سلامة كيلةصفحات الرأي

تعقيب على تعقيب.. جدل الرأسمالية وتجاوزها الممكن/ سلامة كيلة

 

 

سؤال تجاوز الرأسمالية قديم، كُتب عنه الكثير، لكنه لا يزال يتكرر. لهذا، لم يكن غريباً أن يفتح مقالي حول “اليسار وتجاوز الرأسمالية” نقاشاً. فالفكرة الأساسية التي حاولت تناولها هي التفكير في تجاوز الرأسمالية. وفي الواقع، كنت أنقد الرأي الذي كرره الصديق سمير سعيفان (تعقيب … تجاوز الرأسمالية الممكن من داخلها)، وهو رأي حكم قطاعاً كبيراً من اليسار العربي منذ انهيار الاشتراكية و”ظهور” العولمة الرأسمالية.

كان هدف المقال نقد خطاب اليسار المتكيف مع الرأسمالية، منطلقاً من تجاربه التي فشلت، وكانت فاشلة بكل المعاني، للدعوة إلى البحث عن سبل تجاوز الرأسمالية. وأشكر الصديق سمير الذي تدخل من موقع رفض التفكير في رؤيتي تجاوز الرأسمالية، على الرغم من أنه لم يفند نقدي فشل ذاك اليسار. وليعيد طرح التصورات نفسها المتوارثة منذ عقود طويلة، التي تصل إلى فكرة أن الرأسمالية يجري تجاوزها “من داخلها”. ولا شك في أن نقده لي أنني لم أبين “كيفية تجاوز الرأسمالية، أو أنني لم أحدد “أية اشتراكية”، ليس في مكانه، لأنه لم يكن من أهداف المقال ذاك، وقد كتبت، في هذه المسائل، كتباً ودراسات، ولم أكن معنياً بتكرار ما قلت في مقال قصير (يمكن مراجعة كتب “الاشتراكية أو البربرية”، “بصدد رؤية مختلفة للعالم”، “فوضى الأفكار”، و”أزمة الاشتراكية”)، وهي تحوي ردوداً على كل المنطق الذي يكرر أن الوضع الآن يتعلق باستمرار الرأسمالية، وأن تجاوزها يتأتى من داخلها. وهي فكرة تعممت عبر بيرنشتاين والاشتراكية الديمقراطية، لكن كذلك عبر الشيوعية السوفييتية. وحكمت الحركة الشيوعية طويلاً، لتظهر بعد انهيار الاشتراكية في ثوب جديد، لكن، هذه المرة، مستفيدة من الانهيار، لتأكيد فكرة ظهرت منذ نهاية القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من الأزمة المالية التي نشبت سنة 2008 (والمستمرة)، والتي هي ليست أزمة مالية محضة، بل مستدامة في بنية الرأسمالية، بعد أن هيمن المال على الرأسمال، أصبحت المضاربات وأسواق الأسهم والمشتقات المالية مهيمنة في مجمل النمط الرأسمالي. حيث أوضحت ماهية العولمة، وحدود الرأسمالية القائمة، وأيضاً “تعفنها”. وبالتالي، إذا كان انهيار الاشتراكية أنهى خياراً كما ظنّ شيوعيون كثيرون، فقد جاءت الأزمة، لتظهر أن الرأسمالية مأزومة، وفي وضع لا يشير إلى إمكانية مقدرتها على الاستقرار.

“إذا كان انهيار الاشتراكية أنهى خياراً كما ظنّ شيوعيون كثيرون، فقد جاءت الأزمة، لتظهر أن الرأسمالية مأزومة، وفي وضع لا يشير إلى إمكانية مقدرتها على الاستقرار”

لهذا، أشير إلى أن رد الصديق سمير هو تكرار نموذجي للأفكار التي باتت تحكم قطاعاً كبيراً من اليسار على ضوء انهيار الاشتراكية وانتشار العولمة. والتي اعتبرت أن العولمة “مرحلة جديدة” و”متطورة” في الرأسمالية، أنشأت عالماً جديداً أبعد أكثر إمكانية انتصار الاشتراكية. طبعاً من دون تلمس أنها عنت عولمة الأسواق المالية، وفتح الحدود لزحف الرأسمال للسيطرة على الاقتصادات “الضعيفة”، لنهبها، بعد أن عاد التراكم يعتمد على النهب (الريع) أكثر من اعتماده على الإنتاج. وبالتالي، تحويل اقتصادات الأطراف إلى اقتصادات ريعية كاملة، تقوم على الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك وأسواق الأسهم. وسنلمس أن سمير، وهو يتناول الرأسمالية، يفكر فقط في المراكز، أي في “البلدان المتقدمة الكبرى، وفي بلدان العالم الثالث البازغة”، هذه البلدان التي تعمل على “تطوير نظرية متكاملة حول نظام اقتصادي اجتماعي سياسي بديل”، “يتجاوز الرأسمالية الليبرالية القائمة”. على الرغم من أن النهب والإفقار والتهميش يطاول باقي العالم، هو يطرح التصور “التقليدي” الذي ينطلق من الفهم التقني أكثر مما ينطلق من الصراع الطبقي، حيث يصبح التطور ارتقائياً من دون تحولات نوعية أو قفزات، وهذا واضح في تناوله التجربة الاشتراكية، ولمنظوره لمسار التطور.

على الرغم من أنني أشرت إلى تجارب اليسار الذي نشأ بعد انهيار الاشتراكية، في أميركا اللاتينية، وأخيراً في اليونان، فقد ركز على تقييم التجربة الاشتراكية، خصوصاً التجربتين، الروسية والتجربة الصينية، ليقول إنه لا يعتقد “أن إعادة التجربة الاشتراكية، بنموذجها السوفييتي السابق، أمر ممكن أو صالح للتكرار”. ولا شك في أنني لا اعتقد بـ، ولا أدعو إلى، تكرار التجارب الاشتراكية، فالتكرار مستحيل، فالضروري هو دراسة التجارب من باب الاستفادة منها، بفهم مشكلاتها، والأسباب التي أفضت إلى انهيارها، لكي لا نكرر المسارات نفسها، ونطور من الآليات التي تمنع الانهيار من جديد. لكن الأمر لدى سمير سعيفان يخص ليس التجربة (يشير إلى مشكلات حكمتها وأفضت إلى انهيارها، وعديد منها صحيح) بل بكيفية تحققها، حيث اعتبر أن فشلها نتاج طبيعي لشكل الاستيلاء على السلطة عبر العنف، وفرض “الشرعية الثورية”، وليس واقع التجربة نفسها، ليس نتاج وضع روسيا وممكنات تطورها. طبعاً، لأنه ينطلق من خطل “طريق الثورة” التي يلخصها بكلمة عنف و”شرعية ثورية”، وان الرأسمالية تتطور من داخلها.

إذن، كان فشل التجربة هو نتيجة طريقة تحقيقها، التي هي العنف. أولاً، يتجاهل سمير، هنا، أن التجربة لم تفشل من المنظور التاريخي، وإنْ كانت الاشتراكية قد انهارت، فما حققته كان كبيراً. وسمير هنا مثل كثيرين ممن أصدروا حكماً قاطعاً بفشل التجربة بعد انهيارها، لا يرى ما تحقق في الواقع، حيث انتقلت روسيا من دولة قروسطية إلى دولة صناعية حديثة، وتجاوز المجتمع وعيه “الأورثوذكسي التقليدي” لمصلحة وعي حداثي، فرض أن تكون الديمقراطية رافعاً لإطاحة النظام. من دون أن نشير إلى التطور العلمي الكبير والتقدم الحضاري الذي باتت تعيشه روسيا (وكل البلدان الاشتراكية السابقة). حققت النظم الاشتراكية ما حققته البرجوازية الأوروبية في سياق تطورها وانتصارها، في وقت كان قد أصبح مستحيلاً انتصار البرجوازية في البلدان التي اكتملت الرأسمالية كنمط عالمي (إمبريالي)، قبل تحقيقها التطور الصناعي والحداثة. لا يهتم تعقيب سمير سعيفان بهذا الأمر، ولا يرى الرأسمالية إلا في سياق تطوري صاعد، كما لا يرى الفارق الكبير بين المراكز والأطراف، وكيف بات مستحيلاً على الأطراف دخول عالم الصناعة والرسملة، وبالتالي، كانت رأسماليتها كومبرادورية (والآن مافيوية).

حين يصرّ سمير على أن التطور هو من داخل الرأسمالية، وليس على الطريقة الروسية الصينية، ينطلق من أن هذه التجارب فشلت كما أشرنا، وبالتالي، فشلت طريق “السيطرة على السلطة بالعنف، وتحويل المجتمع من رأسمالي إلى اشتراكي باستخدام -الشرعية الثورية- المستندة إلى -العنف الثوري-” بفشل التجربة. يبدو من هذا النص أن مفهوم الصراع الطبقي ليس وارداً في قاموس سمير، وأن التناقضات في المجتمع التي تفجر الثورات ليست قائمة في بنيته الذهنية (هذا من آثار الشيوعية السوفييتية). وهو لا يعتقد بأن الشعوب تثور على الرغم من الثورات العربية، وأن التطور يعتمد على المسار الخطي الذي تنجزه الرأسمالية. هنا، نجده من دعاة الإصلاح وليس الثورة، الإصلاح الذي يفرض تطور الرأسمالية، لكي تصل إلى أن تكون مجبرة على الانتقال إلى الاشتراكية، هذا ما توضحه اقتراحاته التي سوف أتناولها تالياً. ولا شك في أنه هنا يعود إلى الاشتراكية الطوباوية من جهة، عبر ألأشكال التي يقدمها. لكنه، من جهة أخرى، يلتزم مسار بيرنشتاين والأممية الثانية (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي باتت تعيش نهايتها وإخفاق كل تصوراتها). حيث تتحول الاشتراكية إلى تيار “إنساني”. في الواقع، هناك تناقضات تفرض تفجر الثورات، هل نرفض انتصارها وإسقاط الطبقة المسيطرة على أن أن يقود تطورها الطبيعي إلى تحقيق حل إنساني؟ أم نقدم البديل الطبقي؟ لا يتعلق الأمر هنا بمنظور تقني، يفرض البحث في مشكلات الرأسمالية، لتصحيحها كي تتقدم، إلى أن تكون مجبرة على أن تقبل الاشتراكية، بل يتعلق بمنظور طبقي، يفرض حسم التناقض القائم في الواقع.

“إنْ كانت الاشتراكية قد انهارت، فما حققته كان كبيراً. وسمير سعيفان هنا مثل كثيرين ممن أصدروا حكماً قاطعاً بفشل التجربة بعد انهيارها، لا يرى ما تحقق في الواقع”

ما يكمل منظور سمير هو العولمة، حيث يهرع للاستنجاد بها للقول إنه لا يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد مجبر حتماً على إقامة علاقات مع السوق الرأسمالي. فهو يتساءل: “هل يمكن لبلد صغير أم كبير أن يقيم نظاماً اقتصادياً، يقوم على أسس وسياسات تتناقض مع نموذج اقتصاد السوق الرأسمالي السائد”؟ في ظل قوة الرأسمالية وجبروتها، بداية القرن العشرين، استطاعت روسيا السوفييتية ذلك وهي وحيدة. ولا شك في أنه في ظل ضعف الرأسمالية وتأزمها تصبح المسألة أسهل بالضرورة. لكن الأمر يتعلق بفهم سمير للعولمة، الموضة التي مجّدها يساريون سابقون كثيرون، من دون أن يفهموا ماهيتها، فهو يرى فرضها الليبرالية عالمياً، لكنه لا يرى المشكلات العميقة التي باتت تنتجها. أشرت إلى أن العولمة كانت استراتيجية الطغم المالية التي أرادت عالماً مفتوحاً لمضارباتها، وللنشاط في القطاعات الاقتصادية الهامشية من أجل النهب. وبالتالي، زادت في إفقار الشعوب، وفي تأزم أوضاعها ولم تطور الاقتصاد في أيٍّ من البلدان التي لم تكن قد تطورت، كما عملت على تهديم ما تطور في بلدان عديدة، فارضة اقتصادها الريعي ومضارباتها (تسمى الاستثمار القصير الأجل). كانت العولمة هي سياسة الطغم المالية بالتحديد. بالتالي، ماذا يمكن أن تنتج غير الثورات، ومحاولة التخلص من الرأسمالية؟

كما أن وضع الرأسمالية الراهن، وانطلاقاً من سيطرة الطابع المالي، يسير نحو تعميق الأزمات الاجتماعية، حتى في “أطراف المراكز”، مثل جنوب أوروبا وشرقها، الأمر الذي يفرض “عودة الصراع الطبقي” والسعي إلى تجاوز الرأسمالية، وليس الضغط عليها من أجل الإصلاحات. ربما كان المنظور الإصلاحي ممكن التداول، في لحظة استقرار الرأسمالية. لكن، حين لا يعود الاستقرار ممكناً، ويصبح المطلوب إفقار الشعوب في الأطراف وحتى في المراكز، يكون التمسك به “تخيلاً”، وربما “مصلحة طبقية”، أو “وعياً زائفاً”. رسّخت الشيوعية السوفييتية فكرة التطور الرأسمالي، وحتمية المرور بالمرحلة الرأسمالية، وكان انهيار الاشتراكية مدخلاً لتعزيز الشعور برسوخ الرأسمالية، وبضرورتها الحتمية. لكن، بعد أن هيمن المال المضارب على النمط الرأسمالي، وتحول النشاط المالي وسيلة لتحقيق التراكم عبر النهب من جديد، يكون التمسك بذاك المنظور ضرباً من “الجنون”، أو تعبيراً عن “كارثة معرفية”، أو التعبير عن مصلحة طبقية، باتت تفرض الدفاع عن أحقية الرأسمالية.

يطرح الدكتور سمير سعيفان بديلاً، ما هو؟ هو يرفض تجاوز الرأسمالية “بالطرق الثورية السابقة”، لكنه يرى أنها تتحقق عبر “تطوير نظم يمكن أن تنمو في رحم الرأسمالية، عبر صراع اجتماعي طبقي ثقافي معرفي وإنساني واسع، يستمد قوته من نمو وعي الناس بمصالحهم وحقوقهم وقدرتهم، متجسدة في حركة شعبية واسعة، متعددة الجوانب في قلب النظام الرأسمالي”، مثل “النموذج الاجتماعي الأوروبي واقتصاد السوق الاجتماعي الألماني، وأنظمة الدول الاسكندنافية وغيرها”. وتتحقق “عبر قوتها الانتخابية ضمن نظم ديمقراطية”، وتوسيع الديمقراطية “لتصبح ديمقراطية شاملة”.

سنلمس أن المنظور ينطلق من وضع أوروبا وأمثالها، لكنه لا يتعلق بنا في الأطراف. حيث كانت تلك الأشكال نتيجة سيطرة الرأسمالية على العالم، الأمر الذي جعلها قادرة في مرحلةٍ على أن تعيد صياغة التكوين الطبقي لمصلحة الفئات الوسطى، وأن تحسّن وضع العمال، وكان ذلك جزءاً من توسيع السوق الداخلي. أما في الأطراف، كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ يطرح سمير “قواعد تحقق هذا النموذج” التي تنطلق من “قوانين اقتصاد السوق وآليات عمله القائمة”، لكنه يضيف شرطاً لا أعرف كيف يمكن تحقيقه، يتمثل في “الحفاظ على سياسات تحفّز القدرة الإنتاجية للاقتصاد والاستثمار والإنتاج”، وهو كما سيبدو ينطلق من أسس مجردة، وتحديدات تحتاج إلى تحديد ممكنات تحقيقها.

فهو، مثلاً، يريد “توسيع قاعدة ملكية وسائل الإنتاج وزيادة أعداد المالكين، بحيث يصبح معظم المواطنين مالكين أو مساهمين في ملكيات صغيرة”، وما دام يستخدم مصطلحات ماركسية، ألم ينتبه إلى أن اقتصاد السوق يفرض، بالضرورة، وفق ماركس الميل نحو التمركز، ومن ثم نشوء الاحتكار؟ لا شك أن كل ما يقدمه، هنا، هو من تراث الاشتراكيات الطوباوية.

ثم يتعامل مع الدولة وكأنها فوق الطبقات، إنها قوة محايدة، فهي حكم محايد بين الطبقات، وترعى التوازن الاجتماعي. وعليها أن تحقق البرنامج المطروح الذي يبقي شكل الملكية المشار إليه، وتحمي إقامة سوق عمل مرن، وحزمة سياسات نقدية ومالية وضريبية واستثمارية، وغيرها. متى كانت الدولة محايدة؟ وهل يمكن أن تكون كذلك؟ هذا وهم فككته الماركسية منذ زمن بعيد، ويظهر في الآونة الراهنة جلياً (مثلاً دعم الدولة للبنوك وقت الأزمة، على الرغم من أن ذلك أوقعها في أزمة).

إذن، البرنامج هو عودة للاشتراكية ما قبل ماركس (الطوباوية)، ويتبع طريق أحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي باتت ملفوظة، ومؤسس على منظور مثالي. في عالم بات ينزع نحو تصاعد الصراع الطبقي، وتفجّر الثورات، بعد أن باتت الرأسمالية في قمة أزمتها التي لا حلول لها. وهذا ما سيكسر كل أوهام التطور الارتقائي.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى