سورية … إلى أين ؟
د . محمود عطور
كما نشاهد في الأخبار فإن تسارع الأحداث في سوريا الغالية التي لو تكلمنا عما يحدث فيها قبل ستة أشهر لما صدق أحد عما يجري الآن وهذا ينطبق إلى حد كبير على مجمل وطننا العربي الكبير في أكثر من بلد عربي فرحم الله تعالى محمد البوعزيزي مفجر هذه الثورات المباركة .
ربما أن من “آثار” بين قوسين نظام الحكم القائم في سوريا أن أفقد الناس ثقتها بعضها بالبعض الآخر ولكن الشعب في هتافاته أعاد جزءا كبيرا منها فها هي بانياس تصرخ بالروح بالدم نفديك درعا ويأتي الجواب من حمص بالروح بالدم نفديك لاذقية ونسمع الهتاف نفسه في دير الزور والقامشلي وهكذا فالشعب بكافة مكوناته يفتدي الوطن بكل عزيز ، هذه هي روح شعبنا الأبي الذي ما بخل يوما في تقديم التضحيات والذود عن الحق وإن إستكان بعض الشيء بسبب القمع المتواصل فقد بعثت فيه روح جديدة أعادت له أصالته وحيويته ومن واجبنا نصرة هذا الشعب الذي يدفع شبابه دمهم في سبيل حرية الوطن وكرامته .
بالمقابل فقد النظام الكثير من الثقة به جراء عدم تطابق أقواله مع أفعاله ، وعدم قدرته على متابعة مجريات الأحداث النظر بمطالب الشعب ، الأمثلة كثيرة ولكن نورد مثال على ذلك رفع حالة الطوارئ التي كانت مطلبا جماهيريا فقد تدرج القول برفعها وحلول إجراءات محلها والمرجع في رفعها مع أنه ووفقا للمادة 101 من الدستور القائم إنما هي بيد رئيس الدولة ليس غيره ، ومن الناحية العملية لم ترفع حالة الطوارئ بل جرى تطبيق مضامينها بشدة بعد مرسوم الرفع وخير دليل على ذلك ما يحدث اليوم على الأرض دون غطاء قانوني .
إن الحكمة من الأمور المهمة التي على الجميع التحلي بها خاصة أمام الأزمات وإن التعامل الأمني لن يجدي نفعا أمام شعب يطالب بحريته وأمام الوضع القائم الذي يتجه بشكل متسارع إلى نهايات مأزومة لا نجد لها سبيلا للنور ، إن المواطنين هم الحريصون على سلامة الوطن ووحدته ومنعته ، إنهم من يذودون عن المقاومة والمقاومين ويحرصون على إيواء المستضعفين والممانعة لا تكون إلا بهم ، ولكن لا تقدم ولا إزدهار إلا مع الحرية والكرامة .
إن القوة الحقيقية هي قوة الشعب ووحدته فلكل شعب مطالبه ومصالحه التي يدافع عنها ونحن مطالبنا ومصالحنا تتمثل في التخلص من الظلم والقهر وتحقيق دولة المؤسسات والقانون دولة المدنية المعاصرة الدولة الديمقراطية التي يكون شعارها الحق والعدل والحرية بلا تمييز ولا عنف ولا طائفية .
السلطة القائمة في أي بلد يقع عليها واجب حماية حياة الناس وأموالهم وممتلكاتهم وكذلك الحفاظ على حريتهم وكرامتهم ، ينادي الشعب في مدنه وقراه باديته وحضره بحرية الوطن والمواطن للمطالبة بإنهاء حالة إحتكار السلطة من جهة واحدة وهيمنتها على المشهد السياسي لما يزد عن أربعين عاما ، تغول السلطة بأجهزتها الأمنية على مقدرات الدولة والمجتمع ، سمعنا من يقول أن الشعب لا يعرف ماذا يريد وسمعنا أيضا من يقول أن أي مبادرة تحت سقف الوطن مرحب بها وسيتم التعامل معها بإيجابية ، ما يطلبه الشعب أن يكون آمنا في حياته ورزقه وعمله ، أن تنتهي حالة الفساد والمحسوبية ، أن يعلم أن هناك توزيعا عادلا لمصادر الثروة ، أن هناك أسسا للتنمية ، أن يشعر المواطن بتحقيق تكافؤ الفرص والعدالة الإجتماعية ، أن يتم التعامل معه بكرامة ومصداقية وشفافية كمواطن وليس تابع ، أن تنتهي حالة الفقر والعوز دون تمنن أو إسترضاء ، أن يكون حرا في أقواله وإختياراته ومسؤولياته ، أن يعبر عن نفسه بآمان وحرية ، أن يشارك بحرية في صنع قرار بلاده ، أن يختار مسؤوليه بحرية بعيدا عن كل هيمنة أو تسلط ، أن يكون مطمئنا على حقوقه ومستقبله ومستقبل أولاده وبلاده ، أن تكون له حقوقه المصانة قانونيا ودستوريا ، من ناحية حقوقية فإن الشعب يطالب بمحاسبة كل من تطاول على حياة أبناء الشعب وكرامتهم وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وبعودة المبعدين والمنفيين دون قيد ، دستور جديد للبلاد يتضمن على الخصوص إقرار حقوق المواطنة لكافة مكونات الشعب السوري ، إطلاق الحريات العامة وكفالة ممارستها ، يقرر إنتخاب رئيس الجمهورية لفترة محددة وعدم تجديدها لأكثر من مرة واحدة يحدد ويحد من صلاحياته ، يؤسس هذا الدستور لمرحلة جديدة من الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة عنوانها الشعب مصدر السلطات ، إقرار مبادئ تشريعية مهمة تطبيقها والعمل بها : الفصل بين السلطات ، المراقبة والمحاسبة ، حماية الحقوق والحريات العامة ، ضمان التداول السلمي للسلطة وضمان الإنتقال إلى مرحلة الحرية والديمقراطية والتعددية الحزبية ، تعزيز مكانة السلطة القضائية وضمان حيادها وإستقلالها وترسيخ قواعد دولة المؤسسات والقانون وإخضاع جميع الأجهزة لسلطان الدولة والقانون ، هذه المطالب كلها تحت سقف الوطن وجميعها مشروعة لا شك في ذلك وقد أقر النظام بأحقيتها ومشروعيتها فلماذا لم يبادر إلى تحقيقها ولماذا إضطر الناس للخروج إلى الشارع للتعبير عنها ، فماذا بعد ؟! جاء رد السلطات يساندها إعلام رسمي لم يبق له جمهور في محاولة للإلتفاف على المطالب المشروعة و”شيطنتها” إتهامات بجواسيس ومرتزقة تارة وبمندسين وخونة مرتبطين بأجندات خارجية تارة أخرى وفئات متعصبة تستهوي القتل تارة ثالثة وهكذا إتهامات مفضوحة لا يصدقها أحد ، وممن تأتي هذه الإتهامات من مواطن سوري تجاه مواطن سوري آخر بشكل لا يليق إطلاقه ، ثم يأتي إستخدام السلاح ضد العزل الآمنين فيسقط هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمصابين ، لا يمكن تبرير القتل بأي شكل من الأشكال ، والدماء التي تسيل تلهب مشاعر كل إنسان حر شريف ولا يرضى بها أحد، كل قطرة دم تراق هي خسارة للبلد لأن من يقتل أو يجرح هم من المواطنين السوريين سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين ، إن محاولات التخوين وإثارة النعرات تضر بالشعب والبلد ولا تخدم غير المتربصين به ، وعليه فإن السلطة التي لا تستطيع تحقيق مطالب الشعب ولا حمايته يتعين عليها الرحيل ، وفي التاريخ السوري شاهد حي على ذلك ، فعندما شق على الجيش الفاتح حماية المدينة السورية التي دخلها أمام جيش الروم قرر قائد جيش المسلمين الخروج من المدينة ولكن بعد أن جمع الوجهاء وأعيان القوم وأخبرهم بعدم قدرته الدفاع عن المدينة وحمايتهم معيدا إليهم ما أستوفاه من أموال أخذها لحمايتهم ولما لم يستطع ذلك أعادها إليهم بكل شجاعة ومسؤولية لأنه لم يستطع تحقيق خدمة الغاية التي من أجلها أخذ هذه الأموال ، فهل يكون في ذلك عبرة .
محام واكاديمي سوري
القدس العربي