سوريا من الداخل مشاهد وشهادات”: ضوء الثورة على الجرح المأسوي العميم/ عقل العويط
قرأتُ كتاب “سوريا من الداخل مشاهد وشهادات”، الصادر في العربية لدى “دار الجديد”، بدعم من “مؤسسة فريدريتش إيبرت”. أشرفت عليه وحرّرته لاريسا بندر، وجمعت في صفحاته المنيرة والخلاّقة شهادات لنخبة من الكاتبات والكتّاب المناضلين السوريين، كُتبت بين خريف 2013 ومطلع العام 2014، وقد تولت بندر ترجمة معظم هذه النصوص الى الألمانية، حيث صدرت في كتاب عنوانه “رؤى من داخل سوريا”، عن دار “إيديتسيون فاوست” الألمانية.
أَحَبُّ الكتابات إليَّ، وأكثرها تأثيراً فيَّ، تلك التي يبزغ ضوؤها من الجروح، أكانت جروح الحبّ والحلم أم جروح الفجيعة. النصوص التي ها هنا، تتخصص بالجروح الثانية، هذه التي تعصف منذ خمسة أعوام، بالجسد السوري، وتدميه، وتدمّره، وتلتهمه، جاعلةً منه رمزاً هائلاً لسقوط الإنسانية في الهمجية المطلقة. هذه النصوص هي على التوالي لكلٍّ من خالد خليفة، فواز حداد، عامر مطر، ديما ونّوس، منذر مصري، روزا ياسين حسن، عمر قدّور، محمد المطرود، ياسين الحاج صالح، خضر الآغا، سلمى سالم، سمر يزبك، خليل صويلح، هيثم حسين، دارا نوّاف عبدالله، نهاد سيريس، ورياض الوحش. ويمكن قراءتها لا باعتبارها ذات قيمة أدبية وإنسانية وسياسية فائقة فحسب، بل كوثيقة واقعية حيّة، من شأنها أن تنوب عن كل وثيقة أخرى تتلاعب بها الأهواء والمصالح والحسابات والمطامع الداخلية والإقليمية والأممية.
هؤلاء الكاتبات والكتّاب هم وجدان سوريا الجمعي. نصوصهم هي مرايا الأرض القتيلة، وحشرجات البيوت المهدمة، وتأوهات المفجوعين والموتى والمخطوفين والثكالى والمفقودين والضائعين والمشرّدين والتائهين في البحار والبراري وعلى أرصفة العالم “المتحضر”. لو كان للحكّام والأمم والأنظمة ضمير، لكان ينبغي لهذا الضمير أن يخشع أمام المرويات التي ترد في هذا الكتاب، وتشهد بالوقائع والحوادث والأفكار والمشاعر على قوافل الموت الفردي والجماعي، التي جعلت سوريا مختبراً استثنائياً “فذّاً” للتوحش والهمجية والاستبداد.
تراوح نصوص هذا الكتاب بين النص السردي الحكائي، الوثائقي، الواقعي، والنص الأدبي، والنص التأملي، السياسي والفكري والعقلي والثقافي والإنساني، بما يجعل كل مساهمة على حدة، مهمة في ذاتها، وبما يجعل الكتاب مجتمعاً، كتلة حيّة، متكاملة، بحيث يهمّني أن أشهد أنه يصلح أن يكون موجوداً على مخدة كل سوري مقيم أو مهجّر أو منفيّ أو… قتيل. مثلما يصلح أن يكون في بيت كل عربي، لبناني، عراقي، فلسطيني…، وهلمّ. لأن صفحاته مكتوبة بالعقل والقلب والصدق والجمر والوعي واللوعة والحكمة والوجع والواقعية في آن واحد. ليس مثل نصوص هذا الكتاب ما يجدر بالمعنيين بالمسألة السورية أن ينقلوه إلى القوى الإنسانوية الحية في العالم، وإلى هيئة الأمم ومجلس الأمن، باللغات العالمية المتداولة كلها. ذلك أن هذا الكتاب ليُقرأ، لا ليُكتَب عنه فحسب.
“إنْ لم أكتب فليس لديَّ حلّ سوى الانتحار. والآن تعود إليَّ تلك الفكرة. الكتابة قد تنقذني وتساعدني على مساعدة من هم حولي. سأكون أكثر لطفاً وقوةً إنْ كتبتُ وتجاهلتُ الموت المحيط بي… ليس لديَّ طريقة للصراخ سوى الكتابة”. هذا ما يكتبه خالد خليفة مثلاً. أما ديما ونّوس فتكتب: “مَن يدافع عن القاتل، لا يقلّ إجراماً عن القاتل نفسه”، “لا أذكر من طفولتي سوى الخوف، ولا أذكر من أيام المدرسة سوى الخوف. الخوف عندما يتراكم طبقةً فوق أخرى، يضيع المنطق. نتحول إلى كائنات مليئة بالوساوس”. منذر مصري يشهد: “نعم كنا نحيا تحت رحمتهم، تحت أحذيتهم. كنا نحيا جبناء، نعلّم أبناءنا كيف يحيون جبناء مثلنا. كنا نحيا في الخوف والريبة والخداع فاقدين كل كرامة واعتداد وعزة نفس”. ليصرخ: سمّهم ما شئت، قتلى، موتى، شهداء، جميعهم سوريون… سوريا كحيّز مكاني مسكون تفرغ من الناس، يمثل السوريون واحدة من أكبر ظواهر النزوح في التاريخ الحديث. فماذا بعد؟ فماذا أكثر؟ يا عالم، يا بشرية… يا الله: “دعا شعبي يحيا”. ياسين الحاج صالح يكتب بوعيٍ نادر وبصلابةٍ نضالية وثقافية تشبه صلابة الجبال، درباً إلى “المنفى”. أما خضر الآغا فيقول إن السوريين الذين كانوا خرساً، استعادوا ألسنتهم.
تتساءل لاريسا بندر في مقدمة الطبعة العربية: “ماذا يعني لكاتب يشعر بأن الكتابة لم يعد لها معنى، أن يكتب عما يجري في بلاده؟ ما هي المشاعر التي يمكن أن تستولي على مثقف يساهم في هذا التغيير التاريخي في وطنه، ويكون شاهداً عليه في خلال ثلاث سنوات عاشها متخفياً وملاحَقاً، ثمّ ليجد نفسه في نهاية المطاف مجبراً على مغادرته؟ ماذا نتوقع من شخص فقد كل أفراد عائلته بقنبلة محتهم من الوجود؟”، لتوضح أن معظم المساهمات تصف من جهة، وحشية القمع وآلياته التي قام عليها نظام البعث وآل الأسد، وتعكس في الآن نفسه ذهول أصحاب هذه النصوص لقيام جيش دولة نظامي في القرن الحادي والعشرين بمساعدة ميليشيات داخلية وخارجية من لبنان والعراق وإيران، بقتل شعبه وتهجيره على مرأى من المجتمع الدولي ومسمعه، من دون أن يبدي هذا المجتمع الدولي أي حراك، أو يضع حداً لهذه الفجيعة المستديمة.
“سوريا من الداخل” هو الكتاب – الشهادة. كتاب الأمل المطعون في قلبه. بل كتاب الثورة التي لم يُكتَب لها أن تنمو وتكبر لتشهد الضوء الساطع مشرقاً على سوريا جديدة، سوريا الحرية والديموقراطية.
النهار