سورية: هزائم الفرقة الرابعة وخيارات الذئب الجريح
صبحي حديدي
منذ الأسابيع الأولى للإنتفاضة السورية بات جلياً أنّ صحيفة ‘الوطن’، وهي جزء من مملكة رامي مخلوف، تعبّر عن تفاصيل الموقف العملياتي اليومي داخل حلقة النظام الأمنية الأعلى، والأضيق؛ أكثر ممّا تفعل، أو تستطيع أن تفعل، جرائد أخرى حكومية، أو حزبية، مثل ‘الثورة أو ‘تشرين’ أو ‘البعث’. ولأنّ جرعات التذاكي التي يعتمدها تحرير ‘الوطن’ لها حدودها في نهاية المطاف، بالقياس إلى هول الوقائع، وبالمقارنة مع بلاغة الصورة، فإنّ المخفيّ طيّ العناوين والتقارير والمقالات يظلّ أشدّ انكشافاً وافتضاحاً من كلّ ظاهر علني. هنالك شؤون أمنية بالطبع، وأخرى سياسية، وثالثة حزبية، ورابعة اقتصادية… والناظم الدائم هو خطّ التضليل المنهجي، إذا جاز تصنيف السلوك الديماغوجي ضمن أية منهجية.
خذوا، على سبيل المثال، هذا الخبر الذي نشرته ‘الوطن’ يوم أمس: ‘نفى مصدر رسمي سوري لصحيفة الخليج، الأنباء التي تحدثت عن حصول انفجارات في مقر الفرقة الرابعة التي يقودها العميد ماهر الأسد وأكد أن هذه الأخبار عارية عن الصحة تماماً’.
المصدر هذا، ولا نعرف صفته المدنية أو العسكرية أو الحزبية، اعتبر أنّ ‘الأخبار التي تحدثت عن حصول انفجارات كبيرة في مقر الفرقة الرابعة قرب معضمية الشام عارية عن الصحة تماماً’؛ وأنها، بطبيعة الحال والعادة، ‘تأتي في إطار الإشاعات التي تستهدف الجيش السوري والفرقة الرابعة تحديداً منذ بداية الأحداث’. كذلك، في نصّ الخبر ذاته، أكد المصدر أنه لاصحة للأنباء عن وقوع ‘انفجارات ضخمة وقوية دوّت في مطار المزة، وحصول انشقاق كبير داخل الجيش السوري، وإعدامات بحقّ الضباط والجنود المنشقين’؛ وهنا أيضاً أكد المصدر أنّ هذه الأخبار ‘تأتي في إطار الحرب النفسية وحرب الإشاعات التي تستهدف سمعة الجيش والقيادة السورية’.
ليس المرء أمام مريب يكاد أن يقول خذوني، كما في القياس الشائع، فحسب؛ بل أيضاً أمام طراز طريف من الإثبات بنيّة النفي، في نبرة الخبر التي تتوسل الإيحاء بالموضوعية، مثلما في مفرداته التي تطابق حقيقة الواقعة رغم أنها تسعى إلى الانفلات منها. صحيح، وصار أمراً يتضح يوماً بعد آخر، أنّ الغالبية الساحقة من ضباط وصفّ ضباط وأفراد الفرقة الرابعة يدينون بالولاء الأعمى لقائدهم الفعلي، العميد ماهر الأسد، وعلى نحو لا يُقارن بولائهم للقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، الفريق بشار الأسد. صحيح، كذلك، أنّ قائد الفرقة انخرط ـ منذ أسبوع الإنتفاضة الأوّل، وبعد تظاهرات درعا مباشرة ـ في عمليات متواصلة من فرز، وإعادة فرز، عناصر هذه الفرقة لكي لا يقتصر ولاؤهم على الإنحيازات العسكرية أو السياسية أو الشخصية، وحدها؛ بل أيضاً على اعتبارات طائفية وعشائرية صرفة، تجعل مصير الفرد مرتبطاً بمصير الفرقة، ومصير النظام في الحساب الأخير.
كانت عمليات الفرز تلك ضرورة قصوى، سياسية ونفسية وعسكرية، لكي تصبح الفرقة الرابعة ذراع النظام الضارب في قمع الإنتفاضة، ولكي تنتشر حيثما اقتضت عمليات حصار المدن أو اقتحامها أو قصفها، عبر المدرعة أو الدبابة أو الحوّامة، فضلاً عن كامل الأسلحة النارية الأخرى، الثقيلة قبل الخفيفة.
هذه فرقة مدرّعة في الأساس، وتسليحها نخبوي ومتميّز، وترسانتها لا تقتصر على العدّة العسكرية بل تشمل أدوات القمع الأخرى (من العصا الكهربائية إلى الغاز المسيل للدموع، مروراً بالهراوة والقنابل المسمارية…)؛ وامتيازات عناصرها، من حيث الراتب والتعويضات والسكن والتأمين، لا تُقارن بما يحصل عليه العسكريون في جميع وحدات الجيش السوري الأخرى. ولهذا، حين زُجّ بالفرقة في عمليات كسر الإنتفاضة، تنقّلت كتائبها من محيط المقرّ في المعضمية، إلى مناطق حوران، ثمّ ريف دمشق، وبانياس، وحمص، وتل كلخ، وجسر الشغور، واللاذقية، وحماة، وجبل الزاوية، ومعرّة النعمان، ودير الزور، والبوكمال، وحماة مجدداً، ودير الزور مجدداً، فاللاذقية مجدداً، وجبلة هذه الساعة…
وفي أداء مهامها القمعية هذه، أو حين كانت بعض وحداتها المدرّعة تُوضع تحت تصرّف المفارز الأمنية التابعة لأجهزة المخابرات العامة أو العسكرية أو الجوية أو الأمن السياسي؛ أو حين يُستعان بها لتمهيد الشوارع والساحات أمام زحف قطعان ‘الشبيحة’ وميليشيات النظام الأخرى التي تتقنّع بأسماء شتى؛ ظلّت الفرقة الرابعة تخضع لمزيج من الضغوط اليومية الهائلة، تكفّلت بإدخالها في متوالية جهنمية أرادها النظام أن تكون انتصارات ساحقة ضدّ الإنتفاضة، فانقلبت إلى سلسلة من الهزائم الميدانية النكراء. وكان السيناريو الكلاسيكي قد انطوى على وصول هذه الوحدات إلى القرى أو البلدات أو المدن، وفرض الحصار عليها، قبل اقتحامها، وقتل المواطنين أو حرق الشوارع والساحات أو قصف المجمعات السكنية، ثمّ الاضطرار إلى الإنسحاب الذليل، ليس دون إذكاء عزيمة المنتفضين أكثر من ذي قبل!
وإلى جانب الإرادة الشعبية العبقرية هذه، ترنّحت دبابات ماهر الأسد تحت ثلاثة أنماط من الضغوط اليومية، أوّلها اهتراء معنويات أفراد الفرقة أمام الصمود الأسطوري للتظاهرات، وارتقاء الشعارات يوماً بعد يوم، في علاقة طردية مع اشتداد آلة القهر. كلّما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، والتعريض المباشر برموزه العليا، بشار الأسد وشقيقه على نحو محدد. وكلما أوغلت الفرقة في الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر…)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكاً بالوحدة الوطنية، وأعلى وعياً بمخططات النظام.
نمط الضغط الثاني كانت تصنعه حقيقة أنّ الفرقة الرابعة هي هجين مختلط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في التاريخ القمعي لـ’الحركة التصحيحية’، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. تلك السيرورة فرضتها اعتبارات تخصّ قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد ‘سرايا الدفاع’)، وعلي حيدر (قائد ‘الوحدات الخاصة’)، وعدنان الأسد (قائد ‘سرايا الصراع’)… صحيح أنّ هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أنّ ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصفّ الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة.
وهكذا، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الإنتفاضة، لأنّ ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة، وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسماً في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماماً من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءه السابق، وامتيازاته التي لم تكن أقلّ، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في ‘سرايا الدفاع’)، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و’مدمّر الإخوان المسلمين’ حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)…
ثمة، هنا، اختلاط في ماضي المرجعيات وحاضرها، ليس لأنّ القدماء كانوا شرفاء مع الشعب والجدد أوغاد، فالموازنة هنا غير مطروحة أساساً؛ بل لأنّ الولاء الأعمى لا تكفيه عصا واحدة يتوكا عليها، خاصة إذا اختلطت امتيازات الأمس، بكوابيس اليوم، وتبدّى المصير من خلال هذا الخليط المتنافر، ضدّ الشعب تحديداً، وفي مواجهة شارع لم يرفع حجراً في وجه الدبابة. وهذا يصنع الضغط الثالث، إذْ أنّ من المحال على ماهر الأسد، مثلما كان محالاً على سواه في الماضي، أن ينتزع الحسّ الوطني الأصيل من نفوس أفراد الفرقة الرابعة، جميعهم أو غالبيتهم الساحقة. محال، كذلك، أن يحوّلهم إلى مجندين صمّ بكم عمي يقاتلون سورية بأسرها من أجل نظام آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس وآل الشلاح وآل الغريواتي. والقاعدة الذهبية التي تسري على أبناء الطائفة العلوية أينما كانوا، تسري بالضرورة على أفراد الفرقة الرابعة: هذه طائفة وطنية عريقة، لها ما لكلّ السوريين، في كلّ أعراقهم وأديانهم وطوائفهم ومشاربهم، من حصة في الحرية والكرامة والديمقراطية؛ مثلما دفعت، إسوة بالسوريين، ثمناً باهظاً جرّاء سياسات نظام الإستبداد والفساد، هذا الذي لا يمثّل طائفة واحدة، ولا يقتصر على دين بعينه.
خبر ‘الوطن’، حول انشقاقات ومواجهات وإعدامات داخل صفوف الفرقة الرابعة، ليس بحاجة إلى تدقيق أو تمحيص، إذاً، فهو حصيلة منطق بسيط محّص ذاته بذاته، ودقّقته أسابيع الإنتفاضة، حيثما توجهت كتائب الفرقة الرابعة، في جنوب سورية مثل وسطها، وفي شرقها وشمالها مثل غربها وساحلها. وما لا تستطيع ‘الوطن’ التعمية عليه هو حقيقة انسحابات هذه الكتائب من قرى وبلدات ومدن دخلتها بذرائع كاذبة، ثمّ خرجت منها بذرائع أدهى كذباً، فلم تفلح في إخفاء التسمية الوحيدة الفعلية التي تصف ذاك الدخول وهذا الخروج: الهزيمة النكراء. وما يطلق عليه النظام صفة ‘وقف العمليات العسكرية’، اليوم، ليس سوى التوصيف البائس الأشدّ مراوغة لانهزام تلك العمليات العسكرية، وأنّ كامل خيارات الحلّ الأمني ـ العسكري، التي اعتمدها النظام في مواجهة الإنتفاضة، تدنو من حافة الإنهيار الختامية.
ولقد رأت سورية اجتماع بشار الأسد مع 500 من كوادر حزب البعث (‘صحّ النوم’ كما قد يقول له قائل ساخر، أو ‘لماذا لا تسمع نصيحتي؟’ كما قد يعقّب رجل جادّ مثل أدونيس، صاحب نظرية تحميل حزب البعث، وحده، أوزار مآسي سورية المعاصرة)، لكي يذرّ المزيد من الرماد في عيون أتباعه (بافتراض أنّ العيون ما تزال شاخصة إليه أصلاً)، فيعيد المعزوفة المكرورة إياها، حول إصلاح ‘نابع من قناعة ونبض السوريين وليس استجابة لأي ضغوط خارجية’. وقبل هذا استمع السوريون إلى تصريحات الجيران الأتراك، الذين نفضوا أيديهم من تسريبات مهلة الـ 15 يوماً التي تردّد أنهم منحوها للأسد كي يحسم؛ فبدا وكأنهم يعلنون الوجهة الثانية للفخّ الذي قيل إنهم نصبوه للأسد وشقيقه: هيهات أن تبلغا الحسم، وهذا آخر كلامنا! وبالأمس، فقط، وبعد قرابة 2600 شهيد وعشرات الآلاف من المفقودين والسجناء والجرحى، انتبه الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى أنّ الوقت قد حان لكي يتنحى الأسد!
أين موقع الفرقة الرابعة، من هذا كلّه؟ أغلب الظنّ أنّ الأنماط الثلاثة للضغوط التي تتعرّض لها كتائب ماهر الأسد هي، في منطقها الجدلي الموازي، ما تبقى أمام عناصرها من خيارات: إمّا متابعة الولاء الأعمى، والذهاب أبعد في خيانة الوطن والشعب؛ أو أعادة توزيع الإنحيازات، بحيث تُنقل البندقية من كتف إلى كتف؛ أو، أخيراً، الرجوع إلى جادة الوطن والحقيقة، حيث لن تزر وازرة وزر أخرى في سورية المستقبل ودولة القانون. ولا يغيب، بالطبع، ذلك الخيار الرابع، الرهيب، الذي قد ينتهجه أيّ ذئب جريح، لا يترنّح ويتهاوى فحسب، بل يخرّ أرضاً وينزف ويحتضر…
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس