سورية وتلفيق الإعمار/ غازي دحمان
ليست سورية أمام خطة خمسية أو عشرية، أو حتى أمام برنامج تطويري، على ما يحاول إعلام نظام الأسد والإعلام الموالي، الروسي والإيراني، تصويره، فما تم تدميره قبل كل شيء هو ركائز الأمة السورية وأساسات وجودها. وبالتالي، فإن أي إعادة للعمران ما لم تنتبه لهذه المشكلة لن تكون سوى إعادة صيرورة الهدم المديدة، والتي حاولت الثورة السورية أن تشكل قطوعاً معها، وتؤسس لبنيان جديد مختلف في الشكل والمضمون.
ثمّة فرق هائل بين جهود إعادة سيطرة منظومة الأسد مع ترسيخ الوجودين، الروسي والإيراني، في سورية، وإعادة إعمار البلد الحقيقية، فالأول، وحتى لو ظهرت تجلياته على شكل إنشاء أحياء سكنية ومجمعات تجارية فاخرة، لن يكون سوى استمرار لممارسة الهدم، ما دامت النتيجة واحدة، وهي استمرار إبعاد اللاجئين واستعباد المقيمين. أما الثاني فهو البناء الحقيقي الذي يقوم على إعادة إعمار النسيج الوطني، قبل كل شيء، من خلال تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الحقيقية التي تؤدي إلى تجاوز ما حصل، وعقد العزم على البدء من جديد في وطن يكون الجميع متساوين فيه في الحقوق والواجبات.
تؤكد كل المؤشرات أن روسيا وإيران، ومعهما الأسد، يتعاملون مع سورية ما بعد الحرب، بوصفها غنيمة حرب، وجائزة حصلوا عليها بـ “تضحياتهم”. وبالتالي، كما لا يحق لأحد تحديد كيفية استفادتهم من هذه الجائزة، كذلك هم أحرار في تصريف هذه الجائزة والتعاطي معها، كما أن تصوراتهم عن الإعمار ومشاريعهم التنفيذية تنحصر ضمن رؤيةٍ ضيقةٍ، وهي ضمان استعادة ما خسروه في الحرب، أو تحقيق مكاسب تنعش اقتصاداتهم النائمة.
“ثمّة فرق هائل بين جهود إعادة سيطرة منظومة الأسد مع ترسيخ الوجودين، الروسي والإيراني، في سورية، وإعادة إعمار البلد الحقيقية”
بناء على ذلك، تتفتق ذهنية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في اجتراح حلول تتطابق مع أهدافه الاقتصادية والسياسية، مثل مؤتمر الشعوب الذي يهدف إلى تمييع الحل والصراع في سورية، وتحويله إلى خليط من خلافات عشائرية قبلية وطائفية، واعتبار أن الوسط الاجتماعي هو الذي أنتج هذه الكارثة، وهو المسؤول عن حلها، وليس للسياسة أي علاقة. وبالطبع، الهدف الأبعد من ذلك هو إيجاد فئة جديدة من كل الفئات والشرائح السورية تؤيد الحل الروسي.
ألف وخمسمائة شخص هم عدة بوتين للحل وورشته لإعمار سورية سياسياً، وهم مجموع االذين تواصلت معهم قاعدة حميميم منذ عامين، ومنحتهم مزايا، وأعطتهم الوعود بالاستفادة من الأوضاع القادمة، وغالبية هذه الشخصيات إما كانت مجتمعاتها المحلية قد فوّضتها للتفاوض مع روسيا لفكّ الحصار المضروب عنها، أو تخفيف حدّة قصف قوات الجو فضائية الروسية “كما يحلو للروس تسميتها”، لكن العقلية المخابراتية الروسية لا تفوّت شيئاً من دون الاستفادة منه. لذلك تسعى إلى إعادة تدوير هؤلاء، ليكونوا بدائل للمعارضة السياسية، وهي تدرك أن سقف مطالبهم لن يتجاوز ما سبق أن تم منحه لهم.
أما الإيرانيون، فإنهم لا يرون في إعمار سورية سوى تشييد الطريق الواصل من القائم العراقية حتى سواحل المتوسط، مع بعض العقارات الدمشقية المحيطة بمقامات السيدات زينب ورقية وسكينة ومقبرة آل البيت في باب الصغير، بالإضافة إلى الاستثمارات التي تدر ربحاً مستعجلاً، كشركات الاتصال ومناجم الفوسفات، مع ملاحظة أن مشاريع إيران، وخصوصا العقارية والإنشائية، تتطلب تحقيق درجةٍ من الانسجام الطائفي، كأن يتم تصفية وجود العرب السنة على طول مسار سكة أوتستراد القائم- المتوسط، وتوطين الشيعة في المناطق المحيطة بالمقامات والمقابر.
يتنافى هذا الشكل التلفيقي من العمران مع نمط البناء المطلوب، ليس فقط لأنه يعيد إنتاج الاستبداد، بل لأنه لا يلحظ التغييرات الهائلة في البنية السورية، والتي باتت بحاجة لإعادة عمران المنظومة السورية، هوية وسياسة وعقارات، بطريقة تعكس الواقع الجديد ومتغيراته. أما ما تحاول روسيا وإيران، ومن خلفهما نظام الأسد، إنجازه، فهو يعكس التغيرات الميدانية الأخيرة، والتي يرون أنها أدت إلى سحق المعارضة السورية ميدانياً. وبالتالي، فإن تصميم سورية الجديدة يجب أن يكون على هذه الشاكلة، ويجب مواصلة سحق هذه المعارضة، عبر إخراج البيئات التي أنتجتها من معادلة الإعمار، وعمل كل ما من شأنه تثبيت هذه الوقائع بشكل أبدي.
أثبتت التجربة أنه، بإستثناءات بسيطة، لم تنجح عمليات إعادة الإعمار في التاريخ الحديث، لأن الجهات التي تكفلت إنجاز هذه المهمة، إما كانت منحازة مسبقاً أو كانت لديها تصورات غير عقلانية، أو أنها اتبعت منهجيات غير صحيحة، من نوع تسييس العملية، وحصرها ضمن نطاقات وقطاعات محدّدة. وبالتالي، تعطّلت عمليات إعادة الإعمار، حتى لو انتهت تلك
“روسيا وإيران، ومعهما الأسد، يتعاملون مع سورية ما بعد الحرب، بوصفها غنيمة حرب” الحروب بسيطرة فريق محدّد.
والقضية ليست قضية تأمين موارد لإنجاز العملية، وهو في الحالة السورية سيكون عملاً شاقا، نظراً لحجم الدمار الذي يستلزم أكثر من مائتي مليار دولار، حسب تقديرات البنك الدولي، بقدر ما هو إيجاد مناخ مناسب لمتطلبات إيجاد روح سورية تنهض بهذا العمران، وتوفير الشروط لتسييله إلى محرّكات وحوافز لبناء روح الأمة السورية، وإعادة بعثها بعد عقود من الموات، وسنوات من القتل المباشر. وهذا لن يتحقق إلا من خلال صياغة مقاربة جديدة، تقوم على أساس تأسيس مستقبل سوري، يرتكز على مبادئ المساواة والعدالة، وينطلق من قيم الديمقراطية والحرية. وهذا ما لن يتحقق في ظل السيطرة الروسية الإيرانية، واستمرارية بشار الأسد أو أضرابه في السلطة.
العربي الجديد