سوريا: فاتورة الاستقرار
لم يعد الخطاب العروبي يكفي لإخفاء مشكلات سوريا الداخلية. لكن انهيار النظام السوري تترتب عليه كلفة كبيرة وفاتورة ستدفع محلياً وإقليمياً ودولياً. ذلك أنه صمد بوجه العواصف التي ضربت بلدان الجوار وحقق قدراً كبيراً من الهدوء الذي كان ضرورة لازمة للجميع
بشير البكر
أدهش النظام السوري في عهدي الأسد الأب والابن أعداءه قبل اصدقائه بقدرته على حفظ الاستقرار وسط تقلبات كثيرة في محيطه الاقليمي. ورغم ان النزاعات تسربت الى داخل سوريا من بلدين مثل لبنان والعراق، فقد تمكن من استباق اتجاه الزلازل وتكيف مع ارتداداتها من دون ان تؤثر عليه فعليا. وهنا يحضر مثال العراق اكثر من غيره، لسببين. الأول، ان الحكم السوري تصرف على نحو اكثر ذكاءً في ما يخص وضعه العام، وتمكن الرئيس حافظ الاسد من تحقيق نوع فريد من التوازن الداخلي في قيادته لسوريا، رغم انه لم يكن يمتلك اغراءات صدام حسين من ثروات طائلة وفرها البترول.
والسبب الثاني ان سوريا في فترة حكم الرئيس بشار الأسد استوعبت عشرات آلاف اللاجئين العراقيين والفلسطينيين الفارين من جحيم الحروب والنزاعات في العراق بعد الاحتلال الاميركي، الذين قدرت أرقام الامم المتحدة اعداد العراقيين منهم بـ700 ألف، منهم 250 ألف مسيحي. واستطاع الحكم السوري ان يمتص التداعيات السلبية للانهيار العراقي ويمنعها من ان تنعكس سلباً عليه، رغم التداخل الكبير بين البلدين. ويكفي النظر فقط إلى تأثير هجرة العراقيين إلى سوريا على مستوى معيشة السوريين. ورغم أن العراقيين المهاجرين ساهموا في انعاش النمو من خلال الاستهلاك، فإنهم رفعوا أسعار المواد الأولية وايجارات السكن وأسعار العقارات والخدمات، واستفادت منهم شريحة معينة، وتضرر السواد الأعظم من السوريين، من دون أن يؤدي ذلك إلى تذمر شعبي او احتكاكات اجتماعية كبيرة. وتسجل للحكم السوري قدرته على التحكم الأمني في الأعداد الكبيرة الوافدة من العراقيين، الذين تنتمي أعداد كبيرة منهم إلى النظام العراقي القديم.
يندرج ذلك في سياق سلسلة من الايجابيات الكثيرة التي تسجل للنظام السوري على صعيد ترسيخ نموذج متميز من الاستقرار على المستوى الداخلي.
أولى الايجابيات ان سوريا بلد متنوع ومتعدد دينياً وطائفياً وعرقياً. ومجتمعها يعد مجتمع فسيسفاء منذ اقدم العصور، الأمر الذي أغناها على المستويات كلها، فالاندماج بين مكونات النسيج السوري حقيقة تاريخية وليس امراً مفتعلاً املته ظروف وقتية عابرة. ورغم المآخذ الكثيرة على حكم الحزب الواحد، بقيت هذه الوضعية المتميزة فوق الحسابات، ويظهر ذلك جلياً على صعيد حساسية السوريين من الطائفية والمناطقية، التي بقيت مذمومة لدى السوريين رغم الممارسات التمييزية من جانب اطراف في الحكم، والأمر الجدير بالملاحظة هو ان الاختلافات والتعارضات في سوريا نادراً ما أخذت شكل الانقسامات الدينية او الطائفية أو العرقية، بينما تفشت هذه الامراض في دول الجوار.
الحركة الاحتجاجية الحالية لامست هذا الجانب، وبرزت مخاوف من ان يتعرض النموذج السوري للضرر، وظهرت مخاوف محلية وخارجية جدية من ان يقود تصاعد الحركة الاحتجاجية الى تأجيج نزعات طائفية وعرقية. وهناك خشية من اهتزاز النموذج السوري بوصفه مثال الاستقرار في المنطقة. ونظراً لخطورة هذه النقطة فقد توقف الرئيس السوري بشار الاسد امامها في خطابه الأخير، حين…
الايجابية الثانية هي اجتماعية، ويسجل هنا ان سوريا تعد متقدمة اجتماعياً على صعيد القوانين والممارسات. ويشار هنا الى التعايش بين مختلف الحساسيات على ارضية احترام العادات والتقاليد والمعتقدات، فالتعايش بين الحديث والقديم يأتي ضمن سياقات اجتماعية تحترم خصوصية كل طرف. والسائر في شوارع المدن السورية، او حتى الأحياء الداخلية، يلاحظ التجاور في العادات واللباس، وكل يتصرف من منظوره ومفاهيمه، ويسجل لسوريا انها قطعت اشواطاً كبيرة في التعليم ومحو الامية، وأتاحت للمرأة ان ترتاد جميع ميادين العمل، وتعد المرأة السورية متقدمة اجتماعياً بالمقارنة مع محيطها العربي والاسلامي. والخشية هنا من مجيء نظام اسلامي يعيد المرأة الى الوراء ويطيح الانجازات الاجتماعية، التي قامت على الخصوصية ضمن التنوع والتعددية الدينية والعرقية.
وفي جانب آخر لم تصل الهوة بين الفقراء والأغنياء حد الجوع كما في بعض البلدان مثل مصر، وثبتت الحكومة اسعار السلع، وقدمت رعاية صحية مقبولة ومقدوراً عليها وأدوية رخيصة ومحروقات مدعومة ومدارس وجامعات حكومية مجانية.
والايجابية الثالثة هي الأمان والنظام، فالاجراءات الأمنية الصارمة ليست كلها سلبيات، رغم انها تحصي انفاس المواطن وتتدخل في تفاصيل حياته، فهناك جوانب ايجابية، جعلت السوريين يفاخرون في العقد الأخير بما يتمتعون به من أمان وأمن، ويقارنون انفسهم بالعراق ولبنان. وصاروا يدركون أهمية وجود الدولة الأمنية القوية الساهرة على أمن المجتمع.
هذا الانجاز بالنسبة إلى السوريين لا يقدر بثمن، لأنه في نظرهم نقيض الفوضى، التي استشرت في بعض بلدان الجوار، التي خسرت الدولة ولم تصل إلى الديموقراطية، بل تحولت إلى جزر متناحرة ومتصارعة، وانكسر فيها ايقاع السلم الأهلي العام.
على الصعيد العام، أدى النظام السوري دوراً مهماً في استقرار المنطقة، من حرب الخليج وحتى الالتزام بالاتفاقات مع اسرائيل، وظل يلعب ورقة موقع سوريا التي استخدمها ببراعة حافظ الاسد على كل الجبهات من ايران الى العراق ولبنان وفلسطين. هذا الدور لم يكن مرضياً عنه سعودياً ولا اميركياً ولا اسرائيلياً، لكن لم يكن له بديل، ولم تتمكن القوتان العربيتان الكبيرتان مصر والسعودية من منافسة سوريا عليه، ولذا قُبل على مضض، والدليل على ذلك ان واشنطن ظلت تفاوض دمشق على الاستقرار في لبنان والعراق، وجزء من الضغط الحالي يتعلق بتأمين الانسحاب العسكري الاميركي من العراق، وإنهاء أي دور لسوريا في لبنان، وخصوصا الى جانب المقاومة، وفك الارتباط مع ايران.
بقي الشعور بالوطنية السورية هو الطاغي على الدوام، وكان السوريون يتعارفون بهوياتهم السياسية،البعثي والناصري والشيوعي، ولم يكن أحد يتحدث عن سني وعلوي ومسيحي ودرزي. وفي فترة احتلال العراق رفعت غالبية السوريين راية الوطنية، وكان يحز في نفوسهم ان معارضة النظام العراقي كانت ترفع الراية الاميركية.
الشارع السوري أدرك حجم التحديات الخارجية ووقف الى جانب الحكم فترة طويلة لأن هناك ايماناً عميقاً بدور سوريا، لكن الخطاب العروبي لم يعد كافياً لتهدئة الشارع، وانقلبت الآية في السنوات الأخيرة، عندما خرج النظام السوري من الحصار بعد حرب تموز 2006، بفضل انتصار المقاومة في لبنان، وصارت المعادلة بالنسبة إلى الشارع السوري مطروحة على نحو مختلف، وبات شرط الممانعة الفعلية هو الاصغاء الى هواجس السوريين، وليس الاستمرار في سياسة الاجحاف والقمع والاستئثار بالسلطة وغض الطرف عن الفساد بذريعة ان نظام الحكم يتعرض لضغوط خارجية، تمنعه من الانفتاح على شعبه وتحسين مستوى معيشته، ومعاملته على نحو لائق وفي اطار القانون. وبدأت بعض الشرائح الاجتماعية بالتذمر، وأخذت تشكو علانية من تحمل فاتورة استقرار النظام، التي يدفعها الشعب، سواء من أجل قضية فلسطين، أو لبنان والعراق وايران، من دون ان يكون لذلك مقابل من طرف الحكم، الذي بقي يعمل وفق فلسفة الاجهزة القديمة، التي أدخلت بعض التحسينات الشكلية دون المساس بالجوهر.
تحقق الاستقرار في عهد الاسد الأب بفضل جملة من التسويات الداخلية والخارجية، فعلى صعيد الداخل كان الاسد حريصاً على الانفتاح على مكونات النسيج السوري وتقديم ترضيات على شكل مصالح اقتصادية تعوض عن الدور السياسي، وهدفه كسب تأييد واسع من طرف كافة القطاعات لتأييد حكمه من جهة، ومن جهة ثانية عزل المعارضة السياسية، وخصوصاً الإخوان المسلمين، لذلك تقرب من التجار واوساط الاقطاع القديم ورجال الدين التقليديين والعائلات الكبيرة وشيوخ العشائر المؤثرين. ولكي يحمي نظامه من الضغوط الخارجية، ويحفظ لسوريا دورها الاقليمي، بقي حاضراً في كل نزاعات المنطقة، وتمكن من صياغة مكان خاص لسوريا وسط تسابق المصالح الغربية على منطقة الشرق الاوسط، وظل يعمل على الامساك بالورقتين الفلسطينية واللبنانية، وصارت له كلمة مسموعة في توازنات منطقة الخليج بسبب دخوله طرفاً رئيسياً في الحرب العراقية الايرانية، وقد اهّله ذلك لأن يبقى قناة حيوية بين ايران وبلدان الخليج التي كانت تخشى النفوذ الايراني وتصدير الثورة.
على مر تاريخ سوريا الحديث كانت هناك اجندة خارجية لاستهداف سوريا ذات الموقع الجيوستراتيجي المتميز، ولم تعرف سوريا منذ استقلالها حتى اليوم فترة هدوء مديد على المستوى الخارجي، بل كانت على الدوام وسط المعمعة، وظل الصراع يدور عليها، منذ حلف بغداد وحتى مشروع الشرق الأوسط الكبير. وكانت مرحلة السبعينيات والثمانينيات حافلة بالتطورات التي كانت تدور من حول دور سوريا وموقعها، وخصوصاً بعد حرب تشرين واندلاع النزاع الأهلي في لبنان.
ولعب الرئيس الاسد من داخل اللعبة الدولية ليجنب نفسه دخول مواجهة مع الاطراف العربية وحلفائها في المنطقة مثل السعودية، واختار موقعاً وسطاً، هادن الغرب حيال بعض الملفات، لكنه لم يساوم في الملفات الاساسية مثل السلام مع اسرائيل. ورغم الضغوط الكبيرة عليه، استطاع ان يتجنب خط السير على طريق الرئيس المصري انور السادات، وان يلعب الدور الرئيسي تجاه الورقتين اللبنانية والفلسطينية ويتحالف مع ايران، فيما كان الغرب والخليج يضعان ثقلهما كله من وراء صدام حسين.
وقد حمى الاسد نفسه في هذه الفترة بأن اقام تحالفاً وثيقاً مع الاتحاد السوفياتي وشراكة متميزة مع ايران، وأخذ يؤسس للمقاومة في لبنان، من دون أن يدخل في مواجهات مفتوحة مع الغرب.
وكان يعرف متى يتصلب ومتى يبدي جانب المرونة، وتمكن بفضل حنكته من أن يسير لفترة طويلة بين الألغام، وهو يدرك جيداً ان دور سوريا غير مرضي عنه إقليمياً ودولياً.
الجديد في الوضع السوري اليوم هو امران. الأول ما تمخضت عنه الحركة الاحتجاجية، فبعدما ساد الاعتقاد لفترة طويلة ان الاصلاح يعني الخبز قبل الحرية، كرست التظاهرات عبارتين، الكرامة والحرية. ومهما يكن من أمر فقد صار واضحاً أن الضغط الداخلي يعمل من اجل التغيير، وهو امر لم ينكره الاسد في خطابه الأخير، بل استفاض في شرحه، وتوقف طويلا أمام آلياته. والأمر الثاني هو امكانية التقاطع بين الأجندتين الداخلية والخارجية، من دون أن يعني ذلك أن هذا التقاطع تم بترتيب مسبق، فالأسد نفسه أبدى تفهماً للحركة الاحتجاجية، لكن ذلك لا يعني أن أصحاب الاجندة الخارجية لن يرموا بثقلهم من أجل تقوية الأجندة الداخلية لإضعاف الحكم، لكي يحصلوا منه على ما أرادوه في السابق من تنازلات. ويبدو الحل اليوم سهلاً، ولا يحتاج إلى وصفة سحرية، وهو يتمثل في قطع الطريق على الأجندة الخارجية من خلال تحويل الاجندة الداخلية الى هدف لكل السوريين من اجل تعزيز مناعة البلد في وجه التدخلات الخارجية التي بدأت تطل بقوة.
الأخبار