سوريـا: حـرب أهليـة داخـل الحـرب الأهليـة
مـايـكـل ويـس
رغم أنّ احتمال عودة بشار الأسد للإمساك بالسلطة في كافة أنحاء سوريا يبدو احتمالاً بعيداً، إلا أنّه كلّما طالت مدّة تمسّـكه بدمشق أو غيرها من معاقل النظام، كلّما ازداد احتمال تفتّت وتمزّق المعارضة وربّما هلاكها. فالمعارضة السورية التي لم تكن يوماً متماسكة أو موحّدة في الأساس، تبدو اليوم عليها علامات تُنبئ بحدوث تراجع داخلي وشيك بسبب الصراع الإيديولوجي الذي لم يكن بد منه، طالما أنّ الغرب اختار دور المتفرّج على حرب أهلية تدور دون أن يحرّك ساكناً.
بفضل سياسة الولايات المتحدة “الكارثية”، مقرونةً بـ”فانتازيا” ما يسمّى بـ”الحل السياسي” – وهي سياسة لا تبدي حكومة باراك أوباما أي إشارة تدلّ على أنّها ستغيّرها ويستمر المدافعون عن الإدارة بالدفاع عنها حتى وإنّ كانوا يقرّون بفشلهم – تُسرع سوريا الخطى نحو المرحلة التالية من مأساتها، التي طالت اكثر مما ينبغي: نحو حرب أهلية داخل الحرب الأهلية. وحسب الزمان والمكان لحصول هذا التطوّر، فمن الممكن أن يعني ذلك نهاية ثورة آذار 2011 برمّتها، وبداية أزمة إقليمية أوسع، لا يمكن لأي كمية من صواريخ الـ”باتريوت” أو الأسيجة الحدودية احتواءها.
أما الدليل على ذلك فيبدو واضحاً تمام الوضوح في قيام “جبهة النصرة”، التي من الجليّ أنّها الإسم الجديد الذي تتخذّه “القاعدة في العراق” – التي أدرجتها أخيراً وزارة الخارجية الأميركية على اللائحة السوداء – بعد أن نشطت في سوريا. فقبل 10 أيام، أُردي بالرصاص ثائر وقّاص، وهو قائد كتيبة “فاروق الشمال”، أكبر مجموعة ثورية وطنية إسلامية، في أحد مخازن الطعام في بلدة سرمين قرب الحدود التركية.
وتوجّهت الشكوك مباشرة نحو “جبهة النصرة”، التي قتلت جماعة “الفاروق” القيادي فيها فراس العبسي قبل عدة أشهر في باب الهوى، أحد المعابر الحدودية مع تركيا، والذي اعتُبر حينها أشبه بحرب “التنافس للسيطرة على مقاليد الأمور” منه الى الصراع الإيديولوجي.
فـ”كتائب الفاروق” وحلفاؤها يسعون إلى التفرّد بالسيطرة على مناطق الحدود مع تركيا، وذلك ليس فقط بهدف مراقبة من يدخل ويخرج من سوريا، بل كذلك لانتزاع أموال رسوم الدخول وتمويل نشاطاتها العسكرية.
وأخبر أحد ثوّار “الفاروق” الذي لم يُفصح عن اسمه، وكالة “رويترز” أنّ شقيق العبسي، وهو قائد آخر في “جبهة النصرة” في حمص، يقف ربما وراء مقتل وقّاص، رغم أنّ التصريح الرسمي الصادر عن “كتائب الفاروق” اتّهم النظام بالضلوع بعملية الاغتيال (وذلك يعود لأسباب متعلّقة بالعلاقات العامة أكثر ممّا يعود الى اعتقاد راسخ لديهم).
غير أنّ الأمر لا يقتصر على عمليات القتل الثأرية. فها هو مارتين تشولوف من صحيفة “The Guardian” يُسهب في وصف كيف أنّ سيطرة “جبهة النصرة” ستؤدي الى حال من الكراهية بين المدنيين والثوّار في حلب، الذين باتوا يرون الجهاديين بينهم أقرب إلى الكابوس منهم الى الأبطال الثوريين الرومانسيين كما كانوا يرونهم قبل بضعة أسابيع، عندما شجب السوريون إدراج الولايات المتحدة لهم على لائحة الإرهاب السوداء.
“الوضع الآن بات شديد الوضوح. هم لا يريدون ما نريد نحن”، قال أحد كبار القادة الثوريين لتشولوف. واليوم تتم مناقشة مخطّطات لمحاربة “جبهة النصرة” في اليوم الذي سيلي سقوط النظام، بما أن وحدات الجيش السوري الحر تستثني هذه المجموعة من أغلبية العمليات، مثل الغارة على اللواء 80، قرب مطار حلب الدولي.
النصرة”، المعروفة بحصولها على تمويل ضخم (يُقال إنّه من قبل بلدان الخليج العربي وما تبقى من جماعتها في العراق)، متهمّة أيضاً بسلب أصول وأموال يقول الثوار إنها تعود الى الشعب. وهناك أيضاً الإجرام والبلطجة المرتكبة بإسم الشريعة الزاحفة ببطء، والتي اعتمدت الزرقاوية، ومن ثمّ عطّلتها: أي وعد المقاتلين الجدد بتزويجهم الى فتيات من القرى المحلية، وتدنيس مواقع القبور التي يعتبرونها غير إسلامية بما يكفي، وما إلى ذلك. هكذا تحوِّل “النصرة” نفسها من رأس الحربة التي تحظى بشعبية في المعارضة المسلّحة إلى ممسكةٍ بعصا فرض الشريعة، وهذا خطأها الفادح، وذلك حتى قبل سقوط حلب.
ويقال إنّ معالم خاصة بـ”النصرة” توضع الآن في اللاذقية، قلب المنطقة العلوية، حيث من المؤكّد أنّها ستعادي غالبية السكان بسرعة أكبر.
إنّ رسالة تشولوف هذه، التي جمعها من جولته مدة 12 يوماً في شمال سوريا، تؤكّد ما قاله مصدر ثوري على إنفراد قبل أسبوعين عندما اتّصل بي مرتعباً. سألته ما الأمر؟ لقد أراد التواصل سريعاً مع أحد العاملين في الحكومة الأميركية، وهدفه الجديد كان تشكيل لواء مهمّته فقط محاربة “هؤلاء الجهاديين الملعونين”، وقال الثائر إنّ حملة التجنيد التي تعتمدها جبهة النصرة، هي الحملة الأشد في البلد، حتى إن المجموعة بدأت تُقنع بتبني معتقدها رجالاً قامت بتدريبهم.
وفي حين أنّه قبل ستة أسابيع، عندما كان حصار حلب في بدايته، قيل إنّه كان لـ”جبهة النصرة” نحو 3000 مقاتل تحت قيادتها، اليوم يقترب هذا العدد من الـ15000 مقاتل؛ صحيح أنّهم لا يزالون أقلية ضمن الثورة، لكنّهم يتمتّعون بثقة عالية بالنفس تعوّض [عددهم القليل نسبياً]. أينما سافرت في الشمال، يبدو لك العلم الأسود واضحاً.
“عند نقطة معيّنة، سوف يبدأ هؤلاء المقاتلون بفرض قوانين إسلامية صارمة وبالتصرّف بالطريقة التي تصرّفوا فيها في الأنبار”، قال جويل رايبيررن الضابط في استخبارات الجيش الأميركي في جامعة الدفاع الوطني، الذي يتمتّع بخبرة واسعة في ساحات معارك العراق وأفغانستان. “إنشاء محاكم للشريعة، وإطلاق الرصاص على النساء”، كما يقول. “ثمّة علامات تدل على بدء اتخّاذ جبهة النصرة هذا التوجّه في الجزيرة، ودير الزور مثلاً”، أضاف قائلاً.
يتوقّع رايبيرن حصول ثلاثة تطوّرات في المستقبل القريب، ويتصوّر أنّ النظام سوف يكون قادراً على تحمّلها. التطوّر الأوّل، هو حصول مواجهة بين “جبهة النصرة” من جهة، وقوات علمانية وطنية وإسلامية أكثر اعتدالاً من جهة أخرى، سوف تتصاعد بطريقة شبيهة بما حصل بين “القاعدة في العراق” وكتائب المتمرّدين السنية المتنافسة.
التطوّر الثاني هو توسّع “جبهة النصرة” في النهاية نحو الأردن، حيث، يقول رايبيرن إنّ الأرض خصبة للحصول على مؤيدين متعاطفين معها. “لا يمكنهم مقاومة ذلك، فلديهم أردنيون في صفوفهم، والأردن تشكّل هدفاً سهل المنال، لأنها تعاني حالياً من عدم استقرار سياسي” _ وفي حال حصل ذلك، سيكون على السعوديين أن يبدأوا بالقلق. فذلك يعني أنّ القاعدة ستتحرّك على الحدود الجنوبية والشمالية. أما التطوّر الثالث فيتمثّل بقيام “جبهة النصرة” بتأسيس ملاجئ آمنة لها في الجزيرة، ومنها سيقومون بالتخطيط وإطلاق هجمات إرهابية في العراق تماماً كما فعلوا في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة.
بالنظر إلى المشهد السياسي المهتزّ في وسط وجنوب العراق، والتهديد المتجدّد لمذهب الجهاد على طريقة “القاعدة” هناك، فإنَّ توقّع حصول عمليات عبر الحدود وتجدّد “الدهاليز” من سوريا – هذه المرة فقط بدون قوات تحالف بقيادة دايفيد باتريوس في العراق- يمكن أن يعني العودة الى الفوضى التي تلازمت مع ما قبل فترة إندلاع الحرب التي لم تتوقّف، إلاّ على الصفحة الأولى من صحيفة “نيويورك تايمز”.
يوجد اليوم “جيش عراقي حر”، قيل إنّه أنشئ على طريقة “الجيش السوري الحر”، ولكنّه معدٌ، وفقاً لأحد مقاتليه الملثّمين في الفلّوجة، لتحقيق هدف أقرب الى هدف “جبهة النصرة” أي الى “الإطاحة بالأنظمة الشيعية التي ترعاها إيران في المنطقة، ولا سيّما بينها حكومة نوري المالكي “الصفوية”.
وبالنظر كذلك الى الفيديو الدعائي، الذي يمكن تسميته “حادثة بانتظار حدوثها”، الذي يُظهر مقاتلين شيعة عراقيي الهيئة، يدافعون عن مزار السيدة زينب في دمشق. ويرتفع ذلك ليصل الى استفزاز مفتوح لـ”جبهة النصرة”، التي تنظّم نفسها ضد الكفرة “النصيريين” [أي العلويين] التابعين لنظام الأسد وحلفائهم، ويمكن أن تقوم بتفجير هذا المكان الشيعي المقدّس بالطريقة التي قامت فيها “القاعدة” في العراق بإشعال فتيل الجحيم الطائفي من خلال تفجيرها مسجد الإمام حسن العسكري في سامرّاء عام 2006.
إذاً، يمكن ترتيب ما يجري حسب جسامته كالتالي: التوجّه الجهادي، التأثير الإقليمي، والنعرات الطائفية بين السنّة والشيعة. قبل عام واحد، كانت هذه المخاطر الثلاثة المطروحة لصالح الحفاظ على الولايات المتحدة بشكل مباشر وغير مباشر بعيدة عن الصراع السوري. ولكنّها اليوم باتت حاضرة فعلياً، بغياب أي وسائل خارجية للتخفيف من وطأتها أو الوقاية منها. وفي حال استمرّت الأزمة الحالية، وغرقت سوريا فعلياً في مزيج الرعب الذي تحدّث عنه توماس هوبز والذي قضت الولايات المتحدة عقداً من الزمن في محاولة منع حدوثه، نكون أمام احتمال قوي للتدخّل في وقت لاحق ليس بهدف تفكيك بقايا نظام الأسد، ولكن لتدمير الشكل الأخطر من أشكال معارضة الأسد.
فهل ستصبح حكاية النظام منذ اليوم الأوّل لقيامه – بأنّه كان يحارب بموضوعية الى جانب الغرب في الحرب العالمية على الإرهاب – حكايته الحقيقية [بعد أن تنطبق عليه]؟
وكما قال أحد المنشقّين عن نظام الأسد لأحد المسؤولين الأميركيين في أوائل عام 2012: “يمكنكم إرسال طائرة الى منطقة لا يُسمح فيها بالطيران فوق سوريا الآن، أو إرسال طائرات بدون طيّار لتحلّق فوق سوريا لاحقاً”.
هذا المقال هو ترجمة للنص الإنجليزي الأصلي
https://now.mmedia.me/lb/en/commentaryanalysis/the_civil_war_within_the_civil_war
موقع لبنان الآن