سوريا وخيارات الجامعة العربية
د. صالح عبد الرحمن المانع
أثار الفيتو الروسي- الصيني ضد قرار مجلس الأمن الذي تبنته المجموعة العربية، وقدّمه السفير المغربي في مجلس الأمن يوم الرابع من فبراير الجاري، استياء كثيرين في جميع أنحاء العالم. وقد قابلت حكومة الأسد هذا “الفيتو” بزيادة حملتها العسكرية على المدن السورية، وقتلت في حماه وحدها أكثر من ثلاثمائة وخمسين شخصاً، ولا زالت تحاصر حي بابا عمرو في المدينة وتضربه بالصواريخ.
ولكن ما الذي دفع بكل من روسيا والصين إلى اتخاذ مثل هذا القرار في مجلس الأمن؟ فعلى ما يبدو أن أعراض حمى الحرب الباردة قد عادت لتظهر من جديد، حيث انتقدت الدول الغربية قبل شهرين نتائج الانتخابات النيابية في روسيا، وشجعت بعض المظاهرات المعادية لإعادة تدوير السلطة بين الرئيس ديمتري ميدفيديف، ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين.
ويريد بوتين أن يدخل الانتخابات القادمة بصفته الزعيم القومي الذي يدافع عن مصالح روسيا، ويريد استعادة ملامح الإمبراطورية السوفييتية القديمة. وقد فقدت روسيا مواقع قوية لها في العالم العربي، خاصة في ليبيا، التي كانت سوقاً للسلاح وموطئ قدم لروسيا في المياه الدافئة. وتخشى موسكو أن تخسر أيضاً قاعدتين بحريتين لها في طرطوس على الشاطئ السوري، كما قد تخسر بعض التسهيلات اللوجستية الأخرى على الأراضي السورية.
كما أنّ كلاً من الصين وروسيا تخشيان تزايد النفوذ الغربي والأميركي في المنطقة، وخاصة أنّ أكبر مستفيد من حركة التغيير الحالي في العالم العربي هو الولايات المتحدة وأوروبا. وتريد الدولتان، عبر مساندتهما لموقف حكومة الأسد، أن ترسلا رسالة مهمة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنهما لن تقفا مكتوفتي الأيدي أمام أية ضربة عسكرية إسرائيلية محتملة ضد المواقع الإيرانية. فإيران، كما سوريا، وربما أكثر، هي منفذ مهم للصادرات العسكرية والمدنية الروسية، ومجال عمل مهم للشركات النفطية في البلدين.
ويحتمل دخول عامل ثالث على الخط أيضاً، هو أنّ معظم الحركات التي استفادت مما يسمى بالربيع العربي، هي حركات إسلامية، حيث انتزعت انتصار الشباب في مصر وتونس وليبيا، وجيّرته لحسابها الانتخابي. وتخشى كل من الصين وروسيا، أن يتم استبدال حكومة الأسد بحكومة إسلامية يقودها “الإخوان المسلمون” في سوريا. وعلى رغم اختلاف النهج السياسي، على الأقل في السياسة الإقليمية والخارجية، لجماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا عن شقيقتها في مصر، إلا أنّ هذه الدول الآسيوية تخشى من تأثير الإسلام السياسي على أقلياتها المسلمة في وسط آسيا، ومناطق تركستان الصينية.
وكل هذه الحسابات وغيرها من حسابات انتخابية وجيواستراتيجية ربما دخلت في بلورة الموقفين الروسي والصيني. ولطالما كانت منطقة المشرق العربي منطقة تنافس بين الدول الكبرى، سواءً في الغرب أو في الشرق، وهي تعود اليوم مجدداً يحفزها ويدعمها عطش هذه الدول المتزايد لنفط الشرق الأوسط، الذي أصبح جائزة يحاول الجميع اقتطاف ثمارها.
وتحاول روسيا اليوم الاستفادة من موقفها السياسي وتصويتها في مجلس الأمن، كما تحاول تعزيز مواقعها الاستراتيجية في سوريا، عبر زيارة كلٍّ من وزير خارجيتها ورئيس جهاز الاستخبارات فيها إلى دمشق يوم الثلاثاء الماضي. وسيحاول الروس زيادة حجم مبيعات أسلحتهم إلى حكومة الأسد لتقوية قبضته الأمنية على مناطق باتت تنازعه فيها القوات المنشقة من الجيش النظامي، التي تسمي نفسها بالجيش السوري الحر.
وفي مواجهة الأزمة السورية الراهنة هناك مساران محتملان للدبلوماسية العربية، أحدهما هو مواصلة الحوار والضغط على الحكومة السورية بكل الطرق الممكنة، ومثل هذا المسار لن يكون كافيّاً لتحقيق نتائج سريعة. وفي المقابل، ينبغي العمل على تفعيل تشكيل محور عربي- أوروبي- تركي- أميركي مفتوح لجميع الدول، عبر ما سمّاه الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، بمحور أصدقاء سوريا.
ويمكن لهذا المحور العمل على إعلان بعض مناطق سوريا مناطق منكوبة، وإرسال معونات عربية طبية وإنسانية عاجلة لهذه المناطق في حمص وريف دمشق والزبداني وغيرها من المدن التي تقصفها قوات النظام السوري. كما يمكن إعلان بعض المناطق السورية في الشمال والجنوب والغرب مناطق يمنع على الطيران السوري التحليق فيها. ومن بين هذه المناطق المرشحة مثلث (إدلب- جسر الثغور- معرة النعمان) في الشمال، ومحور (حمص- حماه) في الوسط، ومحور (درعا- داعل- الشيخ مسكين وحتى مدينة “إنخل” جنوب دمشق).
وإعلان مثل هذه المناطق كمناطق يمنع على الطيران السوري التحليق فيها، يعني أنها ستكون مناطق آمنة يمكن أن يحتمي فيها السكان المدنيون، وتلجأ إليها القوات العسكرية المنشقة عن الجيش السوري.
وكلما زادت المناطق التي لا يمكن لسلطة بشار الأسد بسط نفوذها عليها، فإنّ احتمال بقائه سيتراجع بشكلٍ كبير، مما يعطي فرصة أكبر لتغيير في السلطة يسمح ببروز قوى ديمقراطية بديلة في البلاد.
وفي الجانب الآخر مفهومٌ أيضاً أن الدعم الروسي لبشار الأسد لن يكون مجانيّاً، فستعني العودة إلى الحرب الباردة أن تحكم روسيا قبضتها على الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا. ويمكن أن يمثل ذلك تهديداً للأسد وزمرته الحاكمة، أن تلجأ الحكومة الروسية مستقبلاً إلى استبدال الأسد بقيادة عسكرية جديدة موالية لها في دمشق، وخاصة إذا ازداد توتر الأمور، وزادت حدة العنف بين السلطة والمعارضة.
وهنا يمكن لروسيا الادعاء بأنّ مثل هذا الانقلاب العسكري المحتمل هو طوق النجاة المقبول سوريّاً وعالميّاً لنظام باتت أيامه معدودة.
الاتحاد