سوريا ورود في الصحراء
عبير بشير
ما أشبه رواية النظام السوري… بقصة النبي سليمان عليه السلام – إذا جازت المقارنة – التي تحدثت كيف كان الجن يظنون أن النبي سليمان حي وقوي – وهو جالس على عرشه، يراقب ما يصنعون، فيما هو في الحقيقة ميت منذ أشهر ومتكئ على عصاه التي كانت تتآكل وتنتخر من الداخل حتى وصل الهريان مداه.. فخر النبي سليمان عن منسأته… لتدرك الجن أن ملكهم ومليكهم قد مات. “ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته”.
ففي حين يتظاهر النظام السوري بأنه متماسك وفعال ومبادر، وفي حين يدعي رأس النظام بشار الأسد – أن كل ما حدث من ضربات وانشقاقات في مخ وقلب النظام ما هو إلا عملية تنظيف ذاتي للدولة والوطن – شر ظاهري و خير باطني-.
ولكن الحقيقة الساطعة أن النظام يتآكل ويتهاوى من الداخل سواء على الصعيد الأمني أو العسكري أو الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي والأهم على مستوى سلطة النظام وسيطرته على الأرض… وأن سقوطه المدوي قادم بلا منازع وبلا اجتهادات. نقطة وأول السطر.
حرب الاستنزاف التي يقودها الجيش الحر ضد كتائب الأسد ببراعة وبسالة منقطعة النظير رغم التقاعس الدولي المريب عن تسليحه، تلك العمليات العسكرية التي تبدأ في مكان ثم تنتقل إلى مكان آخر ثم تعود إلى نقطة ثالثة… وتمتد من دمشق وحلب إلى درعا وإدلب والبوكمال مروراً بكل المدن والبلدات السورية وصولاً إلى القواعد الجوية، والتي تتسم بالخفة في الهجوم والمبادرة وخفة في الانسحاب. ولكنها خفة تكشف عجز كتائب الأسد عن التصدي لتلك العمليات وانكشافها عسكرياً ولوجستياً، وتتسبب بالمزيد من الإنهاك والتشتيت لجهود نظام الأسد لاستعادة السيطرة على سوريا الثائرة بيحلموا- .
في مقابل مراكمة الجيش الحر للنجاحات العسكرية والميدانية وحصوله على الذخيرة والعتاد والقذائف والآليات – غنائم حرب من كتائب الأسد – كل ذلك وغيره آليات وديناميات لتآكل النظام السوري من الداخل بشكل منظم.
وليس بعيداً عن سوريا، حيث إيران الحليف والصديق الصدوق لنظام الأسد التي خططت في احتفالية “قمة عدم الانحياز في طهران”، إلى إطالة عمر النظام السوري. ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن… فقد وجّه المشاركون في القمة لكمات قوية للمخطط الإيراني، لعل أبرزها كلمة رئيس أكبر دولة عربية محمد مرسي، فمرسي القادم من رحم الثورة الشعبية المصرية التي أطاحت بنظام مبارك، لم تكن أدبيات خطابه إلا لتكون منحازة للشعب السوري المظلوم ضد النظام الظالم.
الرئيس المصري الذي ساوى- لأول مرة – في خطابه بين الشعبين المقهورين الفلسطيني والسوري في طلبهم للحرية، وساوى بين الاحتلال الإسرائيلي والنظام السوري في درجة الإجرام والظلم. معتبراً بأن دماء الشعب السوري في رقابنا جميعاً. الأمر الذي دفع بالوفد السوري بالخروج من القاعة احتجاجاً على خطاب مرسي، فيما رئيس الوفد “وليد المعلم” يقول بأن موقف مرسي يشجع على سفك دماء السوريين، وليس على حقن الدماء.
روسيا الحليف الثاني، التي اتخذت قراراً استراتيجياً بدعم الأسد حتى النهاية، والتي تراهن على نسبة 10% على بقاء النظام السوري بسبب دعمها اللامحدود له. موسكو التي أبلغت كل من يهمه الأمر (الرئيس الأميركي باراك أوباما، الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان…) أنها لا تناور في ما يتعلق بمصالحها في سوريا ولا في الشرق الأوسط، وأن تعزيز الأسطول الروسي الرابض في المياه السورية ليس من قبيل التهويل أو التضخيم، ولكنه تطبيق للمعادلة التي أطلقها وزير خارجيتها سيرجي لافروف وهي “أن النظام العالمي الجديد يبدأ من سوريا”.
روسيا هي نفسها الآن مضطرة إلى إعادة حساباتها بالسنتيمتر وليس بالمتر، فمع ارتفاع سقف الدم في سوريا بشكل مرعب، ومع اتساع رقعة وحجم المجازر، ومع الحديث الدولي القوي عن مناطق آمنة داخل سوريا، والمحاولات الحثيثة لفرض حظر جوي لحماية المدنين من بطش الطيران الحربي السوري، بدأت نذر تدخل عسكري دولي في سوريا بشكل أو بآخر تلوح في الأفق، وبدأ القيصر الروسي فلاديمير بوتين بحدسه وحسه السياسي والعسكري الذي يعرف متى يكون اللعب مع الكبار ومتى يكون الجد، يخشى حقيقياً ولأول مرة منذ اندلاع الثورة السورية من تورط روسي في الشرق الأوسط، يهدد أمن بلاده في عقر دارها ويستنزف الاقتصاد الروسي. من هنا يتحدث بعضهم بأن بوتين أوعز إلى الأسطول الروسي بتخفيف عدد القطع الحربية في قاعدة طرطوس، مختلفاً مع الجنرالات الروس الذين رفضوا قطعياً هذه الخطوة. فيما لافروف ينخرط ديبلوماسياً في الانحياز للنظام السوري حين يقول: بأنه من السذاجة بأن تتوقع الدول العربية والغربية، أن يبادر بشار الأسد إلى وقف إطلاق النار وسحب قواته من المدن السورية… كلام يدل على يأس بالغ.
وعلى كل حال فإن بعض المحللين يذهبون للقول بأن الحسنة الوحيدة لروسيا في خضم أخطائها وخطاياها من الأزمة السورية والدم السوري، هي محاولتها كسر الصورة النمطية والذهنية عن الروس، بأنهم يتخلون عن أصدقائهم وحلفائهم بسهولة (ملهمش أمان). ولكن آخرين يقولون، بأنه كان بمقدور روسيا أن تكون أكثر وفاءً لسوريا وللشعب السوري إلى جانب وفائها للنظام السوري، ووفائها لمصالحها في الأساس. وأن روسيا كان بمقدورها في مرحلة مبكرة قيادة مرحلة انتقالية تحت عباءتها، بحيث تضمن رحيل الأسد من جهة، وعدم تصفير مؤسسات الدولة السورية، وانهيار الجيش العربي السوري، وتحويله إلى ميلشيات أسديه من جهة أخرى، وفي الوقت نفسه بقاء موالين لها في النظام السوري الجديد.
تتحدث صاحبة المقال الشهير “وردة في الصحراء” الذي تم نشره قبيل الثورة السورية في مجلة “فورغ” ويتناول عائلة الأسد، بأنها سألت بشار الأسد: “لماذا اخترت بأن تكون طبيب عيون”، فأجاب: “لأنه لا يوجد في هذا التخصص طوارئ، ولا دماء”.
الآن الطوارئ تعم كل سوريا من أدناها إلى أقصاها، والدماء الزكية تسيل في كل شوارعها وأزقتها، ورغم كل هذا الألم، وكل هذه الجراح، وكل هذا الدمار والخراب والصحراء الممتدة، فإن الصمود الأسطوري للشعب السوري النابع من عدالة ثورته هو من يستحق بالفعل أن يسمى… ورود في الصحراء.
القدس العربي