتماعية، أو من هذه الممارسة العملية أو تلك. ولعلنا نرى في حضور «خارطة العمل» تلك معادلاً لخمسين بالمائة من نجاح العمل المعني. ولذلك أولى العلماء والباحثون ذلك أهمية كبرى إلى درجة أن نمطاً خاصاً نشأ ضمن منظومة العلوم، هو علم المناهج أو المنهج. وقد كنّا تحدثنا وكتبنا حول ذلك في بدايات الحدث السوري والعربي الكبير، وقد جاء ذلك على قناة الجزيرة وفي مواقع أخرى، تحدثنا حينذاك – وما زال ذلك صحيحاً وذا مصداقية، بل إن مصداقية هذا تضاعفت وتعاظمت، يداً بيد مع مزيد من التأكيد، أي على نبذ وجهة النظر القائمة على «العفوية».
لقد أكدنا ذلك بصيغتين اثنتين، تقوم الصيغة الأولى على ترك الأحداث تسير دونما تدخل باسم «الواقعية» والابتعاد عن التدخل في الحدث.
أما الصيغة الثانية، فتظهر باسم السماح للجميع في مجموعة أو منظومة ما أن يظهروا، مبعثرين كما هم، ومن ثم دون العمل على جمع الآراء كلها في موقف أو في رؤية واحدة، لا لأنه يغفل رأي أو موقع، ومن ثم، لا يقصي رأياً «فيسود الإقصاء»، كما يرى أصحاب هذه الصيغة، إن هذا وذاك كنّا – وربما ما زلنا – نلاحظ وجودهما في أوساط «التجمع الثوري السوري المعارض» الذي يشتمل خصوصاً على «المجلس الوطني» و«الائتلاف».
في التعليق على ذلك، لا يمكن تجاوز الوضعية التي انطلق منها الجَمع المذكور توّاً. لقد انطلق هذا وانطلق معه الوضع السياسي والأيديولوجي في سوريا من هيمنة ديكتاتورية مارسها النظام منذ عام 1963، وهو العام الذي ظهر فيه الانقلاب العسكري، وأسكت الحياة السياسية والتعددية في كل الحقول، وغاب الحوار على امتداد خمسة وأربعين عاماً، إنه نظام شمولي قائم على قانون الاستبداد الرباعي. وظهر ذلك ليس في البلد عموماً، بل كذلك في الحزب الشمولي الوحيد كما في الأحزاب الأخرى الممنوعة والمسموح بها. لقد هيمن الحزب الواحد والقائد الواحد أو الأوحد، وغاب ما دونه. كيف والحال كذلك، ستنشأ حياة سياسية قائمة على التعددية والحرية بما تنطوي عليه من استحقاقات كثيرة، وهذا «أمر خطير»!
ظهور خلافات في «التجمع الثوري السوري المعارض» كان معناه أن التجمع بعد نشأته لم يكن قادراً على الإجابة الدقيقة الصارمة عن حيثيات وشروط الحوار المطلوب، دون الوقوع في أخطاء هنا وهناك. ولهذا كان مهماً جداً التأسيس لحياة لا تغلق النوافذ والأبواب، كما ينبغي، في سبيل حياة مفتوحة مدعمة من قبل كل من يشكل «التجمع» المشار إليه، من هنا، كان اقتراحنا في بداية تأسيسه أن يقوم ذلك على ثلاث خطوات هي التالية:
1- تأسيس مركز أو قسم للدراسات ضمن التجمع؛ يستعين بكل أو بمعظم تجارب النشاط الثقافي والعلمي والتنظيمي، سواء في الداخل أو في الخارج، وبآليات ديموقراطية فعلية وليست شكلية ومترهلة، من ثم، فأخذ القرارات كلها لا يتم بأصوات «أصلية» دون الأصوات «الأخرى» أولاً؛ وثانياً لا يتم ذلك على أساس أن الصوت الواحد يتمثل في تجمع أو تيار أو حزب، وإنما أن تؤخذ آراء المجموعة الواحدة كلها آحاداً آحاداً، وليس على أساس أن المجموع يمثل صوتاً واحداً. ومن ثم، تصبح المسؤولية مفردة، وكذلك مجتمعة في آن واحد، ومن أجل ذلك وغيره، تبرز أهمية الموضوع، وكذلك ضرورة التأسيس لقسم أو مركز يعالج ما يتصل بذلك، مستعيناً بالمنهج التاريخي.
2- وإذا كنّا قد رقمنا الخطوة السابقة بـ «1»، فقد فعلنا ذلك ونحن ندرك أن الخطوة الأولى في هذا الترتيب يمكن أن تأتي تحت رقم «2»، لأن مسألة «الانتخابات الحرَّة»، التي تمثل حجراً تأسيسياً في عمل «التجمع الثوري السوري المعارض»، يمكن أن تتم، بعد أن يكون مؤسسو هذا التجمع قد التقوا وراحوا يتعارفون تعارفاً تعارفاً إنسانياً وربما كذلك سياسياً يمكن أن يفضي إلى التعارف المعرفي المنهجي، وأخيراً، تبرز الخطوة الثالثة، فتقوم على ضبط المشكلات والإشكاليات والمعضلات التي ستكون على «التجمع» المذكور أن يبحث فيه، بعد أن يكون صنفه وحوّله إلى متحدراته السياسية التاريخية والأخرى الاقتصادية التاريخية والمنهجية المعرفية الكبرى أولاً، وإلى استراتيجية أو استراتيجيات العمل السياسي وغيرها ثانياً.
هكذا وعلى أساس هذه الإشكاليات المتعددة والقابلة لتحويلها إلى إشكالية واحدة مركزية، تتفتق الواجبات والمهمات الاستراتيجية والتكتيكية المطالبين بالإجابة عنها وتحويل ذلك إلى مهمات يتلقفها الفاعلون هنا وهناك مع المنظرين الباحثين، وكذلك وفي سياقه مع «الكتلة التاريخية» من الشعب. وبتعبير أكثر ملامسة، تتشكل مقولات حاسمة تمثل مرتكزات العمل في إطار تلك الكتلة التاريخية، وربما كان في مقدمتها مفهوم الوعي التاريخي، وكذلك مفهوم الانتصار التاريخي عبر شبكة الفواعل الديموقراطية … إلخ.
ما أتينا عليه لا يمثل أكثر من مشروع لنص لعله أن يتحول إلى حافز معرفي سياسي في أوساط من سئموا «نصوص» أحزاب سياسية شمولية تحمل عوامل تفككها وتصدعها، وبالتالي عوامل شموليتها واستفرادها للواقع السوري راهناً ومستقبلاً. فمنذ أكثر من نصف قرن تمت المصادرة على الحياة السياسية والثقافية وكل ما يتصل بها، وكأنها مصادرة أتت من قلب ما قبل الاستقلال، أي بمثابتها امتداداً مركباً ومعقداً لمرحلة الاستعمار الفرنسي وللأربعة قرون العثمانية. وبعد هذا وذاك وذلك، يأتي أخيراً من ينصحنا بالبقاء في الحاضنة التي تشكلت منذ عقود، ويراد لها أن تستمر عقوداً أخرى. وليس من غضاضة في ذلك؛ فهنالك من أتى ويريد أن يقنعنا، في الداخل والخارج، بأن نقبل الدخول إلى «غرفة الإنعاش الأبدي». ذلك لأن النظام العولمي إذ جاء وراح يهيمن، لم يعد لديه «خطاب» لشعوبه إلا الأبدية، واتضح أن لا أحد وحده يمتلك «الأبدية»، وإنما هنالك من يرى أن نظماً أخرى، مثل النظام السوري وغيره تقوم على الخارق الأبدي. لسنا ممن لا يشكك في ذلك. ولكن لنر ما الذي يحل بالمشروع السوري الجديد. والتجربة من أصول البحث العلمي والمجتمعي! بقدر ما التجربة أكبر برهان.
الاتحاد