” سورية الصرخة المخنوقة”
اغتصاب العقل/ عمر قدور
لم تكن نسبة كبيرة من السوريين بحاجة لمشاهدة فيلم “الصرخة المكبوتة” للتأكد من وجود عمليات اغتصاب ممنهجة في زنازين الأسد، ربما يفيد الفيلم لرميه أولاً في وجوه مدّعي معارضة أو ثورة أنكروا سابقاً وجود عمليات اغتصاب في تلك الزنازين. أمثال هؤلاء سيبادرون بلا شك، بعد الأدلة التي تفقأ العين، إلى إنكار الغرائز الطائفية التي تمنهج هذه الاستباحة، ربما بالإشارة إلى أن من نفّذوا عمليات الاغتصاب هم أشخاص متعددو المنابت الطائفية في خلط متعمد بين إدارة هذا النهج وأدواته، وفي تمييع لا تخفى مقاصده لمفهوم الاستباحة التامة بوصفه جريمة كاملة الأركان ضد الإنسانية.
للتذكير، الاغتصاب الممنهج لم يقتصر على النساء، فقد طال أيضاً الأطفال والرجال. وهو بمفهوم الاستباحة يهدف إلى تجريد الضحية من كافة أركان وجودها الإنساني، بموازاة تجريدها من حق الحياة نفسه عبر أعمال الإبادة الواسعة، وعبر عمليات الاعتقال الكثيفة على خلفية انتماء مناطقي فقط، أو بسبب صلات القرابة مع نشطاء في صفوف الثورة. وللتخلص من التركيز على المفهوم الشرقي للشرف من المفيد تذكّر عمليات الاغتصاب الجماعي الممنهج التي رافقت عمليات الإبادة في جمهوريات يوغسلافيا السابقة، أي أن فعل الاغتصاب وإن أخذ أهميته من ارتباطه بمفهوم الشرف في مجتمعاتنا إلا أن ما يحرّكه في كافة الأمكنة هو تدمير الضحية كلياً، واعتبار الصراع مع هذه الضحية “وما تمثّله” صراع وجود لا يكون الانتصار فيه إلا بسحقها. استخدام السكاكين وذبح الضحايا من قبل شبيحة الأسد دلالة أخرى على نوعية الوحشية التي لا تتواجد إلا في هذا النوع من الحروب، مع التنويه بأسبقية اعتماد أسلوب الذبح قبل اقترانه لاحقاً بتنظيم داعش. هذه عموماً سمة الصراعات التي تُستخدم فيها المسألة الطائفية، أو التي تُستخدم فيها الأيديولوجيات الفاشية والعنصرية بمختلف أنواعها، وفي حالتنا السورية لن يكون توصيفها الواقعي والقانوني أقل من الهولوكوست الذي استهدف به النازيون اليهودَ والغجر.
الجزء الثاني من فيلم “الصرخة المكبوتة”، الذي عرضته القناة الفرنسية الثانية، أتى بعد أيام بحوار أجرته القناة ذاتها مع الرئيس ماكرون. الرئيس المتذاكي ابن مدرسة البنوك، كما تصفه شريحة واسعة من الفرنسيين، لم يتورع بعد عرض الفيلم عن تكرار القول بأن داعش هو عدوه وأن الأسد هو عدو الشعب السوري، وأنه يجب بدء الحوار مع الأخير بعد الانتهاء من داعش. في بلد يجرّم إنكار الهولوكست أو التقليل من هول المحرقة يخرج رئيسه ليتجاوز القانون الدولي بلا خجل، وكأنه لم يسمع بتوصيفات من قبيل “جرائم ضد الإنسانية”، أو بهيئات مثل “محكمة الجنايات الدولية”. المسألة هنا لا تتوقف عند تدني الحساسية الأخلاقية تجاه البشرية ككل، وإنما تصل إلى حد اغتصاب العقل البشري بجعله يقبل الجريمة في مكان ويرفضها في مكان آخر، بحسب هوية الضحية، وفي إنكار يرقى إلى درجة العنصرية لمجمل الاتفاقيات الدولية ولمسؤوليات فرنسا كعضو دائم في مجلس الأمن. ولكي يكون التمييز على أشدّه فقد بادرت الرئاسة الفرنسية مؤخراً إلى سحب وسام “جوقة الشرف” من المنتج هارفي وينشتاين على خلفية اتهامه بقضايا التحرش الجنسي، بينما تتلكأ في سحب الوسام نفسه الذي كان جاك شيراك قد منحه لبشار الأسد.
لكن الأمانة تقتضي القول بأن ماكرون يستأنف سياقاً لم يكن له فضل تأسيسه، فمنذ بداية الثورة ونشر التقارير الحقوقية عن التعذيب والاغتصاب في زنازين الأسد، وصولاً إلى صور المجازر العلنية في الحولة وبانياس والبيضا…إلخ، كان اغتصاب العقل جارياً بترويج تلك المخاوف الدولية من البديل عن تنظيم الأسد. فوق الدم أريقت بحار من الحبر لمناقشة ذلك التساؤل عن البديل، وكانت الفرصة سانحة لمزاد إبراز مساوئ المعارضة، أو فيما بعد للنفخ في بعبع داعش وغيره من المتطرفين، من أجل طمس الجرائم الأصل وإسكات أصوات الضحايا. فلم يكن ينفع مع مروّجي تلك الجائحة القول بأن البديل ليس داعش وأمثاله ولا هذه المعارضة، ولا القول بأن البديل يُفترض أن تأتي به الإرادات الحرة لمجمل السوريين، وبالطبع لم يتوقف أحد منهم عند نقطة أساسية هي أن مكان السفاح هو قاعة المحكمة لا قصور الرئاسة.
استباحة العقل توازي بآثارها استباحة الأجساد، من حيث أنها تسعى إلى إقناع الضحية بالتطبيع مع الجريمة، وأن يكون التفكير انتقائياً بحيث يقبل من تنظيم الأسد ما لا يقبله من تنظيم داعش. ثم يتوجب على هذا العقل قبول التزام من طرف واحد، إذ يعتبر داعش عدواً مشتركاً للبشرية بينما ترى الأخيرة في بشار عدواً للسوريين فحسب. الاغتصاب الممنهج في معتقلات الأسد،بقدر ما يحمل من الأذى، ستتضاعف حمولته وتزداد إيلاماً مع الاغتصاب الرمزي الذي يستهدف العقل قبل المشاعر. وسيكون من المعيب، وفيه ما فيه من قلة الكرامة، رد ذلك هذا الأذى المركب إلى محض تعامل شرقي مع قضية الشرف، خاصة بالمقارنة مع مجتمعات قد تجرّم شخصاً بتهمة التحرش بسبب نظرة ذات مغزى جنسي.بهذه المقارنة نعود إلى المبدأ الذي يوصّفه اغتصاباً، من حيث أنه اعتداء على الإرادة الحرة للطرف الآخر، ويكون التمييز في منح أفضلية الحرية لضحايا التحرش الجنسي في الغرب على ضحايا الاغتصاب الممنهج اللواتي لا يُنظر إليهن كمستحقات حرية. في هذه النقطة، نقطة عدم اعتراف قادة غربيين بأهلية ضحايا الأسد، لا يقل أولئك القادة بشاعة عن أهالٍ تقليديين قتلوا بناتهن ضحايا الاغتصاب في المعتقلات.
الحق، إذا أجرينا مقارنة معاكسة، أن ضحايا الاغتصاب اللواتي ظهرن في الفيلم “وغيرهن كثيرات أدلين بشهادات أمام منظمات حقوقية” هن أكثر شجاعة وحرية من نجمات سكتن سنوات طوال على تحرش جنسي. مرة أخرى يجدر بنا عدم التركيز على مسألة الشرف التقليدية لئلا تصبح الشجاعة مقتصرة على مواجهة المجتمع المحلي، فعدوّ تلك النسوة ليس مجتمعهن في المقام الأول وإنما هو تنظيم الأسد المجرم ومَن يشاركه في جريمة الاغتصاب صمتاً أو إنكاراً أو تقليلاً من شأنها.
من دون محاكمة المجرمين ستبقى الاستباحة معممة، وغير مقتصرة على الضحايا من الدرجة الأولى أو الثانية، ومن دون تحقيق العدالة سيكون محتماً ازدياد نوازع الثأر الأعمى، بما في ذلك الثأر من الذين دعموا الاغتصاب الجسدي بمحاولات اغتصاب رمزية. في انتظار تحقيق العدالة يوماً، رغم ضآلة الأمل بذلك، أسوأ أنواع التعاطف المحلي مع الضحايا اللواتي ظهرن في الفيلم هو الذي يأتي على شكل ذكورة مطعونة في شرفها، لأنه تحت ستار هذه النخوة اللفظية يعزز إحساسهن بالعار، بينما العار الحقيقي أبعد ما يكون عنهن.
المدن
صرخة المرأة السورية الشجاعة/ بشير البكر
عارض سوريون ترويج فيلم “الصرخة المكبوتة” الذي أنجزته وعرضته القناة التلفزية الفرنسية الحكومية (الثانية)، عن عمليات اغتصاب تعرّضت لها نساء سوريات من أجهزة نظام بشار الأسد. ويرى أصحاب هذا الموقف أن الفيلم ذو مفعول سلبي على صورة المرأة السورية، ولن يكون له أي دورٍ في تحريك العدالة الدولية، من أجل محاكمة الجناة والاقتصاص منهم. ويقول هؤلاء إن هذه الجريمة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة لنظامٍ مكون من فريق محترفٍ للجرائم ضد الإنسانية، وهو يمارسها بدون حرج أو خوف، ليس اليوم فقط، وإنما منذ زمن طويل.
معروفٌ أن نظام الأسد قام على الجريمة، وعاش واستمر عليها. ومن جريمة إلى أخرى، صار لديه جهاز من القتلة المحترفين الذين تخصّصوا في فنون السيطرة على المجتمع السوري، وتطويعه كي لا يتحرّك. ولذلك استطاع، خلال أعوام الثورة، التكيف مع الانتفاضة العامة، بابتكار أساليب من العنف للدفاع عن نفسه، لم تكن في حساب أحد، حتى تفوّق في ممارسة الرعب على سائر الأنظمة التي حكمت شعوبها بالحديد والنار.
ويستدعي النقاش الدائر بشأن الشريط التلفزيوني عدة ملاحظات: الأولى، أن استباحة النساء سلاح قذر جرّبه النظام قبل مجازر حماة وحلب وبعدها، في أوائل الثمانينات، من أجل تحطيم البنية العامة للمجتمع، وإخماد الانتفاضة الشعبية في المدينتين. وهناك شهاداتٌ، القليل منها مسجّل، عن الاستخدام المنهجي لهذا الفعل المشين، من أجل إجبار المعارضين على إلقاء سلاحهم والاستسلام، وتقديم اعترافات عن عملهم السياسي وتنظيماتهم. ويروي عسكريون سابقون أنهم كانوا يتلقون أوامر من القيادات العليا بضرورة اغتصاب جميع النساء في البيوت التي تتعرّض للمداهمة، وأن تجري العمليات بحضور الأزواج والإخوة والأبناء والآباء.
والملاحظة الثانية، إن عمليات الاغتصاب التي شملت النساء يُراد، في جانبٍ منها، شطب المرأة السورية من الثورة التي لم تكن لتستمر إلى اليوم، لولا القدرة الهائلة على الصبر والعطاء والتحمل لدى النساء السوريات. وكل من سوف يقوم بدراسة الثورة ذات يوم، سيجد أنها لم تكن لتستمر، لولا الخط الدفاعي الذي وفرته النساء، لكي لا تنهزم الثورة في أشهرها الأولى. الأمهات والزوجات والأخوات والصديقات كنَّ مع الرجال في كل موقع، ولعبن دوراً كبيراً في تماسك مجتمع الثورة، وحمايته من الانهيار، سواء في الداخل أو بلدان الهجرة. وتتحمل النساء الأرامل مسؤولية مئات آلاف الأطفال الذين استشهد آباؤهم، ولم يعد لهم من معيل غير أمهاتهم اللاتي اضطر قسم كبير منهن إلى الهرب إلى الخارج من أجل حماية الأطفال.
الملاحظة الثالثة، إن الشهادة على هذا الوضع الصعب تساعد بعض الضحايا على تجاوز ما هو مكتوم من حمل ثقيل، ووضعه أمام الآخرين، بهدف رؤية الضحية داخل محيط شرطها القاسي. ويمكن إدراك أهمية هذه النقطة من خلال ردود الفعل التي عبر عنها رجالٌ تهيبوا مشاهدة الشريط، ثم عادوا لمشاهدته أكثر من مرة، لأنه وضعهم أمام صورةٍ عاريةٍ للوضع السوري اليوم.
الملاحظة الرابعة، إن كل جرائم نظام الأسد الأب والابن حصلت على تغطيةٍ دولية، ولم تخضع للحساب الذي تستحقه وفق القانون الدولي، ولو لم يسكت العالم عن جريمتي حلب وحماة في الثمانينات، لما تجرّأ النظام على ارتكاب جرائم اليوم. ولو لم يتكفّل الروس بتخليص النظام من تبعات استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في أغسطس/ آب عام 2013 لما كان النظام على قيد الحياة، لكن عدم محاسبته لا يعني سقوط حقوق الضحايا، ودور الفيلم أساسي في هذا المضمار.
بعد هذا الشريط، لم تعد صرخة الضحايا من السوريات والسوريين مكتومةً، بل باتت مدويةً في كل مكان، ولن يقلل من ثقلها إفلات النظام المجرم من العقاب حتى إشعار آخر.
العربي الجديد
“سورية الصرخة المخنوقة”… ماذا حصل بعد عرض الفيلم؟
فيما لا تزال موجة التعاطف مستمرة مع ضحايا الاغتصاب في سجون رئيس النظام السوري بشار الأسد، بعد أسبوع من عرض الشريط الوثائقي “سورية الصخرة المخنوقة” للمخرجة الفرنسية مانون لوازو، على قناة “فرانس 2″، يستمر أيضا الجدل والنقاش على مواقع التواصل الاجتماعي حول الفيلم.
فسماع شهادات مباشرة لضحايا خرجن أحياء من سجون الأسد، لم يكن وقعه عادياً. أما السؤال الأكثر تكراراً على مواقع التواصل كان: “ماذا حلّ بهؤلاء السيدات بعد عرض الفيلم؟”.
بداية كتب رئيس المجلس الوطني الانتقالي السوري السابق، برهان غليون، منشوراً طويلاً على صفحته على “فيسبوك” جاء فيه أنه غداة عرض العمل الوثائقي ورده اتصال من إحدى العاملات في الفيلم، تطلب منه التحدّث إلى إحدى السيدات اللواتي ظهرن في الشريط وأدلين بشهادتهن، وذلك بسبب الهجوم العنيف الذي تعرّضن له بعد عرض الفيلم: “منذ الصباح الباكر أيقظني اليوم هاتف من منطقة الحدود السورية التركية تطلب فيه مني إحدى المساهمات في إنتاج فيلم سورية: الصرخة المخنوقة، أن أتحدث مع إحدى النساء اللواتي قدمن شهاداتهن في الفيلم عن عمليات الاغتصاب الوحشية والمنهجية التي تتعرض لها المعتقلات السوريات. قالت لي إنها تكاد تنهار نفسياً، وأود أن تتحدث معها وتخبرها كم كانت شهادتها ثمينة لخدمة القضية السورية وفضح نظام القتل والاغتصاب الجماعي الأسدي”.
“لم تتوقف السيدة عن البكاء خلال المكالمة، ليس لذكريات العذاب الذي تعرضت له في زمن الاعتقال، ولكن لما تتعرض له من شماتة وتشهير وحرب نفسية يشنها أفراد يدعي بعضهم الحرص على سمعة نساء سورية، ويلومونها على ما قامت به من حديث علني عن الاغتصاب، بينما يتهمها البعض الآخر بالتكسب من شهادتها في الفيلم ونيلها الملايين لقاء المشاركة فيه. هؤلاء ليسوا سوريين ولا يمكن أن يكونوا بأي حال ثوريين، بل بشرا أسوياء”، بحسب منشور غليون.
بعد هذا المنشور كتبت نوران دندشي (التي استبدلت صورة حسابها بصورة السيدة مريم خليف التي ظهرت في الشريط) على حسابها، أنها تلقت رسالة خاصة على فيسبوك من سيدة مجهولة تسألها لماذا تضع صورة مريم على حسابها… وبعد حديث سريع اكتشفت أن هذه السيدة هي مريم. وأخبرتها عن العذاب الذي قاسته بعد عرض الشريط: “الأهل والأقارب. أنكرونا وتخلوا عنا. وحتى بعض المعتقلات والنَّاس المحيطة بنا الآن. يقولون أنتم جلبتم العار ما كان عليكم أن تقدموا هذه المعلومات وأن تظهروا في الفيلم”.
وإلى جانب النقاش المحتدم حول الإجرام (المعروف) لنظام بشار الأسد، فإن نقاشاً آخر ولا يقل احتداماً تناول تعاطي المجتمع مع السيدة التي تتعرض للاغتصاب، وكيف تتحول الضحية إلى متهمة ومذنبة.
وكانت حملة جمع تبرعات قد أطلقتها مخرجة الفيلم، بعد عرض العمل للمساعدة في جمع الأموال اللازمة للمدرسة التي أنشأتها مريم في أحد مخيمات اللجوء في تركيا. وتحتضن المدرسة فتيات سوريات تزوّجن في سنّ مبكرة، ونجحن بعدها بالحصول على الطلاق.
(العربي الجديد)
هكذا ننتقم للمغتصبات السوريات/ عدنان عبدالرزاق
قلة قليلة، على ما أحسب، من الآدميين، استطاعت مشاهدة فيلم “سورية الصرخة المخنوقة” لنهايته، إذ فيه كل ما يتناقض مع الإنسانية ويؤكد أن ثمة مخلوقات، على الأرجح، لا تنتمي للبشر وسورية، قامت بتلك الأفعال، بدوافع حيوانية حيناً… وانتقامية تدميرية، بقية الأحايين.
ولكن، ترى هل أخفت رشا شربجي العام الفائت، خلال حديثها عن سجون ومعتقلات بشار الأسد، بعض الحقائق، التي تمس أنوثتها أو شرفها، أو ما حدث لمن حولها، فرأته أو سمعت عنه، أم ثمة مستويات للتعامل والوحشية بسجون بشار الأسد؟ فاللائي يمكن أن يخرجن ويدلين بشهادتهنّ لهنّ تعامل خاص من شأنه تسويق ديمقراطية الأسد، يختلف على حسب التهمة ومنطقة المعتقلة وحتى جمالها، وعن المخطط قتلهنّ تحت التعذيب، كما عشرات الآلاف غيرهم وغيرهن، لتموت أسرارهم/نّ معهم/نّ.
الإجابة، أتت بالصوت والصورة ورائحة الحقد أيضاً، عبر فيلم “سورية: الصرخة المخنوقة” الذي عرضته قناة فرنسية “فرانس 2” الأسبوع الفائت، ليس ليبرر الثورة كركن وسبب من دوافع السوريين، بل ليكون وحده سبباً لثورات وثورات، حتى إسقاط هذا النظام، حتى لو لم يبقَ في سورية سوى أم واحدة ثكلى وبضعة أيتام موزعين على خارطة العذاب السورية.
إذ ما شهدت به السيدات الضحايا يتعدى تحطيم الشخص الضحية، بل والمجتمع وحتى الثورة، ليصل إلى حقد وفعل لا إنساني ينم عن ثأرية بداخل الفاعل ومن حرضه وأرسله، فمدة الفيلم لم تكن ساعة وعشر دقائق… بل نصف قرن من أنواع الاغتصاب، إن بدأت من تحصيل لقمة العيش أمام الأفران لا تنتهي بالمعتقلات التي تتكشف تباعاً.
قصارى القول: أغلب الظن، لن تجدي الدعوات الكثيرة التي أطلقها سوريون ومثقفون عالميون، سواء التي قادها المفكر الفرنسي “فريدريك لونوار” أو التي دعا ويدعو إليها محترمون عبر العالم، ببساطة لأن من خرس عمّا قدمه “الشاهد الملك” في ملف تسريب أكثر من 50 ألف صورة لـ11 ألف جثة، قتل أصحابها بشكل ممنهج في سجون بشار الأسد، وتعامى عن قتل السوريين تحت الأنقاض وقصفهم بالبراميل، بل وقبل بصفقة سلاح الجريمة ومرر جريمة الكيميائي بالغوطة عام 2013 التي أودت بحياة نيف و1400 سوري، أكيد، لن تحرك ضميره – إن وجد – اعترافات حرائر سوريات، خرجن على “قانون العيب” وفضحن أقذر أفعال الوحوش من عصابة الأسد.
بيد أن اللاجدوى، وإن يمكن استنتاجها، يجب ألا تثني السوريين، بل والأحرار حول العالم، عن المتابعة والعمل، بمستويات وطرائق، إن بدأت من إيصال هذا الفيلم لزعيم المافيا “فلاديمير بوتين” الذي تاجر، لأشهر، بأكل “أبو صكار” لقلب جندي أسدي عام 2011، لا تنتهي المستويات، عند كل من يحاول تسويق نظام الأسد وإعادة تسويقه، بمن فيهم “المعارضون” الذين وقعوا في هاوية التنازلات، فأسقطوا شرط إسقاط الأسد، من جدول مفاوضاتهم مع وفد النظام المجرم.
وربما مربط الفرس والأهم، بطريقة الانتقام من هذا النظام، الذي تؤكد الأحداث والوقائع عدم انتمائه إلى الأرض والشعب السوريين، وإلا لامتلك أدنى درجات الشرف والغيرة، عليهم وعلى الوطن، فلم يمثل بالجثث ويغتصب الأمهات، ويبع الأرض لمحتلين أربعة، ترفرف أعلامهم فوق الأرض السورية اليوم، وربما تبقى ترفرف لعقود.
نهاية القول: عرف نظام الأسد، ومنذ مطلع الثورة السورية، أن ينقل الثوار، أو معظمهم على الأقل، إلى المواقع التي يريد تسويقهم وفقها وعبرها، فبعد أن أخرج معتقلي صيدنايا الذين احتفظ بهم وأهلّهم وفتح لهم المجال للتطرف وإعادة تنظيم “أسلمة الثورة”، اتبع سياسة التسليح وترك الضواحي والأرياف، ليستكمل جميع نقاط الوصفة التي قدمها حلفاؤه في طهران وموسكو.
من ثم، بدأ متعمداً، بنشر كل ما يثير الحنق والانتقامية، من “بشار ربك” وقتل جنوده والمليشيات المستوردة الموقوفين والمعتقلين، بأبشع الطرائق.
ما نقل، عبر المنهجية والتتالي، الانتقامية إلى الثورة، فرأينا بعض الأفعال التي جاءت كردود أفعال، “أبو صكار” أحدها، لتشوّه وجه الثورة ومنطلقها وأهدافها، بفعل الآلة الإعلامية الأسدية والمساندة، والأهم، الإرادة الدولية التي ترى وتأخذ ما يقوله ويبثه الأسد، وتتعامى عن أضعاف الأضعاف، التي تقع على السوريين، إن بمجتمع الثورة أو حتى المدنيين الذين ذاقوا جميع أنواع التجويع والإذلال، قبل قتلهم جماعياً، بالغارات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية.
لذا، يأتي السؤال اليوم، بعد مشاهدة وسماع المغتصبات، عن كيفية الرد، آخذين بالاعتبار أن الأسد قتل “غياث مطر” لأنه قفز على المخطط، عبر تقديم المياه والورود للجنود، فخيّب الآمال بالانجرار إلى حيث يراد له وسواه، وقتل “مشعل التمو” لأنه عرّى بالكلمة والفكرة أفعال النظام، منذ الوارث فالوريث، واعتقل “عبد العزيز الخيّر”، وترك كل من يخدم خططه، من “الثورجية” وعلى كلتا الضفتين، السياسية والعسكرية، وحينما يضطر لقتل الفكرة والصحوة، لا يتردد عبر “أبو فرات” و”حجي مارع” و”الشيخ البلعوس”.
ما يعني، خاصة بعد التهديم الممنهج لمستقبل سورية، الذي يأتي أهمه وأوجعه، بتجهيل الجيل الناشئ وإبعاده عن مقاعد التعليم، ليضرب الأسد سرب عصافير بذلك، إن بدأت من تكريس التخلف وتحريك التطرف متى شاء واقتضى الموقف، لا تنتهي عند خلق تفاوت شاسع، بين جيل حواضن الثورة والأجيال التي آثرت البقاء في مناطق حواضنه ومؤيديه.
الحل في خلق الوعي وتحريض الأطفال والأخذ بيدهم ليعودوا إلى صفوف المدراس، فمن يعرف هذا النظام الحاقد يعلم يقيناً أنه لا يخطط لقتل ثورة وتطلع للحرية فحسب، بل لقتل السوريين جميعهم، ولعل في القتل والتهجير واستهداف المدراس أمثلة لا تتطلب عناء الإثبات والدليل.. بمعنى مختصر جداً. أكثر السوريين حرصاً على الانتقام هو من يساهم في نقل طفل من الشارع وورشات العمل، يحمل بجيبه سكيناً وبفكره ثأرية، إلى مدرسة، ليستعيض عن السكين باللغة ويستبدل الثأرية بإعمار سورية.
وهذه لعمري الطريقة المثلى لقتل أحلام الأسد وإفشال تمويت الأمة السورية، وربما ما عداه، حالات انتقامية وردود أفعال آنية. على الرغم من أن ما سمعناه وشاهدناه من المغتصبات، يدفع كل دم الجسم للرأس ويبعث على الذل ويوجب الثأر… والترحّم على “لا بارك الله ببيت ليس فيه جاهلٌ”.
العربي الجديد
تبرير الجريمة/ فوّاز حداد
ليس اغتصاب نساء وفتيات سوريات بالخبر الجديد، فقد جرى توثيقه من قبلُ بشكل محدود. الأحدث منه قضايا التحرش الجنسي في الغرب التي طاولت فنانين وسياسيين. فقامت قيامة الإعلام في العالم، ولم تقعد حتى الآن. المؤسف، تجاهل “المجتمع الدولي” جرائم تتطلّب شن حملة عالمية لإيقافها والمعاقبة عليها، لإنقاذ سمعة الضمير العالمي.
قدّم النظام في حرب السنوات السبع، المثال الأكثر دموية على القتل، وأيضاً المثال الأبرز على وحشيته في جرائم الاغتصاب التي بدأها في حماة قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وجدّدها مع الثورة التي اندلعت، وعمّمها في سورية كلها، فالانتقام من الشعب يسمح بكل جريمة. فكان الاعتداء على النساء لا لسبب، إلا القيام بعمل إغاثي، والأغلب، أن تكون زوجة أو ابنة ناشط معارض.
قد يزعم البعض أننا نعيش في عالم ظالم، والسوريون مثلهم مثل غيرهم يأخذون نصيبهم من جريمة شائعة مذ وجدت البشرية على سطح الأرض. في الحرب العالمية الثانية، اغتصب الألمان والروس والأميركان ملايين النسوة من مختلف الأعمار، ابتداء من الفتيات الصغيرات اللواتي لا تزيد أعمارهن عن ثماني سنوات إلى عجائز في الثمانين.
ولم تشذ عنها حروب القارة الأفريقية والآسيوية وأميركا اللاتينية. بينما الأرقام السورية لا تزيد عن عدة آلاف من النسوة والأطفال والشبان؛ فطلب الحرية مكلف وليس بلا ثمن. إذا اعتقدنا، أن هذه التبريرات تسوّغها، فنحن مجرمون أسوة بمرتكبيها، ومن أمروا بها، أو سكتوا عنها، أو ادعوا أنها دفاعاً عن الوطن.
تختلف الحرب السورية عن الحروب الأخرى في أنها ليست حرب استقلال، ولا نزاع على أراض محتلة، ولا ضد الاستعمار. إنها حرب ضد الشعب الذي طالب بالحرية ودولة ديمقراطية مدنية يسودها القانون، وهو أمر لا يمكن التسامح معه في نظام مقاوم وممانع. لديه مهام قومية مستعجلة لا يجوز عرقلتها؛ تحرير الجولان، ويبدو أنه سيتأجل، بعدما أصبح تحرير القدس أولوية.
لا يقصد التهويل من الجريمة، فهي مهوّلة بحد ذاتها، لأسباب أحدها أن المجتمع السوري محافظ، وليس في هذا ما يميزه عن مجتمعات غير محافظة، عقوبة الاغتصاب في الغرب تصل إلى المؤبد والإعدام، ولا ينزاح عن الاغتصاب وصف الجريمة حتى في المجتمعات البدائية. لكن في مجتمعاتنا قد تُقتل الضحية ثانية وهي جريمة أخرى إضافية.
مهما أدنّا هذه الجريمة فسوف نشعر بالتقصير، ومهما حاولنا فلن نخفف ألماً، ولن نرفع إهانة، ولن نداوي جرحاً، أو نمسح دمعة. إذ لا شيء يعادل آلام امرأة اغتصبت، مأساتها تتعدى انتهاك الجسد إلى تدمير الروح، وإذلال الكرامة، والعبث بالشرف. ولسوف تبقى هذه الجريمة مسلطة علينا جميعاً، ولن نبرأ منها إلا بتحقيق العدالة، ولن نتحرّر إلا بتحرّرهن.
إن أشد ما يرتكبه هذا العالم من بشاعة، عندما يطلب من السوريين مفاوضة المجرم، بينما مكانه المحاكم الجنائية الدولية.
العربي الجديد
وحشية الاغتصاب المضاعفة/ نجوى بركات
“ثلاثة وحوش دخلوا عليّ… مع أول يدٍ لمستني، شعرتُ أن شيئاً انهار فيّ… لم يعد فكري لجسدي، وجسدي ما عاد لروحي، وروحي أصبحت في مكان آخر”… لقد “ارتكبوا بحقنا ما هو أقبح من القتل بكثير… أجل، الاغتصاب أقبح بكثير من القتل”.
هكذا تصف إحدى الناجيات من عمليات الاغتصاب الممنهجة التي مارسها النظام في حقّ المعتقلات السوريات، بعضَ ما تعرّضت له، هي وأخريات، في الفيلم الوثائقي “صرخة مكتومة” (إخراج مانون لوازو) الذي عرضته القناة الفرنسية الثانية، الأسبوع الفائت. شهاداتٌ قاسية جداً، تدلي بها مجموعة نساء من أعمارٍ مختلفة، تعرّضن لاغتصاباتٍ جماعية ومتكرّرة، كوسيلة إذلال وتركيع، كانت تنتهي غالباً باختفائهن أو بقتلهن. وهنّ، وإن رفضن إظهار وجوههن، أو على العكس من ذلك، ظهرن بأسمائهن الحقيقية، يروين، بدقةٍ تفوق الاحتمال، ما جرى معهن، حتى ليخيّل للمشاهد أنهن ينفصلن عن حيواتهن أحياناً، وكأنّ ما جرى، ويصعب احتماله أو استيعابه، إنما قد جرى لسواهن.
تروي فوزية الخمسينية، والدة البنات الثماني والصبي الوحيد، والناجية من مجزرة الحولة، كيف اقتحم الشبّيحة منزلها، فقتلوا زوجها واغتصبوها، واغتصبوا بناتها أمامها قبل أن يذبحوهن بسكاكين بنادقهم. ثم تظهر ابنتها رشا وقد نجت من الموت، لترينا على شاشة هاتفها الذكي فيديو يُظهر جثثاً ممدّدة على الأرض لنساء وأطفال تعرّفنا إليهم واحداً واحداً بأسمائهم ودرجة القرابة بينها وبينهم، وصولاً إلى جثة رجلٍ تقول عنها بشبه حياد: “وهذا أبي”.
أما مريم، ابنة حماة، الموظفة والأم، فتروي عن مشاركتها في المظاهرات، وعن موت أبيها خوفاً، على الرغم من رضاه عن سلوكها، وكيف تعلّمت الإسعافات الأولية لمعالجة الجرحى، فراح النظام يبحث عنها إلى أن تعقبها في أثناء زيارة لعائلتها بعد غياب دام أربعة أشهر. في السجن، ذاقت مريم الأمرّين، “ضرب في الصباح واغتصاب في المساء”، تقول، كل ذلك على لحن “نحن رجالك بشار”، فيما كان مغتصبون مدعوون من الخارج (العميد جهاد وسواه) يتناوبون على المعتقلات داخل غرفة خلفية معدّة خصيصاً، في مكتب المقدّم المسؤول.
وعمليات الاغتصاب التي كانت في بداية الثورة تجري داخل مراكز الأمن، وفي السجون، خرجت لاحقاً إلى العلن، إذ صارت تُرتكب على الحواجز، وفي المنازل، وحتى في الشوارع، بل إنها صارت تصوّر خصيصاً في مقاطع فيديو يتمّ إرسالها إلى المقاتلين وسيلة ضغط عليهم لتسليم أنفسهم، حيث يرى المقاتل نساء عائلته، أمّاً وزوجةً وأختاً وابنة، يتعرّضن للتعذيب والاغتصاب والقتل.
أعداد كبيرة من النساء اختفت وتختفي كل يوم. كثر من المعتقلات المتهمات بأنهن “إرهابيات” لا تُكتب لهن النجاة، فهن إما يمتن تحت التعذيب، أو جرّاء الاغتصابات الوحشية المتكرّرة، أو يقتلن وتُخفى آثارهن، فيما تنتحر أخرياتٌ مباشرة بعد اغتصابهن للمرة الأولى، وهو ما شهدت به إحدى الناجيات، إذ قالت إن خمساً انتحرن خلال شهرين فقط.
وقد تكون السيدة التي ترفض إظهار وجهها، والتي يُفتتح الفيلم بشهادتها، هي الأكثر تأثيراً في المشاهد، كونها ربما الأكثر مقدرةً على التعبير عن روحها المنكسرة الملوّثة. تقول إنهم اصطحبوها في ممرٍّ معتم طويل، كانت تصل إليها من جنباته أصوات المعذّبين وصرخاتهم، فتذكرت السيد المسيح، وقالت إنه لا بدّ قد تعذّب كهؤلاء. ثم أدخلوها غرفةً كانت فيها صديقتها عُلوة وفوقها ثلاثة رجال، علوة الصبية التي لن يقيّض لها بعد الآن أن تكون عروساً بفستان أبيض. وصورة علوة التي تئن وتتألم كحيوان جريح، لن تفارق ذهنها، حتى بعد أن أصابها ما أصاب علوة، إلى أن أنقذها نزيفٌ حادٌّ كاد يودي بحياتها، بعد أن تناوب عليها خمسة رجال، فنقلت إلى المستشفى في حال خطرة، وقرّر الطبيب أن ينقذها من خلال الإبلاغ عن موتها، والسماح لها بالفرار.
لكن، تبقى اللحظة الأقوى في الفيلم، والتي تستحق ربما فيلماً آخر، هي حين تتحدّث المغتصبات عن عذابهن الأقوى، ذاك الذي يُنزله بهن محيطهن العائلي والبعيد إثر نجاتهن. “النظام يغتصب، والمجتمع يعاقب”، تقول صديقة علوة، حين تكتشف أن الأخيرة قضت قتلاً على يد والدها، لأن المغتصبة تشكّل عاراً على أهلها، قبل أن تردف باكية: “نحن لسنا عاراً، نحن الشرف”.
العربي الجديد
ثلاثة وحوش/ حسام عيتاني
«دخلت إلى الغرفة فرأيت ثلاثة وحوش. اثنان يمسكان بذراعي علوى والثالث يمسك برجليها. كان يرتدي الشيّال (القميص الداخلي)، وكان يغتصبها». كان هذا المشهد الأول من رحلة اكتشاف معنى رئاسة «الشاب ذي العينين الزرقاوين» في الوثائقي «سورية الصرخة المخنوقة» الذي عرضته قناة «فرانس2» أول من أمس.
بعد التقارير الدولية عن القصف الكيماوي الذي تعرضت له الغوطة عام 2013، وعن «المسلخ» العامل ليل نهار في سجن صيدنايا («منظمة العفو الدولية»- شباط/ فبراير 2017)، وبعد صور «قيصر» لضحايا القتل المنهجي الذين نُقلوا إلى المستشفى العسكري قرب دمشق. وبعد آلاف الشهادات من معتقلين سابقين عن التعذيب الذي يفوق الوصف، يأتي «سورية الصرخة المخنوقة» ليقول إن الاغتصابات الجماعية لم تكن لانتزاع اعترافات أو معلومات، بل كانت «لتحطيم العائلات وتحطيم المجتمع، وفي نهاية المطاف لتحطيم الثورة»، على ما قالت مخرجة الفيلم مانون لوازو.
لكن مهلاً. يعرف السوريون وحشية نظامهم منذ اختبروه في ثمانينات القرن الماضي. ويعرفها بقدر لا بأس به، اللبنانيون والفلسطينيون الذين ذاقوا بطشه وتعرفوا إلى زنزاناته من المّزة إلى تدمر وإلى راجمات صواريخه ومدافعه. ويعرف العالم كل شيء بالتفصيل الممل عن زبانية المعتقلات السورية، بل إن «العالم الحر» لم يتردد في إرسال بعض السجناء لديه إلى الأجهزة السورية لتتعامل معهم حتى لا يلطخ أدعياء الحضارة أيديهم بدماء مشتبه فيهم بالإرهاب.
على رغم ذلك، لا يُحرّك أحد ساكناً. لم تعنِ جثث أطفال عبرين والحولة ودرعا شيئاً. ومريم خليف الضحية الجريئة، على حق عندما تقول إن مشاهدي هذا الوثائقي لن يفعلوا شيئاً للنساء اللواتي ما زلن في المعتقلات حتى اليوم، «سيشاهدون وسيشعرون ببعض الأسف ثم ينصرفون».
ولعل هذا جوهر المسألة: ماذا تعني المأساة السورية، عندما يتم إنزالها من المجردات والمفاهيم المطلقة بالنسبة إلى العالم الذي ينتفض لتحرش منتج سينمائي أميركي بالممثلات أو مرشح إلى منصب في الكونغرس أو مذيع تلفزيوني بزميلاته؟ ليس المقصود التقليل من فداحة التحرش واستغلال المكانة الذي يرافقه من أجل فرض الرغبات والغرائز على الأخريات والآخرين. بل على العكس: ها هي جرائم موثقة، آلاف الجرائم، التي لا تهم العالم ذاته المنتفض على التحرش ولا تدفعه إلى أكثر من إنتاج وثائقي قد يُنسى كأنه لم يكن.
لا جديد في كلام لوازو عن تحطيم العائلات والمجتمع. وما قالته الضحايا عن قتل أهاليهن لرفيقاتهن بعد خروجهن من معتقلات الأسد، عن المصيبة المزدوجة التي يواجهنها، الاغتصاب في الداخل والعائلات «المحافظة» في الخارج، يشكل مرآة لمجتمعاتنا المنكوبة بذاتها وبالآخرين، بأنظمتها وبقيمها، بحكوماتها البربرية وبالعالم الذي يتلذذ بتوزيع امتيازات الحضارة وحقوق الإنسان على أصناف من البشر، ويحرم أصنافاً أخرى منها.
السؤال الآخر، ما سر تأييد العالم هذا النظام؟ حربه على «داعش» وإرهابها؟ تصدّيه للإمبريالية؟ قتاله إسرائيل؟ بمَ سيجيب حلفاء الأسد، الذين يعرفون قبل غيرهم اتساع حقول القتل التي زرعها بجثث السوريين، إذا واجهوا جبال الوثائق والشهادات عن صديقهم وحليفهم؟ هم طبعاً ليسوا أفضل منه، وسجلاتهم تشهد لهم على استسهال اللجوء إلى القتل والعنف متى وجدوا ضرورة أو فرصة. الأرجح أنهم سيبرّرون له قتله «الإرهابيين والإرهابيات»، مثل الذين ظهروا في الوثائقي بدواع أكبر من أن تدركها عقولنا الصغيرة: يعمل هذا المحور على تحرير القدس وإسقاط المشروع الصهيوني… لكن ما هي صفات البشر الذين سيبقي بشار الأسد وحلفاؤه عليهم ليروا ثمرات تحرير القدس؟ ماذا يعني أي شيء لمن تعرضت لاغتصاب متكرّر في سجون الأسد؟ وها نحن أمام ثلاثة وحوش جديدة، الأسد وإسرائيل و»داعش»، يتعين أن نختار بينها.
نعم. سيزهر الورد على قبر علوى التي قتلها أهلها بعد خروجها من المعتقل، كما قالت رفيقتها. وستكبر أشجار الفل لتفوح رائحته على العالم بأسره.
الحياة
ليس مجرّد فيلم عن سورية/ ميسون شقير
يعرف صانع الأفلام، جون غريسون، الفيلم الوثائقي بأنه “العلاج الإبداعي للواقع”، أو أنه “إمكانية السينما من مراقبة الحياة وتصويرها، بحيث يمكن استغلالها في شكل جديد للفن”. وقد يكتشف العالم له تعاريف جديدة، وأكثر رعبا، حين يسقط الطغاة المنتصرون، وحين يسمح للضوء، وللكاميرا، بالدخول الى ما تحت الأرض، هناك حيث الموت لم يزل يربي صغاره جيدا، وحيث الحياة/ الأم/ تغتصب أمام قلوب أبنائها، وتضرب مدار الساعة، مدار القهر، وحيث تموت الحياة تحت التعذيب.
“الصرخة المكتومة” فيلم وثائقي فرنسي عرضته القناة الفرنسية، قبل أيام، وصعق الرأي العام الفرنسي كما كتبت الصحافة. وذكرت “لوموند” أن الشعب الفرنسي لم يكن يعرف شيئا عن مدى فظاعة ما يحدث في سجون النظام في سورية، وأن الفيلم جعلهم يسمعون صوتا لم يتخيلوا أنهم قد يسمعونه يوما، بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، وانتهت معها سجون النازية ومعسكرات الاعتقال والمحارق البشرية. ولكن كيف يكون الفيلم صاعقا إلى هذه الدرجة؟ وكأن العالم لم ير الصور التي نشرها “القيصر” لأحد عشر ألف معتقل ماتوا تحت التعذيب، ولم يسمع قصص اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا، ولم ير آثار التعذيب على أجسادهم وقلوبهم.
كيف تصف الصحافة الفيلم صادماً؟ وكأن العالم الذي لم ير نظاما يقصف مدناً بالبراميل، ولم يشاهد أقدم مدن العالم وقد صارت مدناً للخراب والموت، ولم يعرف نظاماً يقتل في سجن صيدنايا وحده خمسة عشر ألف معتقل، ويخفي قسريا ما يزيد عن ستين ألف اسم. كيف لا يعرف العالم ما يحصل في سورية، مع أن منظمة العفو الدولية، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، تقدّم للعالم كله تقاريرها المرعبة عما يحصل في سورية سنويا؟
“”الصرخة المكتومة” فيلم وثائقي فرنسي عرضته القناة الفرنسية، قبل أيام، وصعق الرأي العام الفرنسي كما كتبت الصحافة”
هل كان الرأي العام الفرنسي، والعالمي، بحاجة إلى هذه “الصرخة المكبوتة” كي يسمع صوت قطرات المطر على زجاج واجهة السيارة في بداية الفيلم، والأضواء البعيدة القادمة، طريقة التصوير الذكية، الموسيقى التصويرية المؤثرة؟ كل هذه تقنيات تنم عن مهنيةٍ وحسّ عاليين، مثلما تنم عن قدرة إخراجية حقيقية، لكن البطل الذي جعل الفيلم ينجح، وجعله يدخل البيوت والقلوب من دون جواز سفر، هو الصوت الصادق الطالع من الكبد، والذي بدأ منذ أكثر من ست سنوات في الساحات، قويا، أخضر، واثقا، مفاجئا، شغوفا، والذي خانته السماء، وخانه العالم، وخانته الحناجر، لينتهي في الفيلم صوتا ذليلا، مخذولا، كصراخ امرأةٍ ثائرةٍ تغتصب.
هذا البطل الذي أخذ دور البطولة اليوم للمرة الأولى، في فيلم وثائقي عن الصوت، قد يكرّمه العالم ويعطيه جوائز، ليصبح الوجع السوري من جديد صياد الجوائز الماهر. وقد تكرّم المخرجة المشكورة على حقيقية سعيها وتحدّيها، وتكرم الصحفية التي سعت إلى إنجاز المقابلات، ويكرّم منسق الموسيقى التصويرية، والمصور. ولكن من يكرّم مريم؟ من يعيد إليها نفسها التي سقطت منها؟ ومن يعيد لتلك الأم الباقية المقتولة/ الناجية من مجزرة الحولة، ملامحها وأبناءها الذين دفنتهم في التراب؟ والأهم من هذا كله، هل سيستطيع هذا البطل أن يكون بطلا، ويخرج امرأة، أو شابا، أو طفلا واحدا، من الثلاث مائة ألف معتقل ومعتقلة الذين لم يزالوا هناك، والذين، في كل لحظة، بكل ما بقي فيهم من صوت، يصرخون؟
استطاع “الصرخة المكتومة” الصراخ الحقيقي عالياً، حتى حدود السماء التي آن لها أن تكسر صوت “مريم” ممرضة الإغاثة الجميلة، ذات العيون الواسعة والقلب المثقوب، مريم التي رمتها الثورة في قلب مشفى ميداني، كي تنقذ ما تبقى من الأرواح، وكان عليها أن تدفع روحها عقابا لما اقترفته من جرم إنقاذ الحياة. كان صوتا قادما من أعماق بئر سقط دلوه فيه، وانقطع الحبل، ولم يبق منه غير صدى السقوط، صوتها وهي تعيد تفاصيل ليلتها الأولى في المعتقل، بكل ما يحمله من رجفات الحقيقة، ومن تهدّج قسوتها، بكل ما فيه من أنوثة مكسورة، ومن كبرياء طافح بالوجع، استطاع صوتها هذا اختراق كل القلوب التي سمعتها، واستطاع ثقبها، وصفها نفسها، ولصديقتها، وهي عارية تغتصب اغتصابا جماعيا حيوانيا. أما عيون الأم القادمة من الحولة، والتي قتل أولادها أمام عينيها وقلبها، الأم التي تصفع بعيونها، وهي تبكي، كل جباه البشرية، والتي غنت في نهاية الفيلم أغنية مسننة الحوافّ، جرحت أصابع العدالة، وفقأت عين التاريخ الباقية.
هل سيستطيع أحد، أي أحد، أن يواجه هذه العيون، وأن يخيّب ظن مريم التي قالت إنها تعرف أن الفيلم لن يغير شيئا، وأن الجميع سوف يشاهدون، ثم يحزنون، ساعة أو أكثر قليلا، ثم ينسون كل شيء. ويتركون الإنسانية وحدها هناك، تغتصب اغتصابا جماعيا، كل ليلة.
العربي الجديد
الصرخة المخنوقة والنوتة13/ أحمد عمر
“كاف هاء ياء عين صاد”.
تكشف عشرات الشهادات المصوّرة، بعين اليقين، وأذن اليقين، وعلم اليقين، وحق اليقين، ويقين اليقين، أمراً كان مستوراً في سورية الأسد، وهي أن وحوش قلعة “آلموت”، كانت مقيّدة، وقد أطلقتها الثورة، فأفلتت من عقالها، تقتل وتسرق وتغتصب. وتلخص الشهادات عبارةً سمعناها مرات في أفلام مصورة: “حرية.. هاي هي الحرية اللي بدكن ياها “، وشرحها حسب الزوزني والعكبري: أننا إذا كنا نهوى الحرية، فهم أيضاً يهوون حرية الاستعباد.
شهادات فيلم “سورية الصرخة المخنوقة” الذي عرضته قناة “فرانس2” قبل يومين، شديدة القسوة، والشهادات كثيرة في الشبكة، حتى أن كثرتها أضعفتها، وجعلتها بلا أثر. النظام العالمي الجديد، عوّم وثيقة الشهادة السورية. كان النظام يعارض التطبيع مع إسرائيل، ووكل به اتحاد الكتاب، ونجح في تطبيع العالم كله؛ الشرقي والغربي، والشمالي والجنوبي، الاشتراكي والرأسمالي، المؤمن والكافر واللاأدري، مع الدم والاغتصاب والقتل.
وقد يكون الاغتصاب “لتحطيم العائلات وتحطيم المجتمع، وفي نهاية المطاف لتحطيم الثورة”، كما ما قالت مخرجة الفيلم مانون لوازو، لكني أظن أنها غريزة أساسية في أنسال جماعة آلموت، وأحاول تلمس آثارها في أحاديث مع جميع من حاورتهم من سلالة آلموت، عندما “كنا عايشين” في سورية.
والنظام مثل مخرج ماهر، استطاع إخراج فيلم كبير، اسمه سورية الأسد، الآمنة المستقرة. كان قد صنع فيلماً طويلاً مدته نصف قرن، له بطل وحيد، وأبطال مساعدون مثل المفتي، ونجوم التلفزيون، ومجلس الشعب في تابوت البرلمان. أما الكومبارس، فهم الشعب، وكانت رسالة قلعة آلموت المبعوثة من جديد في قناع حزب البعث، هي أن سورية، بفقرها الحاضر، وتاريخها العريق، وطابور الخبز اليومي، وعشوائيات المدن، وفروع مخابرات، “طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِين”، مدينةٌ فاضلة مزينّة بالأكياس الطائرة، خلقها الأسد من نواة العدم، في ثورة الثامن من آذار المجيدة، وبلغت الفطام في الحركة التصحيحية المباركة.
كنت أشاهد الفيلم، ونَفَسي يضيق، حتى أني كنت أسمع صوت شهيقي يصفر في زقاق التنفس، ويتعثر في طريقه بالحفر، والحجارة، والزفير، وأشخب في دم جاف، كأنني مذبوح بسكين قديمة مكلومة.
سألت بعض الأصدقاء عن الفيلم، أطلب منهم العون النفسي، والمدد والسلوى والعزاء، فكشف لي أحدهم، بأنه شاهده بالتقسيط، مع أنه أدمن مشاهد القتل اليومية، وأخبرني صديق ثان، أنه شاهده، وأحاطه بالقهر. وسألت أحد معارفي الموالين الذين يتحرشون بي عبر وسائل التواصل للنكاية، عن الفيلم، فلم يهربوا، السوري ليست له موهبة المصري في الطرفة، فاعترف بذنبه، فسحقاً لأصحاب السعير، وكان الموالون قد اعترفوا بأنّ بوتين أهان رئيسهم، ولو كان الأمر في مصر لجعلوا الإهانة تكريماً، أو خطأً مطبعياً. قال لي الصديق الموالي: إنها حرب قذرة. وكان هذا اعترافاً، لكنه ساوى بين الطرفين في الذنب، فسحقاً لأصحاب السعير.
أمٌ تُغتصب أمام زوجها، أو أمام بناتها، وبنات يذبحن، وجنود زبانية على الحواجز منذ سنوات، جوعى للخبز والنساء والكرامة، يتناولون عقاقير تجعلهم أيقاظاً، وهم في غنى عن العقاقير، فالمذبحة تزكّي النفس الأمارة بالسوء، وتفتح الشهية. هذا حقد متخمر منذ عشرات السنين، عطره يسكر النفس الحقودة. الحروب الصليبية جرى فيها ما يجرى الآن، وكانت تهمتنا وقتها تدنيس قبر ابن الله الوحيد، وليس في عقيدة المسلمين السنّة ابن لله، فعيسى رسول، وأمه صدّيقة، وكانا يأكلان الطعام. وعيسى واحد من الخمسة أولي العزم من الرسل، ولم يمت المسيح عليه الصلاة والسلام في عقيدة المسلمين، فهو معجزةٌ ولادةً، ومعجزةٌ موتاً، وموته مؤجل، وتهمتنا الجديدة، هي الاعتراض على ولاية الإله الوحيد، الذي ولد في القرداحة، وابنه المعفو من الذنوب بالفيتو أو بغيره، بل هو المخلص الغافر.
في رواية “العطر.. قصة قاتل”، لباتريك زوسكيند، جثا أنطوان ريشي، عين أعيان مدينة العطور كراس الفرنسية، على قدميه أمام جان باتيست غروني، على منصة الإعدام. ابن الزنا المظلوم، الأعرج، القبيح، الذي ولد كتيم الجسم من الروائح مثل عظاءة الاغوانة البحرية. القراد الصبور، الذي لم يعش حياة طبيعية، وكان قد جاء ليشتفي منه إعداماً، فتوسل منه الاعتذار، بعدما شمّ رائحة عطر الخلود، الذي اخترعه غرنوي، وطلب منه المغفرة بعبارات تفيض بالحب والحنان، والاستغفار والرحمة.
كان النظام قد اخترع عطراً، صلباً، كسب به قلب النظام العالمي. بالديني، صانع العطور الباريسية، شرح لعبده جان غرنوي طريقة صناعة العطور، وعرض له نظرية الاثنتي عشرة نوتة، والنوتة الثالثة عشرة، التي يستحيل الحصول عليها، لأنها تحوي رائحة الأبدية التي لا تزول، والتي يعني الحصول عليها القدرة على الاحتفاظ برائحة الجمال إلى الأبد.
استطاع الأسد كسب حب روسيا وإيران، والحشد الشعبي، وطوائف في تركيا تهيم به وجداً، فاستسلم لها أردوغان، كما استسلم صلاح الدين لجماعة آلموت، فتركهم يئساً. وسكت عنه الغرب أيضاً، وهو يبكي ويضحك، فصورة انتزاع رضيع من الحاضنة في مشفى كويتي، وكان فيلماً مختلقاً، في غزو العراق للكويت، كانت كافية لإشعال وسائل الإعلام الغربية بالغضب، غيرةً على الكويت وزيتها من وراء، لكن العاشق الغربي، سكت سكوت الرضى، وترك القاتل يقتل بالبراميل والسكاكين، ولا يزال القتل والاغتصاب مستمراً.
أمس، صرح ترامب بأنه لا يمانع أن يحكم الأسد حتى سنة 2021، ووفد النظام يغيب عن الجلسات في جنيف، ويتدلل، فيشكو دي مستورا، شكوى العاجز، لولي أمره في روسيا، دلال هذا الوفد المشاغب، وهذا إرهاص بأن مسلسل باب الحارة، الذي يمثل فيه بشار الجعفري دور أبي عصام في جنيف، سيطول.
كان النظام مثل جان باتيست غروني قادراً على شمّ رائحة المعارضة. انتحر جان غروني، وكان يقتل، ولا يغتصب، قتل 25 صبية من أجمل الصبايا، حتى يتذكر رائحة أمه، التي قُتلت وهي جائعة، في الوحل. وأمس انتحر القائد الكرواتي البوسني سلوبودان براليك، وانتحر هتلر، لكني لم أسمع بقائد، أو علَمٍ آلَموتيّ واحد اعترف بذنبه، أو انتحر، أو تبرأ من النظام، وكنت آمل أن نشكل وفوداً أهلية، أو فردية، إلى بيوت الضحايا الطاهرات، للاعتذار منهن، وعنوانهن مجهول، وأن نجثو جميعاً على ركبنا المكسورة، أو لواحدة على الأقل، فنعتذر منها، ونقول سامحينا يا أمي، يا أختي، “يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا”، نحن أبناؤك وأخوتك الكفرة الفجرة، اغفري لنا لأننا نقتلك مرتين. وأخشى أن نقوم بالعكس، فنعتذر من القاتل، الذي اكتشف عطر الأبدية والنوتة الثالثة عشرة.
” ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا”.
المدن،
مريم… «تاج راسنا»/ براء موسى
قبل أن تدلف إلى هذه المقالة الغاضبة، عزيزي القارئ، لتشبع فضولك حول هذا العنوان الذي أتفاءل بأنّه سيشدّك للتساؤل عن هذه المريم، فلتسمح لي بالقول: مريم… هي من يجب أن تعرفها. فإذا قلت لي أنّ قلبك لم يعد يحتمل فسأربّت كتفك قليلاً، ثم أُردف: «إذا أردت أن تعرف المسألة السوريّة موجزة بساعة وربع فقط، فعليك تخصيص هذه المدّة من الوقت لترى هذا الفيلم: «الصرخة المكتومة»، أو ما يعادله من أضعف الإيمان.
الفيلم من إنتاجٍ وإخراج فرنسي عرضته القناة الفرنسية الثانية أخيراً، تتحدث فيه مريم وزميلاتها عن الاغتصاب في المعتقلات الأسدية، وهو متاح عبر الإنترنت بسهولة، وأرجوك: لا تكتفِ فقط بالاطلاع على ما سأخطّه هنا، فأنا لن أكتب عرضاً عن الفيلم، بل سأتناول باختصارٍ ظاهرة الإحجام عن متابعة الأخبار التي «توجع القلب» و «تؤذي العين» كما تتبجّح بروتوكولات الإعلام الغربي بالابتعاد من الصور التي تخلّف في النفس رضوضاً. بالطبع، ليس هذا هجوماً قاطعاً على هشاشة قلوب الناس الذين لا يريدون متابعة الحقيقة كما هي، فقطعاً لديهم من المبررات المتنوعة ما يكفي، لكنّهم في الوقت ذاته يغطّون الحقيقة بحجاب يشي نسبيّاً بالتنصّل من المسؤوليّة، أخلاقيّاً في الأقل.
الفيلم لا يعرض سوى بعض النماذج من النسوة اللواتي تعرضن للاغتصاب مراراً وتكراراً في سجون النظام الأسدي، وذلك لسبب علينا أن نشير إليه هنا، وهو يختزل في شكلٍ من الأشكال الثقافة السائدة في شرقنا، ثقافة تجريم الضحيّة، والتكتيم المتعمّد على آلامها، وربّما يشير هذا التنويه إلى عدم تداول هذا النوع من الجرائم على نطاقٍ أوسع على رغم وقوع تلك الجرائم البشعة، وبحجمٍ لا نعرفه لاستحالة الإحصاء، منذ بدايات الثورة السورية قبل ما يقترب من سبع سنوات.
في اختتام هذه الغضبة القصيرة يا صديقي القارئ – وأستميحك عذراً – عليك أن تعرف نفسك جيداً كما ينبغي، وأين تقف بالضبط. فبالنسبة إلي، أنا كاتب هذه السطور، أجد أنّ لا معنى للثورة السورية برمّتها إن لم تكن مريم وزميلاتها، كلّ زميلاتها، تاج راسنا.
* كاتب سوري
الحياة
صرخة سورية المخنوقة/ ماهر مسعود
يصرخ فيلم (الصرخة المخنوقة) في وجوهنا، يعنفنا بالمشهد الداكن والصورة الناطقة، بهزائم لا تُرَد ولا تبلغ القاع فتتوقف، نتلوى مع شهقة بكاء النساء العظيمات اللواتي قدّمن شهاداتهن حول اغتصابهن من جنود مجرم العصر، ثم اغتصابهن الثاني -المعنوي والروحي- على أيدي مجتمعاتهن ومجتمعاتنا المغتَصَبَة، ثم اغترابهن المضاعف، وغربتهن المحضة، في بلاد اللجوء الغريبة.
حجم الأذى الذي تعرضت له المعتقلات، كلُّيته وشموله أكبر من أن يُصدَّق، أو يُصدِّق أن عالمًا يرى ويسمع ويتابع ويعرف، يمكنه أن يفعل شيئًا لجبر الضرر أو الضغط، لإخراج من بقي معلقًا بين الحياة والموت في سجون الأسد. هذا ما قالته وتنبأت به مريم خليف، وهي المرأة التي وصلت إلى ذلك النوع من اليأس المُحَرِر، يأس تفقد معه كل المعاني الممكنة للحياة ومخاوفها، فتطلق صرختك في وجه العالم.. أنا هنا حاملة القيمة والمعنى والألم والوحدة والرفض، وأنتم شهداء زور على قيمكم وأحكامكم وأخلاقكم المحنطة.
الفيلم التسجيلي الذي عرضته القناة الفرنسية الثانية، حول المُغتصبات والمعتقلات في سجون الأسد، وأجرت فيه مقابلات مع عدة ناجيات، يقلب المعايير من دون إرادة صانعيه ربما، فالمحجبة تخرج سافرة الوجه معلنة اغتصابها في وجهنا المحنَّط أمام الشاشة، والسافرة تخرج دون يظهر لها وجه، يحجبها ظلام الخوف من الظهور، وحطام يخرج مع حشرجات صوتها المخنوق. أما نحن -المشاهدين- فنحتجب خلف الشاشات، إما لنتابع حياتنا المثقلة بالنكران، نكران أن ما رأيناه قد حصل، حصل كثيرًا، وما زال يحصل في سجون الأسد، أو لنلعن العالم ونتصالح مع العجز، دون أي قدرة للتصالح مع القهر.
لم يتخلص السوريون من نظام الأسد بعدُ، ولذلك لم تتفتح جروحهم على ما مضى كما يجب، لم يبكوا على من/ ما فقدوه، مثلما يفعل البشر الطبيعيون، فالبكاء والحزن يطهران النفس فقط، إذا وقع الفقد وانتهى أمره، لكن عندما يتحول الفقدان إلى طريق لا نهاية له، ولا أمل في نهايته؛ يصبح الرعب من الآتي مقدّمًا على التفكير الهادئ في معالجة ما مضى والتخلص منه. لم يأخذ السوريون يومًا واحدًا للاستراحة من الكابوس المستمر، منذ سبع سنوات، فهذا الاستمرار والتجدد اليومي للمآسي يجعل حزنهم على الكثير الذي فقدوه بلا معنى اليوم، وآلامهم تذروها رياح الحل “السياسي” الطويل، ذلك الحل الذي يُعدّه بوتين من السماء، وتنفذه إيران على الأرض، وترعاه أميركا و”إسرائيل” من الخلف، ويمضي به دي ميستورا كأطرش في زفة المجرمين. استمرار النظام الذي يعدّه الجميع بادئة الحلول وأوفرها عليهم، ليس سوى استمرار ليأس السوريين وكوابيسهم المتجددة، من دون أمل في التصالح الحقيقي مع ما مضى عليهم، للبدء من جديد.
كان الاغتصاب، ومنذ بداية الثورة، ضلعًا أساسية ضمن استراتيجية ممنهجة ثلاثية الأضلاع، اتبعها نظام الأسد ضد الثورة، وضد الحاضنة الأكبر للثورة بشكل أساسي “المجتمع السنّي”. قامت تلك الاستراتيجية على ضرب أعراض الناس “اغتصاب النساء واعتقالهم وإذلالهم واستخدامهم كرهائن”، ومقدساتهم “قصف الجوامع وتدنيسها واقتحامها”، وأطفالهم “اعتقال الأطفال وقتلهم تحت التعذيب أو ارتكاب المجازر بحقهم”.
قدّمت تلك الاستراتيجية خدمة مزدوجة للنظام، وتركت أثرًا هائلًا، لم تستطع الثورة الخروج منه أبدًا، تبعًا لكونها أثارت أعلى مستويات الغضب وأعمق مستويات الخوف، لدى الناس، في الوقت ذاته. غضب انتهاك المحرّمات والمقدسات العنيف أدى المطلوب منه، من حيث زيادة العنف بتسارع كبير، استقطاب التطرف من جميع البلاد المسلمة، إضافة إلى ظهور وارتفاع صوت التعصب والتطرف والتسلح ضمن المجتمعات المحلية، والأهم هو إقصاء النساء عن الحراك السلمي للثورة، فعلى الرغم من أهمية العوامل الأخرى، فإن إقصاء وتحجيم دور النساء الهائل في الثورة كان من أعظم انتصارات الأسد، في السنوات الأولى للثورة، ومثلما يمكن قياس تطور المجتمعات، من خلال دور المرأة فيها، حضورها وحقوقها ومشاركتها، كذلك يمكن قياس سلمية الثورات، ونجاحها في تحقيق أهدافها، من خلال دور المرأة وحضورها وفاعليتها، فالمرأة لا تؤنسن الرجل فحسب، مثلما يقال في الأدبيات الثقافية والفلسفية، بل تمنح القيمة والمعنى لتوجه المجتمعات والشعوب والحضارات.
فيلم (الصرخة المخنوقة) لا يمثل الصوت المخنوق للسيدات الكريمات اللواتي ظهرن في الفيلم بروح برومثيوسية لا تتوقف عن الاحتراق بالنار لتصنع الضوء والأمل فحسب، ولا الصوت الغائب لآلاف النساء القابعات في ظلام المعتقلات الأسدية فقط، ولا للمغيبات قسريًا عند تنظيم (داعش) أو حركات الجهاد الإسلامي، وعلى رأسهن سميرة الخليل ورزان زيتونة، وأخريات كُثر لم يسمع بهن أحد، بل يمثل أيضًا الصوت المخنوق للثورة السورية، ولسورية التي يغتصبها النظام والروس والإيرانيون علانية و”شرعًا”، ولا تفعل الدول الأخرى والمجتمع الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة، سوى المشاهدة والمشاركة في حفلة الاغتصاب الجماعي القذرة والوضيعة، في أعظم شهادة زور يرتكبها العالم ضد نفسه، وضد قيمه، وضد سورية وشعبها العظيم.
الفيس بوك
“سورية الصرخة المخنوقة”: شهادات الاغتصاب المرعبة داخل سجون الأسد/ ليال حداد
ساعة وعشر دقائق، تبدو كأنها لا تنتهي. 70 دقيقة من الشهادات المتتالية عن اغتصاب المعتقلات في سجون نظام بشار الأسد، يقدّمها وثائقي “سورية الصرخة المخنوقة Syrie le cri étouffé” للمخرجة الفرنسية مانون لوازو، والذي عرضته قناة “فرانس 2” الفرنسية.
لا يحتوي الوثائقي على أي عنصر من عناصر الإثارة: لا موسيقى حزينة، ولا مشاهد طبيعية، ولا مؤثرات صوتية. لا يحتوي على تعليق من المخرجة، ولا على رأي رجل دين أو عالم نفس، ولا يحتوي أيضاً على تعليقات سياسية فجة ومباشرة. قصص المعتقلات السابقات في سجون الأسد، وحدها تتسلسل في الدقائق السبعين، ولا تترك للمشاهد مجالاً ليتنفّس بحرية، ولا ليرتاح. القصص المعروفة عن جحيم سجون الأسد، تأخذ أخيراً وجوهاً وأسماءً وأصواتاً: وجه للمعتقلة السابقة مريم (من مدينة حماة ــ 31 عاماً)، وجه للسيدة فوزية حسين الخلف، صوت لمعتقلة سابقة اسمها نور… لكلّ منهنّ قصة مختلفة.
مريم التي كانت تشارك في إسعاف الجرحى، أم لأربعة أطفال، اعتقلت من منزلها، دخلت السجن، واغتصبت. بهذه البساطة، بهذا التسلسل، وبهذا الوضوح. مريم الشجاعة تنظر إلى الكاميرا وتسمّي أسماء الذين تناوبوا على اغتصابها: المقدّم سليمان من طرطوس، والعميد جهاد، وغيرهما…
نور التي لا نرى وجهها تبدأ قصّتها بصوت هادئ وطفولي. تتحدّث عن طفولتها، عن دراستها، عن علاقتها بوالدها. ثمّ تسكت، يرتجف صوتها وهي تتحدّث عن اعتقالها في درعا (مسقط رأسها). ينخفض صوتها بشكل سريع. تبكي، وتتحدّث عن مشهد اغتصاب زميلتها علوى أمامها. ثمّ تبدأ تفاصيل عملية اغتصابها الجماعي ثمّ إصابتها بجلطة بعد: “آخر مرة، خمسة تناوبوا علي، من كتر مانن حاكيين عني، إجوا الخمسة تيشوفوني. (…) ما بعرف يمكن مع رابع واحد بلشت حس بآلام متل آلام الولادة (…) وواحد عمبيقول للتاني كمّل ما بيأثّر”.
ومن خارج المعتقلات والأقبية، تأتي قصة فوزية حسين الخلف، من حمص. تروي كيف داهم جنود الأسد منزلها بعد قصف مدينة الحولة الحمصية في أيار/مايو 2012. كيف بدأ الجنود بخلع ملابس بناتها الثماني. “شلحت تيابي وقلتله تعى اغتصبني انا، بس بناتي لأ”. اغتصبوها، ثمّ اغتصبوا بناتها واحدة واحدة أمامها، ثمّ قتلوا زوجها، وذبحوا بناتها، باستثناء ابنتها رشا التي تظهر في الوثائقي.
شهادات أخرى نسمعها، نسمع من نور تتمة قصة علوى، التي بعد خروجها من المعتقل قتلها والدها “حفاظاً على شرفه” بسبب تعرضها للاغتصاب. مريم طلّقها زوجها بسبب تعرضها للاغتصاب أيضاً. تعيش كل هؤلاء اليوم خارج سورية، في الأردن وتركيا، وبعض منهنّ في أوروبا، كما توضح مخرجة العمل في مقابلة إعلامية تلت عرض الشريط.
منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011، يعلم الجميع أن في سورية عمليات اغتصاب للمعتقلات (والمعتقلين)، لكن تأتي هذه الشهادات صادمة ومرعبة بتفاصيلها، بيوميات الأسى التي تعيشها المعتقلات السابقات اليوم “روحي انفصلت عن جسمي” تقول نور، “أنا جسد بس، ما بقى فيي روح” تقول مريم.
تتنقل الكاميرا بهدوء بين وجوه السيدات المعترفات. لا تخترق خصوصيات بيوتهنّ، ولا عائلاتهنّ ولا أجسادهنّ بالتصوير. تحترم الكاميرا ومن خلفها المخرجة الفرنسية مأساة هؤلاء. تمنحهنّ هامشاً للتنفّس والخوف والارتعاش وسط الشهادات. لا تجمّل كلامهنّ. تعطي البطولة كاملة لضحايا الاغتصاب. للسيدات اللواتي شاركن بالثورة من خلال التظاهر أو مساعدة الجرحى، فاعتقلن ووصمن بالإرهاب ثمّ اغتصبن وعذّبن. بطلات الوثائقي هنّ ضحايا الاغتصاب. لكن بطل الوثائقي أيضاً بشار الأسد وجنوده، هؤلاء الذين لا يظهرون في الشريط إلا بشكل مقتضب، من خلال اقتحامات وعمليات “تشبيح” مصوّرة على عجلة. الأسد موجود في كل تفصيلة من حكايات هؤلاء السيدات. فيل كبير يصعب تجاهله، حتى وإن كانت صورته لا تظهر، ولا تسمع تصريحاته… الأسد وجنوده وكل نظامه، مع كل المفاهيم التي حكمت سورية منذ وصول حزب البعث: القمع، والدكتاتورية، المنظومة الذكورية (صفة يتشاركها النظام مع أغلب الأطراف المتحاربة في سورية)، ثمّ الخوف الذي يحكم السوريين منذ وصول آل الأسد إلى السلطة. قبل شهرين تقريباً، سحبت الجمهورية الفرنسية بطلب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وسام الشرف من المنتج الأميركي هارفي وينستين، بعد فضائح التحرش المتتالية من قبل نجمات عالميات، بينما لا يزال بشار الأسد يحتفظ بقصره بوسام الشرف الذي منحه إياه جاك شيراك عام 2001. هذا الانفصام الأخلاقي الغربي وحده كفيل بتفسير مأساة هؤلاء السيدات.
العربي الجديد
«سورية الصرخة المخنوقة» على الشاشة الفرنسية/ ندى الأزهري
أمسية من ثلاث ساعات وعشر دقائق خصصتها المحطة الفرنسية الثانية «فرانس2» الثلثاء الماضي لسورية، في محاولة «لفهم أفضل» لما يجري في هذا البلد المعذب.
استهل السهرة برنامج خاص عُرض فيه الفيلم الوثائقي «بشار الأسد، السلطة أو الموت»، أخرجه كريستوف وايدمان وقدّم فيه بورتريه «لهذا الطبيب الذي بات ديكتاتوراً» ولذلك النظام الذي «يشبه المافيا» في تركيبته. أعقب الفيلم نقاش حول ما ورد فيه وحول «داعش».
ما نريد التركيز عليه هنا هو الفيلم الوثائقي الثاني الذي يُعتبر استثنائياً في موضوعه. «سورية، الصرخة المخنوقة» للصحافية الفرنسية مانون لوازو، اهتم بإثارة محرّم، قضية مسكوت عنها تمّ تجاهلها وبقيت مخفية بعيداً من الحرب المرئية، حقيقة أقل ظهوراً. إنهن النساء المستخدَمات كسلاح في الحرب، النساء اللواتي نجين من تجربة الاغتصاب. كيف أصبح جسد المرأة في سورية «ميدان حرب»، وسيلة ليس فقط لتدمير المرأة، لكن أيضاً لهدم عائلتها ومحيطها، هو موضوع هذا الفيلم الذي يكرس لبوح أولئك النسوة المقهورات اللواتي كن صامتات حتى اليوم خوفاً من العار والنبذ. إنهن ضحايا من نوع آخر للنظام.
الفيلم المؤثر يبدأ بفتاة تحجبها العتمة تظهر فقط خصلات من شعرها الطويل، يخمَّن عمرها الشاب من صوتها. تركّز الكاميرا على يديها وأصابعها التي لا تنفك تتشابك وتنفتح في توتر، تحكي عن طفولتها السعيدة، عن فستان العيد الذي كان «أكبر حلم»، عن الجامعة والأمل، من دون أن تغفل كل هذه «الحيطان التي لها آذان» والتي تسوّر كل بيت سوري.
جاءت الثورة وجرى ما جرى في درعا، وفي يوم أسود غيّر مسير حياتها اتُهمت بما لم تفعله، وهو «نقل السلاح!». تسرد الشابة تجربتها المُرّة في الاعتقال، حين ينفصل الجسد عن الروح وينهار كل شيء فيها وتخلص الحياة عندما يتناوب على اغتصابها جنود النظام واحداً تلو آخر. تتبعها شهادات لأخريات تعرضن للتجربة ذاتها، والتي لا وصف يلائم قسوتها. إحداهن أم لثماني بنات من الحولة قدمت نفسها لحماية صغيراتها من دون جدوى بالطبع، فقد لحقهن الدور. نقيبة منشقة في الشرطة قالت إن حبوباً منشطة كانت تعطى للجنود ليبقوا يقظين 72 ساعة وعلى أتم استعداد، وأن اعتقال النساء كان للمساومة لتسليم الرجال المطلوبين من العائلة ولتبادل الأسرى ولإذلال الرجل السوري. لقد كان الجنود يصوّرون الاغتصاب ويعرضون الصور للضغط على الثوار، لقد انتهكوا أعراض النساء وأرادوا لهن التعرّف إلى «معنى الحرية»!
قلوب ميتة وأرواح مقتولة وصرخات مخنوقة بعضها تصدر عن وجوه مخفية وأخرى ظاهرة. الصرخات متمردة كذلك، على هذا المجتمع القاسي الذي يحول الضحية إلى مذنبة ويدعو لموتها تخلصاً من «العار». هذه أروى قد قتلت على يد والدها، كما يظن الجميع، بعد خروجها من المعتقل، ومريم قد طُلقت… «النظام من ناحية، والعادات والتقاليد من أخرى، ونحن بينهما. إن حصل هذا لنا فيجب أن نموت، ولكنني لم أمت! ماذا أفعل؟»، تشكو إحداهن.
الثورة ليست فقط على المجتمع، «لا تحكوا لي عن الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وجنيف، كل واحد سيرى الفيلم وسيتأثر قليلاً ثم سيدير ظهره ويمشي…»، تثور أخرى.
بين قصة وأخرى، تعبر مشاهد من أسلاك شائكة أو طيور تنطلق في سماء صافية أو أغصان زيتون تهزّها نسمات حرية… حرية بقيت معلقة في مكان بعيد.
الحياة
“سوريا الصرخة المكتومة” وثائقي فرنسي عن السوريات ضحايا الاغتصاب
باريس: عرضت القناة الثانية للتلفزيون الفرنسي “فرانس-2″، مساء الثلاثاء، وثائقيا تضمن شهادات نساء سوريات يروين استخدام النظام السوري للاغتصاب كسلاح حرب.
يحمل هذا الوثائقي عنوان “سوريا، الصرخة المكتومة”، أعدته الصحافية انيك كوجان من “لوموند” وأخرجته الفرنسية مانون لوازو.
وهو يعطي الكلام لناجيات من السجون السورية، لاجئات حاليا في تركيا والأردن، قررن كسر المحرمات والظهور أمام الكاميرا، أحيانا بوجه ظاهر، للحديث عن الاغتصاب في مجتمع محافظ جدا مثل المجتمع السوري.
وعلى غرار ما حصل خلال الحروب في يوغوسلافيا السابقة، وفي نزاعات أخرى خصوصا في أفريقيا، تتحول أجساد النساء في سوريا إلى سلاح تستخدمه قوات بشار الأسد بشكل واسع، كما جاء في التحقيق.
وتقول انيك كوجان لوكالة فرانس برس وهي التي سبق أن اعدت تحقيقا حول الموضوع نفسه في مارس/آذار 2014 ، إن “هذا الوثائقي ما كان ليرى النور من دون مساعدة سعاد ويدي الجامعية الليبية التي جعلت من وضع النساء اللواتي يتعرضن للاغتصاب معركتها”.
وتابعت كوجان “بفضل الاتصالات التي تملكها بمنظمات سورية للدفاع عن حقوق الإنسان، تمكنت من إقناع سوريات بالكلام عن هذه الجريمة البشعة التي هي الاغتصاب”.
من جهتها تقول المخرجة مانون لوازو “لقد قمنا بعمل شاق مع انيك وسعاد لجمع أقوال هؤلاء النسوة السوريات مع كل ما يرافق ذلك من صعوبات وآلام”.
وإحدى النساء الست اللواتي تكلمن كانت تخدم في جيش النظام. تقول وهي تتكلم وظهرها إلى الكاميرا “لقد استخدم النظام الاغتصاب، وخطط له لتحطيم الرجل السوري”، مضيفة “عندما يتم الاشتباه بانضمام شخص إلى المعارضة المسلحة تعتقل زوجته وبناته ووالدته ويتعرضن للاغتصاب. وبعد تصوير عمليات الاغتصاب هذه، يرسل الشريط إلى الرجل لتحطيمه معنويا”.
اما فوزية فقررت الكلام بوجه مكشوف. تروي أن بناتها الأربع “رائعات الجمال” تعرضن للاغتصاب ثم الذبح أمام عينيها في منزلها بعد أن اقتحمه “الشبيحة”. كما قتل زوجها وأولادها الشبان باستثناء ابنتها رشا التي بقيت على قيد الحياة رغم إصابتها بأربع رصاصات.
وفي منظر مؤلم للغاية تكشف أمام الكاميرات صورا على هاتفها النقال تظهر فيها غرفة مليئة بالجثث. وتقول شارحة ما في الصورة “هنا جثتا شقيقي الصغيرين، هناك جثة والدي، وهنا جثة ابنة عمي، وإلى جانبها جثة شقيقتي”.
موت الروح قبل الجسد
وفي مجتمع محافظ مثل المجتمع السوري حتى في المدن الكبيرة، فإن المرأة التي تعرضت للاغتصاب تصبح عارا للعائلة. وإذا نجت من التعذيب وخرجت من السجون حية، فإنها في أحسن الأحوال قد تطرد من قبل عائلتها، او في اسوأ الأحوال قد تقتل.
تقول سيدة أخرى لاجئة داخل الأراضي التركية على مقربة من الحدود مع سوريا “لأنني تعرضت للاغتصاب طلب زوجي الطلاق، والدتي طلبت مني الرحيل وقالت لي أخوتك سيقتلونك. أشتاق كثيرا لوالدتي ويا ليتني أتمكن من معانقتها لأشم رائحتها ولو مرة واحدة. أنتم اليوم لا ترون سوى جسدي، أما روحي فقد ماتت”.
وتقول سعاد ويدي وهي تجهش بالبكاء أمام الذين حضروا العرض الأول “لقد استخدموا أجساد النساء ساحة للقتال، وأريد أن نتمكن من أن نقول جميعا بصوت عال: يجب ألا يتكرر هذا الأمر بعد اليوم”.
أما انيك كوجون فتقول إن “هؤلاء النساء مذنبات لأنهن ضحايا وهذا ذروة الظلم. الاغتصاب هو الفخ المطلق، الجريمة الكاملة، لأن النساء لا يتمكن من كشف ما تعرضن له خوفا من الموت”.
وشهادة أول امراة في الوثائقي هي الأقسى. تقول وهي في الظل لعدم ظهور وجهها “ثلاثة رجال ضخام الجثة دخلوا إلى زنزانتي وأنا جالسة على طرف السرير. أحدهم قال للثاني أتريد أن تبدأ أنت أم أبدأ أنا عندها انتابني الرعب الشديد. ماذا يعني ان تبدأ أنت او أبدأ أنا؟”.
القدس العربي
https://www.facebook.com/NajoonOrg/videos/909847085840434/?fref=mentions
https://www.youtube.com/watch?v=ZXh-XIeDgHo&feature=youtu.be