سورية مختبر حروب القرن الـ 21/ نيكولا بافيريز
الحق يقال، الحرب السورية- وبلغ عدد قتلاها 500 ألف نسمة وعدد لاجئيها 12 مليون نسمة من مجمل عدد السكان (22 مليون نسمة)- هي نموذج حروب القرن الحادي والعشرين المتناسلة إلى ما لا نهاية. وآذنت هزيمة داعش العسكرية في المشرق بنهاية مشروع الخلافة، ولكنها لم تطوِ عولمة حركة الجهاد، ولا العمليات العسكرية. وهي تترافق مع الميل الى العنف المُرسل الى أقصاه. واليوم، تجلو الحرب الأهلية على صورة تقسيم سورية الى ثلاث مناطق (منطقة نفوذ تركي؛ منطقة نفوذ أميركي؛ ومنطقة نفوذ روسي- إيراني)؛ ولكن النزاع هناك ينحو الى منحى التدويل، وترجح كفة المواجهات بين القوى الإقليمية والدولية على كفة الحرب الدينية.
ولا ريب في أن قصف نظام دمشق دوما بالسلاح الكيماوي في 7 نيسان (أبريل) 2018، هو منعطف. ويبلغ التوسل بالكلور وغاز السارين لقصف مدنيين، في غياب غاية عسكرية، مبلغ إرهاب غير مسبوق. ووقعت عملية القصف هذه بعد أكثر من 85 ضربة كيماوية منذ صيف 2013، وهي علامة على عدم التزام دمشق في حينها تدمير ترسانتها من الغاز الكيماوي، وقد تعبد الطريق أمام صبغ استخدام أسلحة الدمار الشامل بمشروعية الأمر العادي والسائر. وفي قصف دوما، انتهكت الخطوط الحمر أكثر مما انتهكت في خمس سنوات. والضربات التي وجهتها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة مشروعة. وهي استهدفت مواقع بحوث وإنتاج أسلحة كيماوية، وأفلحت في تفادي وقوع خسائر ناجمة عن حماية نظامي «أس 300» و»أس-400» الروسيين الأجواء السورية، وتجنبت إصابة القوات الروسية والإيرانية، وأفلحت في الحؤول دون التصعيد.
ولكن المواجهات بين القوى الكبيرة تنحو أكثر فأكثر إلى مواجهة مباشرة. وإلى الشمال، تعد تركيا، على رغم «أطلسيتها» (عضويتها في حلف شمال الأطلسي)، العدة للتوجه الى منبج- وهذه تحميها ميليشيا وحدات حماية الشعب التي تؤازرها قوات أميركية وفرنسية. وتواصل إسرائيل غاراتها على قواعد تأوي إليها قوات فيلق القدس الذي يرأسه الجنرال الإيراني قاسم سليماني، وتعارض نشر صواريخ إيرانية في سورية. ولذا، وجهت ضربات الى مطار التيفور في التاسع من الجاري. وفي سابقة من نوعها منذ الحرب الباردة، قتلت الولايات المتحدة، إثر القصف على دير الزور، نحو مئتي جندي روسي متخفين وراء قناع قوات المرتزقة نزولاً على ضرورات الحرب الهجينة، وهذه صارت من اختصاص روسيا.
ويلوح في الأفق قرار دونالد ترامب انسحاب بلاده في 12 أيار (مايو) المقبل، من الاتفاق النووي المبرم في تموز (يوليو) 2015. فالرئيس الأميركي يعد للخطوة هذه، والدليل على الإعداد هذا تربع مايك بومبيو محل ريكس تيلرسون على رأس وزارة الخارجية الأميركية، وجون بولتون محل الجنرال ماكماستر على رأس مجلس الأمن القومي. وتشير التعيينات هذه إلى أولويات جبه توسع إيران الاستراتيجي، سواء في دائرة الانتشار النووي والباليستي أم في دائرة التمدد الى العراق وسورية ولبنان واليمن. وتمدد إيران تغذى على أخطاء السياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ 2003. ويرجح أن تنسحب طهران بدورها من الاتفاق النووي. ويترتب على انسحابها، من جهة، تشديد طوق العقوبات المرتبطة ببرنامجها النووي وبرنامج تطوير الصواريخ وتصديرها، ومن جهة أخرى، توجيه ضربات أميركية وإسرائيلية إليها في حال استئناف العمل في المراكز الذرية العسكرية- وهي جسر إيران الى القنبلة النووية في وقت قصير. ويبدو أن عجلة دينامية الحرب تدور بين القوى دوراناً ينجرف وراء الانفعال، الحماسة والغضب ونفاد الصبر. والحرب هذه تندرج في سياق استئناف سباق تسلح- فالإنفاق العسكري يرتفع 10 في المئة سنوياً- شأن الإنفاق على الانتشار النووي والباليسيتي، وتتعاظم التهديدات السيبرانية. ومحور الدينامية هذه هو تحالفات تجمعها أوجه شبه بتحالفات أوروبا 1914: فمن جهة، محور إسرائيل ودول عربية- وهو محور تدعمه أميركا؛ ومن جهة أخرى، سورية بشار الأسد وإيران وتركيا- وهو محور تدعمه روسيا. ووراء الدينامية هذه حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا فلادمير بوتين التي تشن الضربات وتستعرض قواها- بدءاً من التدخل العسكري في أوكرانيا وسورية ومحاولة اغتيال سيرغي سكريبال وابنته وصولاً الى التلاعب السيبراني في الانتخابات الأميركية واستفتاء بريكزيت (انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) واستفتاء استقلال كاتالونيا. ويبدو أن حرب سورية هي مختبر نزاعات القرن الحادي والعشرين، على نحو ما كانت الحرب الإسبانية مختبر الحرب العالمية الثانية وحرب كوريا (مختبر) الحرب الباردة.
* مراسلــة، عن «لوفيغــارو» الفــرنــسية، 16/4/2018،
إعداد منال نحاس
الحياة