صفحات سوريةغازي دحمان

سوريا وولادة التوأم الشرق الأوسطي


                                            غازي دحمان

ارتبطت ظروف التشكيلات الجيوسياسية ومصائر الدول دوما بطبيعة الحراك الجيوإستراتيجي العالمي، بل كانت انعكاساً أمينا لها، وفي الغالب الأعم تغدو هذه العملية نتاج رؤى وتقديرات معينة لواقع المصالح وتكثفها وقدرة الدفاع عنها، وظروف التفاوض الدولي والقدرة على تخليق فرص جديدة ودرء مخاطر محددة. في هذه البيئة ولد مؤتمر “برلين” الذي قسّم أفريقيا إلى دول وممالك في منتصف القرن التاسع عشر، ومثله “سان ريمو” الذي قسم العالم العربي في بداية القرن العشرين.

عند توفر هذه الاشتراطات تصبح الجغرافيا وبقساوة تضاريسها، أكثر العناصر سهولة في معادلات التخليق الجيوإستراتيجي، بل وتصبح لينة ومطواعة إلى حد السيولة في حال توافر الشرط الديمغرافي المختلف، فيصار إلى رسم الحدود وفق ما يطلق عليه في الإستراتيجيات اسم “خطوط الدم أو العرق…”، أي بما يتناسب وحدود انتشار عرق أو طائفة ما.

في التطبيق العملي على الحالة السورية، يبدو الحديث عن انتصار ثورة وإسقاط نظام أو تنحي رأسه قد فات أوانه، وأن الأخضر الإبراهيمي تأخر عن القدوم إلى سوريا شهوراً عدة.

ثمة وقائع على الأرض ترسخ هذه المعطيات، فمن المستحيل أن يقبل النظام وأنصاره بأي طرح يبعدهم عن السلطة وسيقاتلون حتى بالسلاح الكيماوي، في مقابل ذلك يبدو من المستحيل أن يقبل الطرف الثائر (والمقصود بيئة الثورة أبناء الأرياف والضواحي) بقاء النظام الحالي، وسيرهنون أبناءهم الذين لم يولدوا بعد للمعركة التي يخوضونها.

هذه الحقيقة تجعل المراهنة على بقاء سوريا دولة موحدة أمرا من ضرب الخيال، فالمكونات الأساسية للمجتمع السوري (الطوائف والإثنيات) انزاحت كثيرا صوب التقسيم، ولم يعد واجب الحفاظ على الوحدة الوطنية كافياً للتمويه على هذا الواقع.

أمام هذه المعادلة المعقدة، يظهر الحراك الدولي كأنه فصل متمم للمشهد المأساوي في سوريا، بل واحدة من آليات الصراع المكملة لسياق الإستراتيجيات الدولية -المتضاربة- بشأن مستقبل سوريا والمنطقة عموماً، وصولاً إلى مهمة الإبراهيمي التي لا يمكن قراءتها بعيداً عن واقع الصراع الدولي ومقتضياته، فكما تمثل المهمة فرصة لروسيا وإيران لشراء الوقت من أجل ترسيخ وقائع ثابتة ودائمة في الحيز السوري، تمثل أيضاً فرصة للغرب لتغطية عجزه وتقاعسه.

لا بد من إدراك حقيقة أن الثورة السورية كشفت عن جثة فعالية أميركا التي قتلها تضارب أهدافها من التغيير في سوريا، فمن أمن إسرائيل ومنع انتقال العدوى السورية إلى دول الجوار، إلى منع انتشار أسلحة الدمار الشامل أو سقوطها في أيدي “الإرهابيين”، وإلى إضعاف إيران في سوريا واستتباعاً في لبنان، وصولاً إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير والموسع، كانت تلك سلة يصعب على الثورة السورية حملها أو ضمان تحقيقها.

غير أن أطراف المواجهة الأخرى (روسيا وإيران) كانت أهدافهما أكثر واقعية وقابلية للتحقق، فروسيا لا تطمح إلى شرق أوسط كبير، بل إن قمة طموحها في هذه المرحلة أن يكون لها تأثير على حيز مكاني يحقق لها وجودا في المنطقة، بما يشبه منطقة نفوذ أو مجالا حيويا يحقق لها مزايا محددة:

1- عازل بين الإسلام السني العربي ونظيره في القوقاز.

2- منطقة لوجستية لمد خطوط نفط وغاز إلى المتوسط كبديل إستراتيجي لخطوط أوروبا الوسطى.

3– حيز جغرافي يشكل مجالاً تفاوضياً يبعد واقع الحصار عنها ويجعلها طرفاً دوليا موجودا في أماكن عدة.

وعلى ذات المنوال غزلت إيران إستراتيجيتها، حتى أنها بدت تسير على نهج السياق القديم ذاته: مجال حيوي يتكون من نظام الأسد وحزب الله وبعض التوابع الفلسطينية، يشغل ويشاغل العالم بصراعاته وتفاعلاته، وتتابع إيران مشاريعها الطموحة في تحريك توازنات المرحلة لصالحها، وذلك نابع من إدراكها أن فقدانها لشرفة شرق أوسطية يجعلها عارية من القوة ويهدد مشاريعها الطموحة.

على وقع ذلك، لا يبدو أن المنطقة تسير باتجاه تحقيق الحلم الأميركي (شرق أوسط كبير)، بل إن الوقائع تشي باحتمال ولادة شرقين أوسطيين، وتلك خطورة كبيرة يتوجب التنبه لها، خاصة أن بيئة هذين الحيزيْن قد ارتسمت بداخلهما، وكانت سوريا، بوضعها ما قبل الثورة هي الحالة النشاز فيهما، وبوصفها قوة ضائعة بين الكتلة العربية انطلاقاً من انتمائها وتطلعات شعبها، وبين خيارات إقليمية رسختها سلطة الأسد الأب والابن في عمق مساراتها السياسية.

سيرتسم هذان الشرقان على خطوط طائفية، يمتلكان بوابات بحرية، ويتقاسمان الواقع الجيوإستراتيجي بما فيه من سيطرة وإشراف وتأثير. وهذه التوليفة تناسب كلا من إيران وروسيا، ويبدو أنهما تحاولان فرضها: الشرق الأوسط الأعلى (شيعي) ويشمل القوس الممتد من إيران والعراق وجبال العلويين إلى جنوب لبنان، وما بينهما من اقتطاعات خليجية. أما (كاريدور) طرق ربط هذه المناطق فتلك ما سيتم الاتفاق عليها بعد انجلاء غبار المعركة السورية، بمعنى القيام بمبادلة للأراضي بين مناطق في حمص وحماة مقابل خط يربط بين المناطق الشيعية في العراق وجبال العلويين في سوريا ومناطق البقاع اللبناني.

الشرق الأوسط الثاني الأدنى (سني) -والأعلى والأدنى هنا يعبران عن واقع تضاريسي باعتبار أن الأول يضم مناطق جغرافية ذات طبيعة جبلية بنسبة أكبر من الثاني- يشمل ما تبقى من سوريا والعراق ولبنان ومعهم الأردن، ويأخذ معه الهم الفلسطيني (ببعده الديمغرافي على الأقل)، بعد أن تكون إيران قد أنهت استثمار قضية الشرق الأوسط بنجاعة. كما يهيئ الحيز الكردي في المنطقة إلى صراع مؤكد مع ما تبقى من سوريا وعقاباً لتركيا على خياراتها السنية.

وكانت القوى الفاعلة في الملف السوري قد مهدت لهذه العملية عبر التقليل من الميزة الجيوإستراتيجية لسوريا موحدة، عبر تفعيل عملية الصراع وتقديمها بوصفها نوعا من الصراع الإثني والطائفي، في حين كانت الأمور تختلف عن ذلك تماماً، وذلك حتى يمكن هضم الخسارة الإستراتيجية أو التقليل من هيبة النصر ومقداره.

لا شك أن إستراتيجية المهل وإطالة زمن الأزمة وقبول المبادرات، وسذاجة الغرب أو تخاذله وجبنه، أوجدا واقعا على الأرض ستكتمل مرحلة ترسيمه وترسيخه بالدم، لكنها ستتحقق، من العراق الذي بدأ الهجوم على زعامات السنة، إلى لبنان الحاضن في داخله دولة جاهزة، إلى سوريا التي أفرغ النظام نصف مساحتها من السكان ودمر النصف الآخر.

لقد بدا واضحاً أن الأميركيين أصحاب نظرية “انتهزوا اللحظة” ثبت أنهم في هذه اللحظة كانوا أقل قدرة على التطبيق وأكثر تنظيراً، وكل ما فعلوه في لحظة تسيّدهم المشهد الدولي أنهم استنفدوا جهودهم كدولة عظمى بشكل غير مرشد في ساحات ما كانت تحتاج كل هذا المجهود، في حين بالغوا في اتباع سياسات حذرة في غير وقت الحذر، الأمر الذي جعل كل جهودهم من أجل السيطرة على نفط وجيوإستراتيجية الشرق الأوسط تصبح على الأقل تحت رحمة التفاوض حول تشكل هذا الهلال الشرق الأوسطي الأعلى.

في المقابل نجد أن روسيا التي استنفدتها أميركا ذاتها في حرب النجوم الوهمية، وأخرجتها من التاريخ معلنة بفرح ساذج على لسان فيلسوفها فوكوياما نهاية التاريخ، يبدو أنها استفادت من دروس التاريخ ووفرت طاقتها وجهودها ولم تشغل سوى عنصر واحد من قوتها وهو العنصر الدبلوماسي، أما إيران فثبت أنها كانت تستثمر في المنطقة.

أميركا رومني أو أوباما لن تفعل شيئا في القضية السورية، فعدا عن كون عناصر ضعف تحركها موجودة في ذاتها، فالأكيد أنها ستجد واقعا مكرسا لن تستطيع أمامه سوى القبول بلعبة التفاوض، فالنظام وحلفاؤه يجهدون لتغيير طبيعة مسرح الحدث عبر العبث به وتشكيله بطريقة تناسبهم، وكل يوم يمر يصنع معطيات جديدة: مهجرون أكثر، ودمار أكبر لمدن وقرى، ولنا أن نتصور استمرارية هذا الأمر وصيرورته بعد أربعة أشهر حين تكون واشنطن قد استفاقت من حملتها الانتخابية.

القضية لم تعد مسألة نظام وإصلاحات أو تنحي رئيس وسواه، وروسيا وإيران يستحيل أن يقبلا بالخروج من المولد السوري بدون غنائم وهما يتحكمان بالوقائع على الأرض، وهذا وضع طبيعي، وعلى الغرب أن يحصد الشوك -لسنوات طويلة- ثمنا لتردده في إزاحة النظام ودعم المعارضة. وغدا، وعندما نقرأ التاريخ الدبلوماسي كما سيدونه حكماؤهم، سنكتشف قاعدة جديدة في صعود وهبوط الدول، وهي أن إدارة الأزمات الدولية بطرق خلاقة هي سر حفاظ الدول على مكانتها.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى