سوريا.. قراءة في المشهد السياسي الميداني الراهن
أحمد العالم
بداية لا بد من التأكيد المعتاد على حقيقة سقوط النظام السوري نظريا منذ يوم 15 اذار عندما نزل الشعب السوري الى الشارع ثائراً كاسراً لحاجز الخوف ومحطماً لجدار الصمت وهادماً لركائز قدرة الردع التي بناها النظام البغيض خلال عقود والمتمثلة في التخويف والارهاب والتنكيل بكل من يتجرأ على انتقاد او حتى التفكير بانتقاد النظام .
في السياق النظري يمكن القول ايضا ان النظام سقط يوم 25 كانون الثاني/ يناير عندما انهارت ركائز النظام الذي اسسه العسكر في مصر وتم استنساخه- احيانا بصورة طبق الاصل- في جمهوريات العالم العربي النظام القائم على حكم الفرد الواحد على الاستبداد والقهر والاستئثار والفساد النظام الذي امم كل شىء لصالح السلطة الحاكمة قبل ان تتم الخصخصة لصالح العائلة وحفنة الانتهازيين والمنافقين المحيطين بها .
الا ان المشهد السياسي والميداني الفاصل بين السقوط النظري منذ عشرين شهرا والعملي الذي بات قريبا وربما مسألة اسابيع قليلة فقط شهد عدة تحولات وتبدلات ما بين المراهنة او حتى الرغبة في قيادة النظام للاصلاح وبالتالي اراحة المنطقة والعالم من اعباء وتحديات الازمة والتي استمرت لستة شهور تقريبا ومن ثم دخول الجامعة العربية على الخط واستنتاجها ان النظام لا يريد او لا يستطيع حل الازمة بمفرده ومن هنا كان طرحها لمبادرة تضمنت خارطة طريق للاصلاح تحت قيادة الرئيس الاسد وهي الفترة التي استمرت ستة شهور اخرى قبل ان تقتنع الجامعة ان النظام ليس بوارد الحل اصلا وانه يفتقد الى ارادة الاصلاح وتسارع الى نقل الملف للامم المتحدة حيث ما يزال يراوح مكانه في ظل افتقاد القوى الدولية لارادة انهاء الازمة بشكل فوري واجبار النظام على الرحيل انصياعا لمطالب الشعب الثائر خصوصاً بعدما لم يتورع عن ارتكاب المجازر البشعة ضد شعبه بذهنية القرون الوسطي ولكن بأسلحة وتقنية القرن الواحد والعشرين.
تمثلت المعالم الاساسية للمرحلة الاولى من المشهد السياسي والميداني السوري والتي استمرت لست شهور تقريبا بتظاهرات شعبية سلمية طالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والتي واجهها النظام بالقمع والتنكيل والرصاص مع اعتراف خجول بالمطالب المحقة للشعب بخاصة في ما يتعلق بمحاربة الفساد وحرية العمل السياسي والحزبي وخلال هذه الفترة التي كانت فيها نافذة الاصلاح مشرعة على مصراعيها سعت اطراف عربية واقليمية ودولية من اصدقاء النظام لتقديم النصح له بالاستماع والانصات الى مطالب الشعب والاتعاظ مما حصل في تونس والقاهرة وطرابلس الغرب حتى ان وزير الخارجية التركي الذي كان ابرز الساعين لحل الازمة سلميا زار دمشق مرات عديدة لتقديم النصيحة وابداء الاستعداد للمساعدة قبل ان يقدم في نهايتها مبادرة تضمنت الوصفة التقليدية للعلاج لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية وحوار وطني واسع لا يستثني أحداً ووضع دستور جديد واجراء انتخابات برلمانية نزيهة خلال عام ونصف ومن ثم انتخابات رئاسية في العام 2014 اي في نهاية الولاية الدستورية للرئيس بشار الاسد الذي يفترض ان يشرف بنفسه على تنفيذ هذه المرحلة الانتقالية .
غير ان النظام لم يكن بوارد الاصلاح مقاربا الثورة من الزاوية القمعية الضيقة ومتبنيا بالكامل للخيار والحل الامني وبدا مهووسا بانهاء الثورة قبل حلول شهر رمضان من العام الماضي ـ اب / اغسطس 2011ـ الذي شهد ثلاث معطيات بارزة كرست الاستنتاج السابق، اولها مظاهرة حماة قبل رمضان بيوم والتي خرجت فيها المدينة عن بكرة ابيها بعد اتفاق مع المحافظ للمطالبة بالحرية والاصلاح ومن دون التهجم او التعرض لأحد، فرد الرئيس الاسد صباح اليوم التالي مباشرة باقالة المحافظ وارسال الجيش لتأديب المدينة واسكاتها، وفي منتصف شهر آب رمضان- منعت الهيئات المختصة شيخ مقرئي الشام كريم راجح من الخطابة اثر دعوته الجيش والاجهزة الامنية للتصدي للاعداء وحماية الشعب الذي يمولهم من دمه وقوت يومه، اما في نهاية الشهر فاقتحمت الجهات ذاتها مسجد الرفاعي في كفر سوسة واهانت إمامه الشيخ اسامة الرفاعي احد ابرز الدعاة في الشام سورية والعالم العربي.
بنهاية آب وبعد ستة اشهر من الثورة بدا واضحا تمترس النظام خلف الحل الامني الامر الذي ادى بدوره الى ثلاثة متغيرات اساسية: اغلاق نافذة الاصلاح وفتح نافذة التغير بعد رفع الشعب الثائر لسقف مطالبه من الحرية والكرامة الى اسقاط النظام بكافة رموزه وجلاديه، اما المتغير المهم الثالث فتمثل بتشكيل النواة الاولى للجيش الحر وهو احد المتغيرات الحاسمة برأيي في مسيرة الثورة السورية المظفرة.
كعادتها انخرطت الجامعة العربية متأخرة في الشأن السوري، وبعد مئتي يوم تقريبا على اندلاع الثورة، وبدأت بالقدم اليسرى، بعدما لم تلاحظ اغلاق نافذة الاصلاح وتمترس النظام خلف الحل الامني وانكاره للثورة ومطالبها المحقة، ورغم ذلك ارسلت الجامعة امينها العام ثم لجنة مصغرة الى دمشق للقاء الرئيس الاسد واقناعه بالحل السلمي ثم طرحت فكرة ارسال مراقبين للاشراف على وقف اطلاق النار ضمن مبادرة شبيهة تماما بخطة وزير الخارجية التركي لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية واجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مع الموافقة على اكمال الرئيس بشار لولايته حتى نهايتها في العام 2014 مع حقه في التنافس مرة اخرى اذا ما أراد، غير ان الجامعة ورغم بيروقراطيتها وحركتها الثقيلة سرعان ما وصلت الى القناعة الراسخة والصحيحة، الاسد ليس بوارد الاصلاح او التخلي عن استخدام القوة ضد شعبه ولا مفر بالتالي من نقل الملف الى مجلس الامن الدولي كي يتخذ ما يراه مناسبا لوقف المجزرة بل المجازر التي يرتكبها النظام.
فضح انتقال الملف الى مجلس الامن حقيقة عجز المجتمع الدولي وعدم امتلاكه الارادة اللازمة لوقف المجرزة او المأساة التي عاشها الشعب الشعب السوري وما زال، والمعادلة التي تحكمت بل كبلت ايادي المجلس هي نفسها التي تحكمت بالمشهد السوري السياسي والميداني خلال الشهور العشرة الاخيرة حيث روسيا- معها ايران والصين- تريد الحفاظ على مصالحها مع النظام البعثي حتى لو دمرت سورية بالكامل، بينما امريكا- معها اسرائيل- لا يهمها بقاء النظام طالما ان البلد ينهار وبينما النظام مستعد لحرقها – كما يقول انصاره- من اجل ان يظل في السلطة، وحده الشعب السوري كان متضررا من هذه المعادلة الظالمة وغير الاخلاقية، وهذا ما ادى اساسا الى تاكلها وانهيارها تدريجيا ببطء ولكن بشكل متواصل طوال الاشهر الماضية .
خاض الجيش الحر مدعوما من الشعب الثائر معركة استنزاف متواصلة بحق النظام خلال الشهور الماضية ونجح في السيطرة على مناطق واسعة من سورية خاصة في الشرق والشمال بحيث اقتصرت سيطرة النظام على نصف مساحة البلد وربما اقل من ذلك، ومع وصول المعركة الى الشام في الاسابيع الاخيرة وتقدم الجيش الحر في الريف ونجاحه في محاصرة المطار في الايام الماضية، بدا الواقع اكثر وضوحا والاستنتاج اكثر سهولة، النظام يخسر المعركة والثورة تنتصر، وهو نفسه ما عبر عنه الاخضر الابراهيمي ولكن بدبلوماسية وحذر، النظام لم يربح والجيش الحر لم يخسر .
اضافة الى المتغير السابق ثمة متغير ثان ساهم في تاكل المعادلة الدولية والمحلية السالفة الذكر، وتمثل بتزايد قوة التيار السلفي الجهادي في سورية وانضمام مئات وربما الاف المقاتلين الى المعركة ضد النظام، ورغم ان عددهم لا يتجاوز واحدا او اثنين بالمئة من عدد المقاتلين في الحد الاقصى، الا ان تأثيرهم اكبر من ذلك، وبقاء النظام واستمرار مجازره سيعني حتما تضاعف تأثيرهم، ليس في سورية وانما في الشرق الاوسط الكبير بالمعنى الامريكي وحتى الروسي للمصطلح الذي يشمل الجمهوريات الاسيوية الاسلامية خاصة في القوقاز .
متغير ثالث ساهم بدوره في تاكل المعادلة الدولية غير الاخلاقية تمثل بانهيار الدولة السورية نتيجة للممارسات الكارثية البائسة وقصيرة النظر للنظام، هذا الانهيار الذي قد يحول سورية الى دولة فاشلة كما قال الاخضر الابراهيمى- والذي ستكون له تداعيات سلبية على امن واستقرار المنطقة وايضا الشرق الاوسط الكبير بالمعنى الامريكي والروسي .
اما المسمار الاخير في نعش المعادلة غير الاخلاقية والظالمة فتمثل باستعداد النظام لاستخدام اسلحة الدمار الشامل الكيميائي في سياق يأسه من الانتصار او هزم الثورة، وقياسا الى السوابق التاريخية فان النظام البعثي وحده استخدم وممكن ان يستخدم السلاح الكيميائي لضمان بقائه في السلطة .
اذن فالمعادلة التي تحكمت بمواقف القوى الدولية الرئيسية من الثورة السورية تلفظ الان انفاسها الاخيرة وستفهم موسكو ان حفاظها على مصالحها الضيقة والواسعة يقتضى حتما القطيعة مع النظام والانخراط في عملية انتقالية تستند الى قاعدة رحيل الاسد ورموزه عن السلطة، وستفهم واشنطن ان عليها دعم او غض النظر عن دعم الجيش الحر باسلحة قادرة على حسم المعركة باسرع وقت ممكن، ما يحول دون تزايد قوة السلفيين او تحول سورية الى دولة فاشلة وبما يرتد سلبا على المصالح الامريكية- والاسرائيلية – في المنطقة.
نقلت نيويورك تايمز عن احد الخبراء الروس ان الاسد يبدو يائسا من الانتصار وحسم المعركة لصالحه او الهروب كون الشبيحة المحيطين به لن يسمحوا له بذلك، وعمليا تقتصر الخيارات بين القتل او القتل، وهو عينه ما ذهب اليه الجنرال المجرم رستم غزالة حتى قبل اندلاع الثورة عندما قال لنشطاء ومثقفين في بداية آذار/ مارس 2011 انهم ان ارادوا استنساخ تجربة مصر وتونس فإن النظام سيحول البلد الى مصراتة. هذا الأحمق والغبي لم يفهم أن لا وجود لمصراتة وحدها، وانما مع بن غازي وسرت، وهذا هو السيناريو الاقرب لسقوط النظام بعدما سقطت المعادلة التى حمته منذ بداية الثورة وانهيارها وانهياره بات مسألة وقت فقط.