سوريا وتركيا والأكراد!
أكرم البني
هدفان يتطلع إليهما النظام السوري من سحب قواته ومظاهر سلطته من أهم المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال وشرق البلاد، وترك إدارتها للعشائر والقوى السياسية الكردية وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكردي، المتشكل من بقايا حليف النظام العتيق، حزب العمال الكردستاني..
هدف داخلي، وهو تحييد الحراك الكردي وعزله عن الثورة السورية، وتاليا تخفيف الأعباء عن قواته كي تتفرغ لمعارك ومواجهات في ميادين أكثر أهمية مع تراجع قدرتها، بعد تواتر الانشقاقات العسكرية، على فتح جبهة جديدة مع المكون الكردي وما قد يجره ذلك من تبعات لا تحمد، من دون أن نغفل رهانه على تفجر صراع داخلي كردي على خلفية الانقسام والاستقطاب الحاصلين حول الموقف من الثورة واختلاف ارتباطات القوى الكردية السورية بباقي أجزاء كردستان، أو رهانه على شحن الانفعالات الشوفينية لإثارة مزيد من الارتياب بين المعارضين العرب والأكراد، وتاليا على صراع محتمل بين بعض القوى الكردية ذات التطلعات الانفصالية والمعارضة والجيش السوري الحر اللذين يستندان إلى معنى للوطنية يرفض التقسيم أو التجزئة، وفي الطريق الترويج لفكرة الكانتونات في سوريا، إذ يعزز فتح الباب أمام الكرد للمطالبة بتمفصل سياسي في الحالة السورية ومغازلة حلمهم في سلطة ذات طابع قومي ما يثار حول التقسيم وإنشاء إقطاعات سياسية منسجمة قوميا أو طائفيا..
وهدف خارجي، هو استخدام الحدث كورقة ضغط على حكومة أنقرة، لإشغالها وإرباك دعمها للثورة السورية والذي بدأ يأخذ اليوم أشكالا أكثر عملية بعد اكتفائها في الماضي بالدعم اللفظي واستقبال اللاجئين والمعارضين، فجعل المناطق الكردية المتاخمة للحدود مع تركية خارج سيطرة السلطة يعزز دور حزب العمال الكردستاني وهو صاحب النفوذ الأكبر هناك، ويمكنه من تحقيق حلمه في تحويل شمال سوريا إلى قاعدة ارتكاز وانطلاق لعملياته بدلا من القواعد الموجودة في شمال العراق، والتي تحكمها اشتراطات القيادات الكردية في أربيل.
في المقابل لا نبالغ عند القول بأن حكومة أنقرة تواجه مأزقا في موقفها من الوضع السوري، فهي غير متحمسة لتجاوز سياسة «القوة الناعمة» أو «صفر مشاكل» التي اتبعتها، أو لا تستطيع إن رغبت، وتحاول تدارك حرجها وترددها بزيادة الدعم اللوجيستي للمعارضة السورية على اختلاف تياراتها ومكوناتها، ربطا بتصعيد النشاط الدبلوماسي خاصة مع القيادة الكردية في العراق لملاحقة الملف الكردي في سوريا وحصره في أضيق الحدود، وتشديد دعوتها لإقامة منطقة عازلة على الحدود المشتركة لإيواء اللاجئين وحمايتهم من البطش والتنكيل، كمدخل أيضا لمعالجة مستجدات المشكلة الكردية السورية والحد من تأثيراتها السلبية.
ثمة مخاوف وحسابات مصالح تلجم دخول أردوغان في صراع عسكري مفتوح مع النظام السوري حتى لو كانت الذريعة مواجهة العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني إن انطلقت من الأراضي السورية، فهو يتحسب من أن يفضي توغله في هذا الملف إلى خسائر لا تعوض، في حال اتسعت مساحة الاشتباك وشملت حلفاء للنظام، وما يستتبع ذلك من تداعيات ربما تستنزف قواه وتهدد موقعه ومستقبله في السلطة، وتحديدا إن طال زمن المعركة واتخذت مسارات غير محمودة، مما ينعكس سلبا على شعبيته وعلى وضع الثورة السورية، فالدخول العسكري الصريح سيفضي إلى تأليب الوضع الكردي عموما ضد أنقرة ويعزز العصبية القومية المتطرفة في مواجهتها، كما يضر بالثورة، بسبب الانقسام المحتمل بين معارضين يتعاملون مع تركيا كصديقة للشعب السوري ومن ستصبح عندهم أنقرة أشبه بعدو خارجي، وما يخلفه ذلك من شروخ على مستقبل العلاقات بين الشعبين السوري والتركي.
وبالطبع ليس من ضامن لأن تحافظ حكومة حزب العدالة والتنمية على ضبط أعصابها في حال هز الأكراد استقرار أوضاعها، وهي الخاضعة لضغط الشارع والمعارضة الداخلية المتحمسين لعمل رادع ضد الحزب الكردستاني في حال تصاعدت هجماته، مما يفسر الحشود العسكرية الواسعة التي امتدت على طول الحدود مع سوريا، وأيضا ما رشح عن وجود خيارات أمنية وسياسية ذكية قد تساعد أنقرة على تجنب خيار الحرب، أحد وجوهها ملاحقة مركزة وحازمة للمقاتلين الكرد داخل الأراضي السورية مستندة إلى اتفاقية أضنة الموقعة بين الجانبين السوري والتركي عام 1998.
والحال أنه يفترض أن يعي الأكراد السوريون التجاذبات القائمة وما ينتظرهم وما هي الفرص المتاحة أمامهم، وتاليا دورهم في الحفاظ على وحدة الموقف الداعم للثورة، لما له من أهمية خاصة، في ضمان وحدة الموقف الوطني الكفيل بإنجاح التغيير الديمقراطي الملح في البلاد.
إن القضية الكردية في سوريا لم تطرح يوما بمعزل عن الحالة الوطنية السائدة، كما لم يطرح حلها بمنأى عن المعاناة المشتركة لعموم السوريين، بل ظلت مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجمل المعضلات السياسية العامة لدرجة أنها أصبحت قضية وطنية بامتياز. ولعل الأكراد يدركون أكثر من غيرهم دروس هزائمهم المريرة والتجارب التاريخية التي مروا بها، ليكونوا أشد المدافعين عن أولوية الانتصار للديمقراطية في أماكن وجودهم كمدخل لا غنى عنه لحل معضلتهم القومية ولمواجهة مختلف التحديات في عالم لا وزن فيه أو دور إلا للشعوب المتكاتفة والمتحدة، مما يوفر مناخا جديدا وصحيا يضع الجميع، عربا وكردا، على قدم المساواة في الحرص والمسؤولية الوطنية ويقطع الطريق، مرة وإلى الأبد، على مختلف الأنظمة لاستخدام المسألة الكردية كوسيلة أو ورقة ضغط في صراعاتها وتسوياتها الإقليمية.
ولكن للأسف، يبدو أن المعادلة الكردية هي أكثر وضوحا عند كلا الطرفين؛ نظام دمشق وحكومة أنقرة، فكما يبرر أنصار النظام انسحابه من المناطق الكردية بسهولة استعادتها بالتنسيق مع حلفائه هناك فور انتهاء معاركه في المدن الأخرى، يدرك أردوغان جيدا أن انتصار الثورة السورية يسهل مهمته في التعاطي مع التمرد الكردي، ولعل الجميع سيخفقون إذا لم تتصدر المشهد حلول سياسية جريئة ترضي خصوصية الأكراد، وتمنحهم كقومية ثانية ما يستحقونه من حقوق.
الشرق الأوسط