سورية: كيف نسقط النظام ونمنع الحرب الأهلية
د . سمير التقي
سيسقط بشار الأسد لا محالة.. تراث من الغطرسة الاجرامية وركام عريق من العنجهية يخنقه، ويحكم على نظامه بالفناء. وليس ثمة ما يشير إلى انه تعلم او سيتعلم، بل إنه لن يتعلم. نظام الأسد، الذي اختار منطق ادارة البلاد بالأزمات وجد في القضية الوطنية أزمة عليه ان يتقن ادارتها لمداورة خواء الشرعية. لكن الشعب تعلم بسرعة ان ادارة الأزمة في الصراع العربي الاسرائيلي لم تحرر الأرض بل تعلم الشعب ان الوقفة ضد قوى الطغيان الاستعماري والهيمنة الاسرائيلية لا تكون الا بالحرية، فالطريق الوحيد إلى الجولان هو بالديمقراطية وليس بالاستبداد. ما بدا في البداية اخطاءً، سرعان ما فرخ امراضاً استشرت لتصبح جرائم أغرقت البلاد. ثم جاء الأنكى، ألا وهو ترف التوريث للنظام البائس الذي اسكره غرور التسطح وعمى التاريخ. تصلب شامل دب في اوصال عقل وبنية النظام، لخصته كلمة جوفاء ‘منحبك’. لذلك سيكون بشار نهاية سوداء لحكم مستبد غرق في امراضه فتشرنق حتى الاختناق في منطق التعسف الذي افرزه كخيوط العنكبوت.
لقد ادمن هذا النظام سفك دماء السوريين حتى التسمم. ومنذ طلائع الربيع العربي الذي اطلقه ابطال ربيع دمشق أولاً عام 2000 لم يفهم بشار لغة الزمان، ولا لمس نبض المجتمع، ولا رأى عواصف التغيير وقد بدأت تتبرعم على يد هؤلاء الابطال. لم تستطع تقارير الأمن ان تكشف لبشار، كيف كان شباب الاحياء يشحذون ثورتهم، ثقافة وتضامناً وقيماً اسس لها مثقفو وفنانو بيان ال99.
اختزن الشعب السوري طويلاً هذا الحراك، انضجه وأطلقه في سياق تاريخي ملفت. ومع انطلاق الثورة، لم يفلح حتى حوار بشار مع نفسه في لجان التحقيق او لجان الحوار، وترسانة القوانين والمبادرات والمؤسسات التي اطلقها وانبتها من كنف جلده، سرعان ما لفظها بعدما كان يلوكها لحظة فقدت حلاوتها.
بشار عاجز عن المصالحة. لن يتمكن من مصالحة زقاق من ازقة جبلة، فكيف له بحمص او حماة أو الصنمين او درعا أو دمشق. الألم عميق عميق. لا لن تغطى السماوات بقبوات القصر الرئاسي. القوى الاجرامية التي عاثت في المجتمع نهباً وابتزازاً واضطهاداً على مدى اربعة عقود هي ذاتها التي افلتها بشار على الشعب الأعزل ذبحاً وقتلاً وتعذيباً. أصبح بشار، واكثر من أي وقت مضى، مديناً بكل ثانية من حياته لهذه القوى الشيطانية. كيف له ان يُصلح؟ وكيف له ان يصالح؟ ومن يصالح؟ فليس الدم وحده ما يفرق بيننا وبين طغمته بل الكرامة والبصيرة والأمل أيضاً. وبعد، فمثل نيرون، لم يغب عن ذكاء لبشار، الشك في ولاء المؤسسات التي صنعها النظام ذاته. فلجأ بعبثية شيطانية لإشعال نار الرهاب الطائفي في طول البلاد وعرضها، ليضع اقرب الناس اليه رهينة الذعر والجنون الطائفي أملاً في ان تحترق روما قبل قصره. فإما ان تقتل او تقتَل ولتحترق كل بيادر الحقل. في خضم هذه المتغيرات تقف الثورة السورية على منعطف حاسم سيتوقف عليه شكل انتصارها وثمنه. انه توازن ضعف بين قديم يموت وجديد قيد الولادة. نعم لقد وهُنَ المجتمع بكل جنباته على مدى اربعين عاماً. فلم يكن هذا النظام الضعيف بقادر على حكم المجتمع الا بإضعافه. فكك الاستبداد نسيج المجتمع وبعثره وافرغ قدراته من كل قوة بحيث اصبح الحل الفردي هو الغالب، فإما ان تنهار او تهاجر او تبقى تحت الابتزاز المذل. لم يبق لدينا زعيم في حارة او في صف مدرسة ابتدائية. فلا عجب ان لا تتمكن قوى المجتمع ان تتلمس اطرافها ومن العادي ان تنضج قوى المعارضة ببطء. الوقت الآن ليس من ذهب بل من دم ومن مصائر للشعب والوطن.
المجلس الوطني الذي شكل املاً كلف الشعب تضحيات ودماءً ليُنضج ولادته، لا يزال يحتاج للكثير ليستجيب للمهمات الكبيرة التي تواجهه. لكن، ثمة تحد تاريخي امام هذا المجلس الذي شكل خطوة كبرى على طريق بلورة القوى الأصيلة للمجتمع. إذ لا يزال بحاجة لفتح ابوابه أكثر فأكثر ليتحول إلى قبة على غرار حزب المؤتمر الهندي ليكون قادراً على أن يجمع تحتها الطيف الواسع ليس للمعارضة فحسب، بل ليكون اطاراً للوحدة الوطنية الحقيقة التي سنؤسس لها في سورية الجديدة. ولنكن واضحين، ينبغي للمجلس الوطني من الآن ان يقولها بجرأة معنوية لا لبس فيها: إن مهمة طمأنة وضمان والحماية الفعلية لكل الأقليات وصون حقوقها هي مهمة الأكثرية أولاً واخيراً. وذلك بدءا بالأقليات الأضعف وصولاً إلى الأكراد والعلويين. هذا هو الوطن الذي نريد ولا نريد سواه وبدون ذلك لا يمكن ان تغلق حلقة الوحدة الوطنية على رقبة بشار. الثورة هي ثورة الشعب كل الشعب وإلا فماذا؟ وبالمقابل فان مهمة كافة اطياف الشعب السوري ان تظهر انها تتقاسم مع الثورة الأتراح والآلام والآمال في سورية موحدة دمقراطية وحرة. يجب قطع الطريق على النظام من أخذ الأقليات رهينة فإما أنا او الطوفان. وتلك مسؤولية الجميع. سورية التي نطمح هي سورية الغنية بتنوعها وهي التي يكون فيها الانتماء للوطن هو اعلى الانتماء الأعلى والأسمى لتندمج سورية في هوية واحدة هي الهوية الوطنية. سورية التي يضحي في سبيلها شبابنا اليوم هي ثورة المواطنة فوق كل اشكال التمييز والتفرقة والمحسوبية والفساد والعصبيات وهي فوق منطق الأكثرية والأقلية، وفوق منطق كل الانتماءات لغير سورية الوطن الحر الديمقراطي حيث يتساوى المواطنون في الحقوق الواجبات. من هذه الروح بالذات وفي الاحياء الشعبية، والقرى يبذل وجهاء الاحياء والعائلات من ابناء شعبنا كل جهد لدرء حماقة الانزلاق نحو حل نيرون. يتحملون المخاطر واللوم والتخوين من اجل قطع الطريق على جنون النظام.
اولئك هم ابطال كما هم الابطال في التظاهرات السلمية. وتلك هي سورية التي تستحق كل هذه التضحيات. وبالمقابل ينبغي العمل على ان يتم تلافي الضعف الجوهري في دور المجلس الوطني الذي لا يزال يحتاج ليشغل مكانته ومسؤولياته ويقوم بكامل ادواره، ولينتج برنامجه الوطني لسورية الجديدة وخارطة الطريق الراهنة للثورة.وثمة تحد تنظيمي ايضاً في مواجهة المنظومة الأوامرية المحكمة للنظام، تتمثل في ضرورة شحذ وتطوير أدوات الادارة السياسية والتنسيق بين مختلف اطراف الثورة لرأب الكبير في سلسلة الادارة والسيطرة فيها. إذ يجب رأب نقاط الضعف في التواصل بين المجلس والقوى القاعدية للتنسيقيات التي تشكل روح الثورة وقوتها الفعلية ومصدر شرعية أي قرار فيها. انها هي التي ستحدد مصير الثورة ومآلاتها. الانقطاع هنا في الاتجاهين: في مستوى تمثيل المجلس الوطني للثورة وللتنسيقيات على الأرض وفي دقة قراءة المجلس للواقع كما تلمسه وتقوده هذه التنسيقيات من جهة، وانقطاع آخر في الزعامة والقيادة السياسية للمجلس في ادارة الثورة من خلال خارطة طريق وسيناريوهات يفهمها ويؤمن بها ويستميت في تطبيقها ثوار الداخل. القيادة تعني اولاً واخيراً الرؤية والتنظيم، تلك تجربة كل الثورات، وسيكلفنا اعادة اختراع الثورة من جديد ليس فقط الكثير من الدماء بل قد يكلفنا الكثير من مصير الوطن. إنني لا أتصور المجلس الوطني مجرد ممثل للمعارضة في الخارج بل ينبغي ان يكرس دوره اولاً كقيادة للثورة في الداخل ولقد ثبتت قواها الأساسية دعمها لهذا المجلس بكل وضوح.ولايزال الكثير مما يجب عمله من اجل تعزيز العلاقة بين المجلس الوطني والقيادة السياسية للقوى المدافعة عن المدنيين، ألا وهي الجيش السوري الحر المجيد. وثمة، وثمة، وثمة… لكن الثورة ستنتصر، فالولادة بدأت ولا رجعة فيها والسؤال بأي ثمن؟ ولأن بشار لم يعد يملك الا عصبية الطوائف والمماليك، ها هو يحاول في طيش اقحام دول الجوار ليجندها في اتون مجابهة طائفية اقليمية.
ثمة سيناريوهين اثنين للسقوط المدوي لهذا النظام:
السيناريو الأول: يفترض اساساً ان تبذل كل الجهود من اجل اكتمال حلقة الثورة حول عنق النظام من خلال عزله وتضييق حلقة حلفائه إلى اقصى حد ممكن وتوسيع الفئة الرمادية على حسابه مقابل توسيع دائرة حلفاء الثورة إلى اقصى حد ممكن. السيناريو الأول يفترض ان تنضج الثورة اشتعالاً عبر التظاهر والعصيان المدني وهذا أمر مما لاشك انه سيستمر. يفترض أن يكتمل تداعي سيطرة النظام على البلاد: فثمة جزء يتزايد من اراضي الوطن ليس فيها سلطة لبشار الا ان تواجدت المدرعات. والمدرعات لا تستطيع البقاء فالأرض ما عادت ارضاً صديقة. في هذه المناطق تغيب السلطة الا من المخبرين، لكن السلطة بما هي الدولة غير موجودة لا في المدرسة ولا في الحي فكيف في مصلحة الضرائب او في سيرياتل رامي مخلوف. وهو امر سيستمر ايضاً. ويفترض هذا السيناريو، ان تتكامل عملية حماية المدنيين من قبل ابطال جيشنا الحر بشكل متصاعد في القريب العاجل ليكتمل شلل قوات النظام. فالسلمية المطلقة للثورة، اتاحت لبشار ترف ان لا يتورط في تحريك قطعات الجيش التي لا يثق بها. وكانت فرق الموت التي اشعل سعارها بشار بالمخاوف الطائفية، كافية لإرواء عطش النظام للدماء وقمع الحراك في ادنى مستوياته دونما حاجة لتحريك الجيش. وعملية حماية المدنيين في تصاعد. ويفترض ان تتداعى قدرة النظام في السيطرة والادارة وتتصاعد ملامح عدم الثقة في ادارته ومنظومة اوامره حيث يعطل التكاسل والسلبية الكثير من فعاليته ومهماته، ومنذ الآن، لم تعد قدرته هي ذاتها حتى في حشد الشبيحة. ويتكامل هذا الوضع مع نضج الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالنظام والتي هي اولاً واخيراً نتاج نهبه قبل ان تكون نتاجاً للعقوبات. وهذا يتطلب تطوير كل اساليب التضامن الاجتماعي بين المواطنين وتطوير اساليب العصيان المدني في كل طول البلاد وعرضها حتى يسقط النظام جائعاً مفلساً. يفترض أيضاً، تصاعد الدعم الدولي لقضية حرية شعبنا ودعم قدرته في الدفاع عن نفسه والمزيد من عزل النظام والتضييق الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي الدولي عليه. لو تكاملت هذه العوامل واغلقت الحلقة الوطنية على النظام، فمن المفترض ان تبداً في الظهور التشققات بما يسمح بحماية كل الفئات والطوائف. العامل الدولي وقضية توحيد القوى الوطنية وقضية توسيع هوامش تحالفات الثورة هـي جمـيعاً عوامل حاسمة في بناء هذا السيناريو.
السيناريو الثاني: يفترض احتمال ان لا تتكامل حلقة خنق النظام، عندها سيسير بنا الزمان نحو المزيد من العنف المتبادل، والمزيد من تصاعد العصبيات والتشنج الطائفي، الأمر الذي يهدد ليس فقط بنشوء حرب اهلية بل ويهدد بتحول البلاد إلى ساحة لصراع طائفي واقليمي مقيت، هدد به بشار الأسد في مقابلته مع الصانداي تايمز. وهذا ما تبقى لبشار من مخارج. فكيف نمنع ذلك؟ ينبغي ان يكون واضحاً أن لا رجعة للوراء. ولتدارك هذا السيناريو المقيت ينبغي على كافة الفئات المترددة في مجتمعنا حتى الأن، ادراك ان درء مخاطر السيناريو الثاني تكون بمنع الحريق من ان يطالهم سيكون بالانخراط ونصرة قضية الحرية والعدالة في مجتمعنا والمشاركة في عملية تعافي الأمة وتعافي الوطن من وزر اكثر من اربعين عاما من الاستبداد. ولتدارك هذا السيناريو لا بد من تضافر كل الجهود العربية والاقليمية والدولية لاستكمال قطع الطريق على محاولة تدويل الصراع وحماية الثورة والمدنيين. بفضل الروح الوطنية العالية للشعب والجيش السوري، كانت سورية على مدى العقود الماضية لاعباً استراتيجياً اساسياً في المنطقة. ازدراء النظام لمصالح الشعب وغطرسة السلطة في معالجة الأزمة بل وعمله المقصود في ان يشرع ابواب البلاد للقوى الدولية المناصرة له، يهدد سورية الوطن والدولة بأن تصير ساحة للعب الآخرين. فواه، الف واه يا لذكرى وروح يوسف العظمة الذي اسس لسورية البطولة والحرية والاستقلال.
‘ كاتب وباحث سوري
القدس العربي