سوريا بلا بوصلة/ بشير البكر
تقول كلمات الاغنية اليمنية ” كلما صفت..غيمت”. وقد كتبها الشاعر الراحل محمد حسين المحضار في وصف وضع اليمن على أبواب حرب 1994. صحيح أنها لامست المشكلة اليمنية حينذاك، ولكن يمكن لنا اليوم، أن نسقط مضمونها على القضية السورية، التي بدت لوهلة وكأنها تقترب من طريق النهاية، لكنهاعادت إلى البداية. ورغم أن الجو العام لم يكن يبشر بصحو قريب قبل مجزرة الغوطة، إلا ان التداعيات المحلية والخارجية التي تلتها باتت تؤشر إلى أن الوضع يتجه في مسار ملتو خارج كل الحسابات، وبغض النظر عن صدق أو كذب نوايا الأطراف الخارجية لجهة إيجاد مخرج أو تحقيق تسوية، أضاع السوري العادي اتجاه البوصلة، وصار يصحو كل يوم على التردد والارتجال الدولي، خصوصا من جانب الولايات المتحدة.
وبعد تدني احتمالات الضربة العسكرية الغربية للنظام، تدهور الموقف السوري الداخلي على نحو مريع، وازداد حدة وانقساما. على صعيد النظام هناك ما يشبه التقاط أنفاس كاذب في ظل استمرار مسلسل التراجعات الميدانية، ومع أن الفئة الحاكمة المخثنة بالجراح تمني النفس، بأنها تجاوزت عنق الزجاجة، وتسير باتجاه احراز النصر ، فإنها تدرك بأن الوقت لا يلعب لصالحها. وفي هذا الوقت يسود احباط عام ومرارة في المعسكر المقابل، الذي كان يأمل بأن تكون الضربة العسكرية للنظام قاضية.
صحيح أن التحرك السياسي الدولي قد خطا في اتجاه استصدار قرار من مجلس الأمن، ينص على الدعوة لعقد مؤتمر جنيف 2، إلا ان المفارقة هي ما يشعر به السوريون اليوم على نطاق واسع، وهي انهم متروكون إلى مصير مجهول، وليس هناك من يكترث بهم، او يبحث لهم عن حل يخرجهم من الحالة المزرية التي وصلوا اليها، بفعل وحشية النظام. وصف الاحساس العام بالخذلان قليل جدا، فبعد أن كان الناس ينتظرون أن يُعاقب النظام بسبب استخدام الاسلحة الكيماوية في الغوطتين، اكتفى العالم بقرار من مجلس الأمن ليس فيه للضحايا أية حصة. بل أكثر من ذلك، تحول الاهتمام الاميركي فورا من منطق معاقبة النظام السوري بسبب ارتكاب جريمة ضد الانسانية، إلى فتح صفحة حول السلاح النووي الايراني، وباشر الرئيس الاميركي باراك أوباما حفلة غزل مع ايران، تمهد لفتح صفحة جديدة في العلاقات ما بين واشنطن وطهران، من شأنها أن تعيد خلط الأوراق في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. وهي ستنعكس سلبا على الثورة السورية، التي يضيق من حولها الحصار، ولا تجد أمامها مع مرور الوقت سوى خيار وحيد هو القتال، الذي صارت كلفته البشرية والمادية والسياسية باهظة جدا.
أمام وضع ينذر بكوارث كثيرة في سوريا، ثمة مؤشرات عدة تستدعي التفكير مليا، لأنها ستطبع الفترة المقبلة، وتتحكم بمجرياتها . الأول هو، اعلان العديد من الكتائب المقاتلة وقوفها ضد تشكيل حكومة معارضة مؤقتة لادارة المناطق المحررة، ورفضها تمثيل الائتلاف السوري. ومن بين أشياء كثيرة تعنيها هذه الخطوة تسميتها ب “البيان رقم واحد”، كما أنها تلخص واقع الحال الذي بلغه الائتلاف، من انقسامات وضعف وعدم قدرة على التأثير داخليا وخارجيا. والمؤشرالثاني هو، حصول عمليات اندماج سريعة بين عشرات الكتائب المقاتلة في مناطق ريفي دمشق وحلب. وما يجمع هذه الكتائب هو الصبغة الدينية السلفية من جهة، ومن جهة ثانية انها تشكل القوة الرئيسية المقاتلة في محيط العاصمة.
أما المؤشر الثالث فهو، تعزيز “دولة العراق والشام الاسلامية” ( داعش) مواقعها في المناطق التي تتمركز فيها، واستقدام مقاتلين واسلحة من العراق، وفتح جبهات جديدة في ريف حماة وفي اتجاه مدينة حمص. وهذا الأمر لا يمكن أن يجري النظر إليه بمعزل عن توحيد الكتائب الاسلامية السورية صفوفها، إذا أخذنا في الاعتبار انها في مجملها على مسافة من “القاعدة”.
الخلاصة التي يمكن الوقوف أمامها في الوضع السوري هي زيادة الفرز مع العودة إلى طرح موضوع جنيف 2، ويبقى المظهر البارز لذلك تصدر الاطراف الاسلامية للساحة، وهي تتوزع بين السوريين الذين ينزعون للسلفية، والمقاتلين القادمين من الخارج في اطار تنظيم “القاعدة”. ومن الناحية النظرية فإن كل هذه التشكيلات هدفها انهاء النظام، ولكنها في ذات الوقت مشغولة بمشروع اقامة حكم اسلامي على اختلاف المسميات. الأهمية الحصرية لذلك، بوجود الاخضر الابراهيمي او من دونه، هي ان سوريا تتجه إلى عتبة جديدة من النزاع، طابعها طائفي، وعلى منواله سوف ترتسم خطوط الطول والعرض بسرعة شديدة.
المدن