صفحات العالم

وتغيب مصر خلف الفكاهة/ عبّاد يحيى

 

إذن، فمنى البحيري، شاتاب يور ماويس أوباما، كانت “نجمة” منتدى الإعلام العربي في دبي بحضور كثيرين ممّن يعتبرون وجوهاً في الإعلام العربي، وذوي مناصب رفيعة متصلة به، وهكذا! أصبحت صحف عديدة ومواقع إخبارية وفضائيات تنقل تصريحات البحيري، ومطالباتها في قوالب خبرية، تشبه تلك التي تستخدم في بيانات المستويات السياسية الرفيعة، هكذا من دون أن يبدو في الأمر أي ارتباك، أو توتر، أو تردد، بل على العكس، أصبحت تلك السيدة، الصارخة بكلمات تقول ترجمتها إنها إنجليزية موجهة لأوباما، صورة للمرأة المصرية، ببساطتها وعفويتها ورفضها للهيمنة الأميركية.

عند تسجيل الفيديو الذي تصرخ فيه البحيري بعباراتها المعروفة، كان يمكن الحديث عن عفوية وبساطة وسذاجة، أما ما جرى بعد ذلك فهو صناعة واضحة، يتولاها مَن يريدون تحديد صورة المصريين على شاكلةٍ تناسبهم، وبمرونة عالية تجعلهم قادرين على استخدام مادة خام في غاية البؤس، وتشذيبها وتغليفها وتصديرها إلى العالم. وبعدما كانت السينما والدراما، في الحالة المصرية، مادة أساسية في تشكيل صورة المجتمع عن نفسه، وتشكيل صورته أمام الآخرين، يلعب الإعلام الجديد اليوم ألاعيبه في ذلك، وتعود مصر لتختفي خلف الفكاهة.

تفصح الفكاهة هذه الأيام في مصر عن وجهها الأقبح، بل ربما أفصحت مراراً بعد الانقلاب عن وجوهها القبيحة، لكنها اليوم ركيزة أساسية في تغييب المصريين، وإعادة تعريفهم إعلامياً على صورة جديدة ومحددة، بسطاء، سُذّج، يحبون الحياة والرقص، وهذه العناصر هي مصدر قوتهم كشعب وقدرتهم على مواجهة أعدائهم، ودليل على أن قيادتهم الحالية تناسبهم، وتعبّر عنهم.

والمهم اليوم أن “الفكاهة” لم تعد مادة رفض واحتجاج “ناعم”، كما كانت في أواخر حكم حسني مبارك وأشهر الثورة الأولى. اليوم، لا متسع لفكاهة المقهورين، بل هي اليوم فكاهة قاهريهم، حتى إن افتقرت لأي حسّ فكاهي أو إبداعي، واستُخدمت على أسوأ وجه، بل بخلاف دورها الطبيعي. من المهم إدراك أن مسيرة الرفض والاحتجاج عملية تراكمية، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك، وأساليب الاحتجاج متصلة تماماً بمستوى الإنجاز والتقدم الذي تحققه العملية التراكمية، فقد يبدأ الأمر بالنكات السياسية، وفكاهة تكسر الحاجز النفسي عند الناس حيال نقد النظام ورفضه، وهي ضرورية وملحة في حالات كثيرة، ومصر دليل عليها. لكن، حين تمضي العملية الاحتجاجية وتتراكم، حتى تصبح ثورة، وتخلخل أركان النظام، وتحتل الشوارع، لا يمكن بحال التوقف عند الفكاهة، وإعادة إنتاجها مراراً من دون إدراك أين وصلت عملية الاحتجاج.

حين يُقتل المتظاهرون في الشوارع، ويُعذبون ويُغتصبون في السجون، تغدو الفكاهة نوعا ملطّفاً من خيانتهم، مهما كانت بليغة وذكية وصادقة. مع الانتباه إلى أن النظام والسلطة بطبيعتها تسطو على كل تقنية احتجاج ناجحة، وتتلبّسها حتى تفقدها مفعولها، وتستخدم لخدمة أغراض النظام نفسه، ومجال الفكاهة مثال ناجع على هذه الحالة. والأسوأ أن التنظير للفكاهة، كفعل احتجاج، يكتسب قيمته من علاقته بالعموم والمجال العام، لكنه، اليوم، ينسحب، مرة أخرى، إلى موقع شخصي خاص، ويغدو مجرد حيلة نفسية، يخفف الناس بها توترهم، ويحصرون تداولها في مساحاتهم الخاصة، وبصوت خفيض.

ليس هذا واقع الحال فحسب، بل يمكن اليوم صوغ “تحقيب” مبسّط للفكاهة في الثورة المصرية، وإدراك أن النظام لم يصنعها في الغالب، لكنه كان المستفيد منها، ومن توجيهها في معظم الأحيان. وها هو اليوم يقلبها على مستخدميها، بل ويورّط المصريين العاديين فيها، ويجعلهم مادتها بدل رموزه. وبخلاف المتوقع، أمطر تحالف الانقلاب مع المشتغلين بالإعلام والثقافة والفنون في مصر خصومهم بكمٍ هائل من مواد الفكاهة الخام، حتى أغرقوهم، وبدت سقطات رموز النظام (عبد الفتاح السيسي تحديداً) مادة أقل طرافة من سيل المواد الموجودة. ليس هذا وحسب، بل بدا المشهد متناغماً، فالشعب وجد رئيساً يشببه، وها هو يحتفل به حتى قبل انتخابه، ولا وقت للاستماع إلى برنامج انتخابي، ناهيك عن تكلّف عناء صياغته وإعداده. فالشعب مشغول بالرقص والفرح والحياة، والمصري بسيط بحاجة لمَن يفهمه، ويحنو عليه ويتحدث مثله، والماكينة الإعلامية جاهزة للاستثمار في كل الحالات، وإخراجها بما يخدم تصورها العام عن مصر والمصريين اليوم. فـ”الفلاتر”، في حالة السيسي، حكمة وحنكة، وغيابها، في حالة منى البحيري، عاطفة وطنية صادقة. هكذا ببساطة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى