سوريون لا تثنيهم مآسي البحر عن ركوبه/ إسطنبول – ناجية الحصري
يتلمس باسل رأسه بين الحين والآخر متحدثاً عن ألم يحس به. هي المرة الأولى التي يركب فيها طائرة. ذلك الشاب السوري الذي رافقته حقيبة صغيرة من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت قاصداً إسطنبول. قال إن عنصر الأمن العام في مطار بيروت سأله وكرر السؤال: «هل ستعود إلى لبنان؟ وكان جوابه في كل مرة: «أتمنى ألاّ أعود».
الألم يشتد كلما ارتفعت الطائرة في الأجواء المفتوحة فوق بحر مفتوح على بلاد قال باسل إنه ربما يجد فيها «وطناً بديلاً يحترمه كإنسان».
يمسح رأسه مرات عدة ويشير إلى جرح عميق محفور في جبهته قال إنه من آثار ضرب متكرر تعرض له أثناء سجنه من السلطات السورية في بدايات الثورة التي كانت تلف حلب حيث كان يقيم: «ضربوا رأسي بأعقاب البنادق وخرجت بعفو عام». هو اليوم يقصد تركيا للهرب بحراً إلى أوروبا. مأساة آل صفوان لا تنهاه عن قراره. تبدو الطائرة كلها على موعد مع «قوارب الموت». كل الآذان كانت تنصت إلى الحديث مع باسل. لم يخفض صوته ولا خاف من «موالين» على الطائرة، فهو ذاهب إلى قدره. لم يجادله أحد في قراره. بدوا في تواطؤ مبطن.
باسل (27 سنة) ابن أستاذ جامعي في حلب، أعدم تنظيم «داعش» شقيقه لأنه جندي في الجيش، قالت له والدته قبل أن يغادر إنها فقدت ابناً ويكفيها خسارة، لكنه أصر على الرحيل. هو يعمل في مجال تركيب الستائر، قال إن لبنان «ينظر إلينا نظرة رفض، نحن أخطأنا بحقه لكن الحق على بلدنا سورية، التي لم تحترمنا بالأصل ولم تدافع عن حقوقنا كعمالة أجنبية لا في لبنان ولا في غيره».
اتصل بأصدقائه الذين هربوا قبله بالقارب ووصلوا إلى ألمانيا، فحضوه على المجيء بالطريقة نفسها. «جمعت ما معي من مال جنيته على مدى سنتين، وسأصل إلى إسطنبول. قالوا لي إن هناك دكاكين تقصدها لمافيا التهريب وتختار ما يعجبك من طرق للتهريب والأسعار المعروضة، ينقلونك إلى إزمير ومن هناك وخلال 40 دقيقة على متن قارب تصبح على الشواطئ اليونانية. ومن هناك أتابع سيري كما فعل غيري، إلى مقدونيا وربما أصل إلى ألمانيا، وربما إلى السويد لا فرق، المهم أن أصل إلى بلد يحترم الناس». قال إنه لا يهاب أمواج البحر. كان يسبح في الرقة و «المياه هناك عذبة، أما البحر فمياهه مالحة تساعد على العوم. إذا كتب لي عمر أعبر البحر».
حين بدأت الطائرة الهبوط في مطار أتاتورك، استعاد باسل شعوراً مزعجاً «حين تقصف الطائرات بالبراميل، نشعر أثناء نزولها بقوة تسحبنا من على الأرض وترفعنا، ولا نرتاح إلا عندما تنفجر البراميل. قد تدمر حارة كاملة لكن الشعور بالارتياح هو الذي يرافقنا للمفارقة».
يختفي باسل بين آلاف الشباب السوريين الذين يقصدون إسطنبول، يعملون في المطاعم والدكاكين، وحتى في مسح الأحذية. خالد الشاب الوحيد الذي بقي صامداً على قارعة طريق الاستقلال يعزف على آلة «أوكارديون» بعدما غادرته بقية أعضاء الفرقة في الرحلات غير الشرعية إلى ألمانيا والدنمارك والسويد.
خالد تغيرت ملامحه السورية، أطال شعره ورفعه بواسطة رباط بلاستيكي إلى الخلف وتخفف من ملابس تقليدية إلى منحى أكثر أوروبيةً. شكّل فرقة جديدة تعزف كل ليلة أمام السياح الذين يعبرون شارع الاستقلال. تحولت أغانيهم أناشيد وطنية تذكرهم بالوطن. قال إن بعض الناس يشتمونهم لأنهم يغنون وبلادهم تحترق، ولا يدرون كم الجرح عميق ومؤلم.
خالد أرسل ابنيه (11 سنة و10 سنوات) مع صديق له بالبحر ووصلا إلى مخيم للاجئين في ألمانيا وهما بخير، لكن والدتهما تبكي كل يوم: «ننتظر لمَّ الشمل، هذا الإحساس يعوض عن الفراق والقلق». وإلى جانب خالد ثمة شبان يعملون بالتهريب، قالوا إنهم مطلوبون للشرطة التركية. بعضهم يعيش في إسطنبول منذ اكثر من 14 سنة. قال احدهم: «من يغرق بالبحر يكون السبب هو المهرب والطمع. هناك قوارب لا تتحمل أوزاناً كثيرة يحشرون الناس فيها، أو أن الهاربين يرفضون التخلي عن حقائبهم ما يسبب غرق القوارب، وبعض المهربين يستخدمون موتورات لتشغيل القوارب قوتها أقل من المطلوب فتتوقف بهم في عرض البحر وتقلبهم الأمواج».
يحمّل الشاب المهربُ الناسَ مسؤولية قبول الصعود إلى قوارب غير آمنة، ويعتقد أن هناك مهربين بلا ضمير. أما الأسعار فليست مرتفعة، هناك مراعاة لأوضاع الناس. ويؤكد أن من «هرب معنا وصل بأمان إلى الشاطئ اليوناني».
ويقول إن «التهريب ليس مقتصراً على السوريين والفلسطينيين، هناك الإيراني والعراقي والباكستاني وبعض اللبنانيين». وهو يقوم عمل المهربين بحسب النقطة التي ينطلقون منها إلى البحر، ملمحاً إلى عمليات تجري من إسطنبول نفسها. ويؤكد أنه «اعتباراً من الأول من تشرين الثاني المقبل يتوقف التهريب بواسطة القوارب المطاط، لأن أمواج البحر تصبح عاتية». لكنه يؤكد «أن التهريب لا يتوقف، فهناك طرق أخرى وعبر البحر أيضاً وآمنة».
ترتفع حناجر الناس المتحلقين حول فرقة خالد السورية بالغناء «موطني موطني»، وتشتد الأصوات ارتفاعاً: «هل أراك سالماً مُنعّماً وغانماً مُكرّماً، هل أراك في عُلاك تَبلغ السّماك، الشبابُ لن يَكِل، همّه أن تَستقل أو يبيد، نستقي من الرّدى ولن نكون للعدا كالعبيد، لا نُريد ذلّنا المؤبّدا وعيشنا المنكّدا، لا نُريد، بل نُعيد، مجدنا التليد».
الحياة