سوريا تعيش صراع مصطلحات: «حرب أهلية» أم «نزاع داخلي مسلّح»؟
هيفاء زعيتر
في علم السياسة والإيديولوجيا، ثمة خط بالغ الدقة يفصل بين وقوع حرب أهلية وبين التهويل بوقوعها. أما في الأزمات الطويلة والمتداخلة إقليمياً ودولياً، فغالباً ما يضيع هذا الفاصل، بين حقيقة حصول اقتتال فعلي، إما على السلطة أو من أجل إلغاء الآخر، وبين استحضار إيديولوجيا الحرب الأهلية والترهيب بها من أجل الحشد السياسي وتسخير دفة الصراع لخدمة المصالح الإستراتيجية.
في النزاع الدائر في سوريا حالياً يبدو التقاط هذا الخط أشبه بمهمة مستعصية، فبعدما سارع المحللون إلى الاستعانة بمصطلحات جاهزة لتوصيف الوضع، مثل «اللبننة» و«العرقنة» و«الصربنة» و«االليبنة»، يبدو من الضروري اللجوء إلى فقه القانون الدولي، فالعودة إلى الأخير، بمواثيقه وأعرافه، تأتي كمحاولة لفهم الحيثيات التي تدفع طرفاً معيّناً للإصرار على وجود «حرب أهلية» مقابل رفض صارم من طرف آخر يؤكد اقتصار ما يجري على مسمى «اضطراب».
وفي السياق تجدر الإشارة إلى مدى حساسية الحكم بتطابق ما يجري في سوريا مع توصيف الحرب الأهلية قانونياً، لا سيما أن العديد من الدول الكبرى التي عاشت الحرب الأهلية لم تعترف بوجودها بشكل رسمي لاعتبارات عدة متعلقة بالسيادة والتدخل الخارجي.
لا يختلف الأمر كثيراً في سوريا. يصرّ النظام، ومعه حلفاؤه، على أن ما يجري ليس حرباً أهلية بأي شكل، إذ أن الاعتراف بها يعني تناقضاً مع نظريته حول المؤامرة الدولية على سوريا، بينما تختلف صفوف المعارضة بين من يرفض بدوره توصيف الحرب الأهلية لأنها تنفي حصول الثورة وبين من يقبلها بحجة الدم الذي يُراق بين مختلف الأطياف السورية. أما المجتمع الدولي فلم يتردّد مسؤولوه بالتحذير من وقوع الحرب الأهلية منذ فترة طويلة.
في الواقع، يحمل القانون الدولي في طياته العديد من التعريفات التي تفسّر أوجه ما يجري من اقتتال على أراضي بلد معيّن. لكن المختصين في الشأن يجمعون على أن الحدّ الفاصل بين أنواع الصراعات المختلفة أمر يصعب الجزم به. من هنا، يستحيل وفق المعطيات الحالية الوصول إلى خلاصة صريحة تفيد بوجود حرب أهلية من عدمها على الأراضي السورية.
ولكن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومقرها جنيف، تقدّم تعريفاً دقيقاً للوضع. ويقول المتحدث باسمها هشام الحسن، في حديث لـ«السفير»، إن ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن تسميته بالحرب الأهلية لأن هذا المصطلح ليس له أي معنى قانوني. وتطلق «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» مسمى «نزاع مسلّح غير دولي»، وهو ما يوصف الوضع الذي وصل فيه القتال إلى حدّ يستدعي وضع أسس لملاحقات قضائية بموجب القانون الدولي.
وعليه يقول الحسن إن «ما يجري في سوريا هو نزاع مسلّح غير دولي ترافقه أعمال عنف في العديد من المناطق، ولا يقتصر الأمر على المناطق الثلاث التي تشهد معارك، فهناك الكثير من البقع الأخرى المتضررة».
وكانت وسائل الإعلام تناقلت منذ عدة أشهر عن لسان مسؤولة في اللجنة قولها إن ما يجري في سوريا هو «حرب أهلية»، قبل أن تخرج وتوضح أن ما قيل هو تحريف لكلامها قام به أحد الصحافيين.
يوضح الحسن أن «الصليب الأحمر الدولي يبني حكمه على أسس قانونية وليست سياسية. ولذلك يعتبر أن الحكم يندرج في إطار «القانون الدولي الإنساني». ويشكل هذا القانون جزءاً من مجموعة القواعد القانونية الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول، أما الغرض منه فهو الحدّ من آثار النزاعات المسلحة لأسباب إنسانية. ويهدف أيضاً إلى حماية الأشخاص الذين لا يشاركون أو كفّوا عن المشاركة في الأعمال العدائية، والمرضى والجرحى والأسرى والمدنيين، وإلى تحديد الحقوق والواجبات التي تقيّد أطراف النزاع في سير الأعمال العدائية.
ويشدّد الحسن على أن الحكم غير نابع من أي هدف سياسي، فـ«اللجنة تعمل منذ آذار العام الماضي مع الجميع، وتحرص على الشفافية مع كل الأطراف حتى النظام، علماً أن حضور اللجنة في سوريا ليس مستجداً، فهي ناشطة منذ العام 1967 وتعمل كذلك في الجولان المحتل».
مصطلح «الحرب الأهلية» يخيف الدول
ما سبق قد يستفزّ البعض ممن يعتبرون أن ما تعيشه سوريا من احتراب لا يجدي أمامه البحث عن توصيف أو مصطلح. إنها الحرب وكفى.. تفسرها المجازر والدماء والأحقاد المتنامية. ولكن ميزان السياسة لا يعتمد الإنسانية وحدة قياس. الاعتراف بوجود الحرب رسمياً يعني فقدان البلد لسيادته وإعطاء الحق الشرعي للمتمردين. هذا ما يجيب به الخبير في القانون الدولي حسن جوني عند سؤاله عن سبب امتناع دولة ما عن الاعتراف بوجود «حرب أهلية» على أرضها.
ولذلك، يضيف جوني الذي عمل طويلاً في دراسة الحروب الأهلية، أن النظام السوري يعتبر أن ما يجري على أرضه هو عملية قمع للمتمردين، وهي مشكلة داخلية تخصه وحده، موضحاً أن «العادة هي أن تعترف الدول بما هو أقل من النزاع، وهي الاضطرابات الداخلية التي تسبق النزاعات العسكرية الداخلية».
أما فقدان السيادة فيعني حكماً السماح للمجتمع الدولي بالتدخل، فيما يعني العكس الحفاظ على حق الدولة المركزية الكامل بفرض سيطرتها وأمنها ومحاربة مثل ما حصل مع بريطانيا وإيرلندا الشمالية.
وفي السياق، يشرح خبير القانون الدولي أن المادة الثالثة من «اتفاقيات جنيف» لا تعطي أي صفة للمتمردين، في حين أن البروتوكول الثاني يعطي المتمرد صفة المتحارب ويصبح كندّ سياسي كما حصل في السودان وجنوب السودان.
يحرص جوني على التأكيد على صعوبة التوصل إلى خلاصة بشأن سوريا، ويقول «هناك أربعة أنواع من النزاعات العسكرية: نزاع عسكري دولي، نزاع عسكري داخلي، نزاع داخلي مدوّل (مثل لبنان)، نزاع داخل دولة ضدّ عصابات إرهابية، والإشكالية تتمثل هنا في تحديد معايير الحكم متى نكون أمام نزاع عسكري داخلي، ومتى ننتقل إلى الدولي».
ويلفت جوني إلى أن مصطلح «الحرب الأهلية» لم يعد مستخدماً منذ وضع ميثاق الأمم المتحدة الذي منع استعمال القوة في المادة 2 الفقرة الرابعة، وعليه اتخذت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة قراراً أن لا داعي لقانون الحرب لكون الأخيرة أصبحت ممنوعة.
وفي المحصّلة، هناك شبه إجماع على صعوبة إيجاد تعريف موحد لـ«الحرب الأهلية» أو ما يسمى بـ«النزاع المسلح غير الدولي»، وصعوبة أكبر في الجزم بحصوله على أراضي بلد ما. وفيما يكتفي البعض بتبسيط الحكم على الوضع السوري على قاعدة ما قاله الفيلسوف توماس هوبز «الحرب الأهلية هي حرب الكلّ ضد الكل»، تبقى سوريا غارقة في حروب السياسة والاستراتيجيات والمصالح.. والمصطلحات.
السفير