سوريا: لماذا أقحم النظام الجيش في الأحداث الراهنة؟
سحر حويجة
منذ عهد الاستقلال شكل العسكر لاعباً أساسياً في تاريخ العرب الحديث على الصعيد السياسي، منحرفاً عن دوره بوصفه إحدى مؤسسات الدولة المستقلة عن الصراعات السياسية لحماية الدولة من أي اعتداء قائم أو محتمل يأتي من الخارج، عقيدة الجيش حماية الوطن.
في سوريا تم جر المؤسسة العسكرية إلى العمل السياسي منذ عام “1949انقلاب حسني الزعيم” نتيجة للتوتر بين الجيش والحكومة على خلفية الهزيمة التي مني بها الجيش في حرب 1948 في مواجهة العدو الصهيوني، بسبب تقصير الحكومة في تهيئة الجيش، أعقبه في عام 1950 انقلاب سامي الحناوي لإعادة الحكم للمدنيين ثم كان انقلاب الشيشكلي على أثر انشقاق في صفوف الجيش. كان الجيش في النصف الأول من الخمسينات في مرحلة الدولة المدنية أكثر القوى تنظيما في المجتمع مع أن التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والمذهبية كانت تشتته لهذا كان مسرحاً للصراعات بين القوى السياسية المختلفة، حيث نجد أن الأحزاب استندت إليه بهدف الوصول إلى السلطة بسبب من عجزها عن صياغة برنامج يستقطب المجتمع إلى جانبها، لكن العسكر لم يقبلوا الاستمرار بدور ملحق للأحزاب السياسية، بل طمحوا إلى إدارة البلاد، في الوقت نفسه لا يستطع الجيش السيطرة إلا بالاستناد إلى منظمات سياسية لها شعبية يستعير منها شعاراتها، وفي سعيه هذا أخذ يتكيء على السياسيين ويستخدمهم كأداة لكي يضمن وصوله و استمراره بالسلطة، وبعد عقد من الانقلابات العسكرية في مرحلة الستينات المستندة إلى اتجاهات سياسية متصارعة في البيت الواحد “حزب البعث” جاء انقلاب حافظ الأسد عام 1970 بعد سلسلة من عمليات التطهير في صفوف الجيش، وفي حزب البعث إلى أن استقرت الأمور، وشرع في بناء القوى الخاصة العسكرية لحماية السلطة بالترافق مع تكوين أجهزة الدولة السلطة، من أجهزة عنف مختلفة الحزب الحاكم، مؤسسة الرئاسة، الجيش، حتى النقابات، ويأتي الدور المركزي القائد للأجهزة الأمنية ذات الامتيازات التي تمارس كل أشكال الرقابة وضبط المواطنين، دون أن تخضع لأي رقابة قانونية أو حكومية من خلال دورها في جمع المعلومات والملاحقة والمراقبة والاعتقال والتعذيب. والتدخل بكل كبيرة وصغيرة، كل هذا شكل جوهر النظام القائم عبر عقود. حيث تم إلغاء السياسة من المجتمع وتم استخدام كل مؤسسات الدولة كأدوات لخدمة السلطة، حيث تم الدمج بين الدولة والسلطة .
منذ أن بدأت الحركة الاحتجاجية الشعبية في سوريا تشتد وتتسع، تم زج الجيش السوري بمختلف فرقه ولم يقتصر الأمر على الفرق الخاصة المشكلة للدفاع عن النظام وإن بقي لها اليد الطولى، بمعركة لم يجد الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين أي مبرر لزج الجيش في هذه الصورة حيث يملك النظام قوة أمنية ضاربة قوامها عشرات الآلاف مدربة و قادرة على القمع وضبط الوضع ومواجهة الشعب وإن هذه المعركة ليست معركة للجيش.
وهنا لابد من الإشارة: ” من خلال التجارب الثورية العربية بعد أن عجزت قوى الأمن عن السيطرة على الوضع الذي أدى إلى هروبها أمام المد الشعبي الكاسح، بعد أن فقدت سلاحها الوحيد في السيطرة وهو خوف الشعب منها نجد أنها هي من خافت وفرت. وعجزت السلطات القائمة عن زج الجيش في المعركة لأسباب متعددة أهمها الاستقلال النسبي للمؤسسة العسكرية عن السلطة، مثله مثل الاستقلال التي انتزعته مراكز الدولة المختلفة القضاء والصحافة والنقابات خلال عقود برز تأثير ذلك أيام الثورة مثال ذلك: “الاتحاد التونسي للشغل، القضاء المصري. .
وهنا يطرح سؤالاً نفسه عن الغرض الذي يرمي إليه النظام بهذا الإجراء الخطر على مستقبل الوطن ونتائج تدخل الجيش في مواجهة الاحتجاجات؟ أرى أن الهدف الأول يتلخص في أن السلطة تعرف حق المعرفة أن مصالح النظام القائم تتعارض مع مصالح أغلبية الشعب ولكن الخوف هو العامل الأساسي الذي يحمي هذه الأنظمة ويطيل عمرها. وإن كسر حاجز الخوف عند الشعب هو ما أدى إلى هذه الانتفاضة، لذلك انصب جهد النظام الحاكم على إعادة غرس الخوف والرهبة في قلوب الناس لإعادتها إلى سكينتها . إن إدخال الجيش بعتاده الثقيل، يترافق مع الجهد الأمني في الاعتقال التعسفي والتعذيب حتى الموت واستخدام الوسائل التقليدية للأمن منها كتابة التعهدات لمنع العودة للتظاهر بالترافق مع الاتهامات الجزاف والإشاعات كل ذلك لا هدف له سوى زرع الرعب والخوف .
أما الهدف الأخر وهي رسالة موجهة إلى الشعب أن لا أمل لك أيها الشعب أن يقف الجيش إلى جانبك كما حصل في كل من مصر وتونس فالوضع في سوريا يختلف فالجيش إلى جانب السلطة وكل من يعارض السلطة فهو عدو الوطن، وليس أمامكم سوى العودة إلى بيوتكم وإنهاء احتجاجاتكم.
أما عن نتائج زج الجيش في مواجهة مع شعب تربى على أن الجيش تم بناءه لمواجهة أعداء الوطن من خلال اقتطاع نسبة كبيرة من ثروات الوطن وعلى حساب لقمة عيش أبناءه، جيش قادر على مواجهة عدو رابض على الحدود يحتل الأرض ويضرب مواطن القوة في بلادنا مع العلم أنه كبرت أجيالاً لم تعاصر أي حرب مباشرة، ولم تعرف مدى القوة التي يملكها جيش الوطن وحفظت هذه الأجيال شعار التوازن الاستراتيجي الذي تسعى إليه السلطة لمقارعة العدو، حتى انهالت نيران المدافع والدبابات على بيوتهم ورؤوسهم كأنها مناورة يقوم بها الجيش يختبر بها قوته .
تم وضع الجيش السوري في مكان يفرض عليه التعامل مع شعبه على أنهم أعداء الوطن يجب ضربهم بكل قسوة وبدون رحمة، وفق ما يمليه عليهم أسيادهم من أجهزة الأمن، لكن من الذي ينتصر في النهاية؟ حيث أنه إذا انتصر الجيش عسكريا على شعبه الأعزل ً فلا يكون سوى انتصاراً من خلال مناورة وهمية فالجيش تعلم أن لا يوجه سلاحه سوى لقوة مسلحة، حتى لو كان عدوة، لذلك من المؤكد أن الجيش سوف ينهزم معنوياً حتى ولو انتصر عسكرياً هذا من جهة ومن جهة أخرى زج الجيش بأعمال العنف بهذا الشكل القائم يضع شرخاً بين الشعب والجيش وهذا أحد أهداف النظام إضافة إلى أن الاستمرار بالسلطة لن يكون إلا عبر القوة العسكرية في رهان من النظام أن يجر الشعب إلى حمل السلاح ومواجهة الجيش فتكون المعركة مبررة مهما طالت .
وإن انتصر الشعب على جيش بذل الغالي والرخيص في سبيل بناءه لن يكون إلا من خلال شرذمة هذا الجيش وانشقاقه وإعادة إدخال البلاد في دوامة من الصراعات الدموية الغالية الثمن لأن الجيش في المحصلة هو جزء من الشعب ويتضمن موزاييك الشعب من المستحيل حصره وربطه بمصالح فئة معينة من السكان أو بطائفة ما وإن كانت أغلب قياداته العليا تشكل جزء من النظام السياسي القائم ترتبط مصالحها مع مصالحه . هذه القيادات التي كثيراً ما عرف عنها الفساد. على خلاف قيادات الجيش المصري التي تم التأكيد الشعبي على نظافة يدها.
إن السلطة التي تسعى جاهدة للتأكيد على أنها هي الوطن وهي الحق ومن يعارضها يعارض الوطن وتزج الجيش في معركة وكأنها دفاعاً عن الوطن وليس عن السلطة فهذا القرار عن سابق قصد وتصور حتى تعلم مدى الولاء والطاعة للنظام الحاكم ليس في صفوف الجماهير فحسب بل في صفوف الجيش ومن يعارض لن يكون مصيره سوى الإعدام وفق ما يؤكده القانون العسكري السوري في العديد من مواده نذكر منها : حيث أنه في زمن الحرب يعاقب بالإعدام:
أ ـ الذي يفر بمؤامرة أمام العدو.
ب ـ رئيس المؤامرة على الفرار إلى الخارج المادة 103 فقرة 5
أما المادة 112 فقرة هـ : يعاقب بالإعدام كل عسكري أبى طاعة الأمر بالهجوم على العدو أو المتمردين.
نخلص من كل ذلك إلى إن وضع الجيش في مواجهة مع شعبه سوف يساهم في ضعضعة الجيش وهزيمته المعنوية وتكون مناسبة لتطهير الجيش من العناصر التي لا تأكد ولاءها المطلق للسلطة في حال انحازت إلى الشعب ومطالبه في موقف صعب يتم وضع العسكري به عدا عن الخسائر المادية الكبيرة التي يخسرها الجيش وهي جزء من ممتلكات ا لشعب والوطن. ولكن موقف الجيش لن يكون ثابتاً في ظروف مجتمع تسعى جميع فئاته إلى التغيير والجيش جزء من هذا المجتمع الذي يخضع للتغيير ليتحول من قوة تدافع عن الديكتاتورية إلى قوة في مساندة التحول الديمقراطي . خلاصة القضية إن ضعف المجتمع المدني يساهم في تقوية دور العسكر بإخضاع المجتمع له والعكس صحيح إن قوة المجتمع المدني يساهم في دعم الجيش له .
أما على صعيد الخارج الذي يتربص بالوطن ويسعى إلى إضعافه سواء كان العدو الإسرائيلي أو غيره من الدول التي تسعى جاهدة لضرب القوة العسكرية التي تمتلكها الدول العربية كما حصل في العراق ويحصل اليوم في ليبيا في الأولى تم حل الجيش وساهم في نكوص الدولة وفي الثانية يتم تدمير القوة العسكرية بشكل تام قبل تغيير النظام بهدف إضعاف جميع القوى حتى يتم التحكم بها بمعزل عن قيادات المؤسسة العسكرية وعناصر مرتزفة فالقوة العسكرية أموال عامة بما تملكه عتاد ومنشآت وقوة مدربة.
لاشك إن إغراق الجيش السوري بالملف الداخلي الأمني واستخدام القدرات العسكرية بشكل منفلت من أي عقال يحقق رغبة الأعداء المتربصين بإضعاف الوطن و سوف يبرر التدخل في الشأن السوري، على اعتبار أن سوريا دولة تحكمها القوانين الدولية. وإن في إضعاف الموقف السوري لا يحمل المحتجين أي مسؤولية، لأن ما يعبرون عنه هو حركة تاريخ لا يمكن وقفها إلا بموت آخر للوطن. وإن حماية مصالح الوطن لا يكون إلا بتحقيق أماني الشعب في ا لحرية والديمقراطية، مهما كانت النتائج بعيداً عن الحل الأمني العسكري.
إن وقف العنف وعودة الجيش إلى ثكناته خطوة لابد منها بل هي الخطوة الأولى باتجاه أي حل ونزع الذرائع وإلا فإن سوريا ستدخل في المجهول و إن كان الخاسر هو كل الوطن فإن أكثر الخاسرين هو النظام السياسي القائم في سوريا. الذي عليه أن يعلم أن العنف والقوة العسكرية لن تحميه ولن تبقيه. وإن القول الفصل عن أمر السلطة ومن يحكم الشعب يجب أن يكون بيد الشعب.