سورية ‘الموت ولا المذلة’
غسان المفلح
هذا شعار غناه أهالي درعا بعد المجزرة التي قامت بها عصابات النظام في الاسبوع الأول من نيسان/ابريل 2011 واثناء تشييعهم لشهدائهم، ما الذي جعل أبناء حوران يرددون هذا الشعار كأغنية من فلكلور حوران، ببساطة لأن النظام لا يكتفي بالقتل بدم بارد، بل يقوم بالتمثيل بجثث الشهداء وجر أجساد الجرحى على أسفلت الشوارع، والأهم من كل هذا أنه يتعامل مع شعب سورية كله على أنه شعب ذليل وسيريه مزيدا من الذل إن تمكن، والذل يتجسد في عودة الشعب السوري إلى حظيرة الخوف مسلوب الإرادة، الموت ولا المذلة شعار الكرامة الذي رفعه الشعب السوري وشبابه بوجه هذا النظام، إن شعب سورية الذي اختار أن يواجه النظام وهو أعزل، معرض الآن لمجازر لا يمكن أن يتصورها إنسان، معرض لوحشية قل نظيرها، حتى القذافي سيكون رحيما لو قارناه بما يمكن أن يجري لشعب سورية، في ما لو استطاع النظام أن يستمر بالقتل أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي، خاصة الشعوب العربية التي حتى اللحظة لم نجد تضامنا منها، كما تضامن شعبنا السوري ومثقفوه وشبابه مع ثوراته في مصر وتونس وليبيا واليمن. الشعب السوري الآن يواجه خطر المجازر التي يعتقد النظام أنه يرتكبها لسببين:
الأول انتقامي بالطبع، لان هذا النظام كنظام شخصاني يتعامل مع الوطن والشعب من موقف شخصي، خاضع للحسابات الفردية، ولمشاعره فمن يعطي الأوامر بإطلاق النار على اناس عزل، بالتأكيد لا يتصرف وفق أي قانون أو أية شريعة. والسبب الثاني هو أنه يريد أن يعطي درسا لهذا الشعب بأن لا يعود للاحتجاج مرة اخرى، وهنا تكمن خطورة ما سيواجهه الشعب السوري في المرحلة القادمة.. وهذا ما حذر منه أيضا مفكرنا السوري برهان غليون في ندائه الذي وجهه للشعوب العربية من أجل أن تتضامن مع شعبنا.
يعتقد هذا النظام أنه بتصرفه بوسائله المعتادة، من قتل وتدمير ونهب وسجون واغتيالات واعتقالات، بانه سيعيد التاريخ إلى ما يريده هو، وهذا أمر مثير للقلق كما هو مثير للسخرية السوداء، حيث أن هذا النظام انكشف على حقيقته، والمتجسدة بأنه كان منبعا للإرهاب من جهة، وأنه الطرف الطائفي الوحيد في سورية، كطرف حامل لمشروع قوة، ويمتلك أجهزة الدولة ويتصرف بها كمزرعة شخصية. أنا لا أعرف كيف يمكن لمثقف أن يراهن على هذا النظام بعدما قام بقتل أطفال وشباب بعمر الورود وهم عزل؟
لهذا اكتشف شباب حوران بدمه ومعه شباب سورية من كرد وعرب وغيرهم هذا اللغط الذي يتحدث عن الاصلاح، واختار بهذا الشعار، أنه لن يعود للذل ثانية حتى لو قدم يوميا الوف الشهداء، نعم إنه حد الذل يواجهه بحد الموت، وهم استشعروا واكتشفوا ذلك باحتكاكهم المباشر مع أجهزة القمع، انها أجهزة مبرمجة على القتل بدم بارد.. ولم يعد خاف على طفل سوري صغير أن من يطلق الرصاص هم ‘شبيحة’ السلطة وأجهزتها الامنية وقوات الحرس الجمهوري، وهذا ما تأكد في مدينة بانياس المحاصرة، كما قال أستاذنا هيثم المالح في مقابلة له مع قناة الجزيرة، بعد تلقيه معلومات مؤكدة أنه تم التعرف على شخصين من مطلقي النار وهم من قوات الحرس الجمهوري التي يترأسها أخ الرئاسة السورية.
لا أعرف هل الحديث عن الاصلاح في هذه المرحلة، يمكن أن يكون له أثر إيجابي على مستقبل سورية؟
طيب لو افترضنا ذلك من سيحاسب من أعطى الأوامر باطلاق النار على الشباب العزل؟ نحن لم نعد في زمن ما قبل المعلوماتية، فأشرطة الفيديو والمقابلات والتحقيقيات الصحافية ستبقى تحفر بالذاكرة الجمعية للشعب السوري، هل ستزال كل هذه الوثائق من التداول؟ أمر آخر وهو أهم برأيي من كل هذا على مستقبل سورية، الذي لا يتعلق بسيطرة حزب البعث على الدولة والمجتمع، بل يتعلق بتطييف المجتمع الذي كان ولايزال النظام يحاول التمسك بها كورقة لاستمراره، هل سيطال الاصلاح هذه الورقة وبنيتها؟ هل ستتغير ثقافة رجل الأمن والشبيح ورجل الحرس الجمهوري الذي يمثل بجثة، أو يجر جريحا على أسفلت الشارع؟
إنها أسئلة كثيرة تحتاج لمن يطلقون دعوات الاصلاح وعودة الشعب لحظيرة السلطة والخوف، أن يجيبوا عنها، وكان ينقصنا باتريك سيل بريطاني متخصص بشؤون الشرق الأوسط وسورية وله كتابان عنها، تحت عنوان ‘الصراع على سورية’ يؤرخ في الجزء الثاني فيه لمسيرة الرئيس الراحل حافظ الأسد، ويجيد العربية أكثر من كثيرين، ينصح بشار الأسد بالاصلاح إذا أراد الاستمرار بالسلطة، هل يعقل أنه أصيب بالعدوى؟ كيف الاصلاح وتبقى السلطة ملكا لنفس الشخص؟ لا أفهم ذلك! اتفهم أن تصدر هذه الدعوة عن مطبل عربي ومزمر عربي آخر، لكن لا أفهمها عندما تصدر عن مواطن بريطاني تربى على أن الحرية هي تداول السلطة بمعنى ما. الاصلاح المطلوب هو أن يقبل الرئيس الحالي لسورية بالدخول في انتخابات رئاسية تنافسية باشراف تجمع قضائي وحقوقي محايد. هذا الحد الأدنى المطلوب الآن للاصلاح. أما ما دون ذلك وبعد كل هذا الدم والمجازر، فهو دعوات تمكن القائمين على السلطة من إعادة لهيكلة الفساد وسلطته، قانون أحزاب والغاء الطوارئ.. كلها خزعبلات لم تعد تنفع، كان يمكن أن تكون ذات معنى لو بادرت السلطة من تلقاء نفسها بهذه الخطوات، وقبل كل هذا الدم.. عندها يمكن الحديث عن سلطة تريد الاصلاح، أما الآن فالحديث عن الاصلاح في ظل الدم، هو إعلان براءة هذا النظام من دم شباب سورية..
لست عدميا ولست أدعو هذه الدعوة من منطق انتقامي، مطلقا، بل لا بد لنا أن نرى الأمور من منظارها الحقيقي، وهو أن نظاما يقتل شعبه، ليس لديه الاستعداد لأن يقدم لهذا الشعب مستقبلا أفضل.. هذا ما أردت قوله من التحدث عن الحد الأدنى لدعوة الاصلاح، وهي أن يقبل شخص الرئاسة بالتنافس الانتخابي الحر والنزيه، أما تحت هذا السقف فكله دعوات في هذا الظرف ليس لتبرئة الجاني من دم الضحية فقط، بل لتلميع صورته من جديد كي يعود للقبض على زمام البلد مرة أخرى بالقمع والفساد وتوتير المجتمع طائفيا. وفي حال اختار الشعب في هذه الانتخابات النزيهة الرئيس بشار الأسد، عندها لا حول لنا ولا قوة، الشعب قد اختار، أن يسامح إلى هذا الحد.. ونحن نرضخ لصندوق الاقتراع. نسي باتريك سيل بالمناسبة أن الاعتقالات تطال حتى بعض وجوه كانت تدعو للاصلاح.
الموت ولا المذلة هذا الشعار الأغنية في حوران، يعبر عن أن استمرار هذا النظام يعني المذلة، فهل الاصلاح المطروح يريد استمرار هذه المذلة؟
من يطرح الاصلاح تحت سقف استمرار قانون الاستفتاء لمرشح وحيد على منصب الرئاسة إنما يريد من هذه الدعوة، العودة بسورية إلى نفس الدوامة، بل يريد السماح للنظام الشخصاني أن ينتقم من الشعب السوري ويعطيه درسا دمويا جديدا. لا ضير من مرحلة انتقالية ستة أشهر مثلا، لكن يجب أن يكون البند الأول من الاصلاح هو إجراء انتخابات رئاسية وإلغاء فوري لكل المواد الدستورية التي تمنع ذلك. عندها يمكن القول ولو بالحد الأدنى ان دماء الشباب السوري لم تذهب هدرا، وان المذلة لا تنتظر الشعب السوري على يد نفس الأشخاص… فاعذرونا شهداء حوران ليسوا للاصلاح المطروح من قبل نخب تريد استمرار النظام وشخوصه.
‘ كاتب سوري
القدس العربي