سوريون يستعيرون وطناً/ أيمن الشوفي *
تعجن شاشات التلفزة كلّ يوم وصفة متقنة من طحين الغياب. يبصر السوريون من خلالها ذبول ذويهم وهم يحاذون سكك القطار في صربيا والمجر. كنملٍ يمشون، يلحقون بهالة الشمس الوطئة أول النهار، يجرّون وراءهم ظلّهم الخفيف، ويبكون بعيداً عن الكاميرات المصوّبة نحو عيونهم المالحة. يعبرون مقدونيا بخفة، تتلعثم خطاهم في هنغاريا أو على الحدود المجريّة ــ النمساوية. يفترشون تراباً رطباً، يتبللون من عصيدة الغيم والبرد، ويسكتون عن الوجع. يصلون دفعاتٍ بشرية متقنة العدد، مسكونة بمذاق رحيق الوطن الأوروبي المستتر عن حواسهم. ينتظرون بقلق على حافة الحدود البريّة التركية ــ اليونانيّة، علّها تنفتح، فلا تنفتح ولا هم يعبرون. لا ينامون في الليل الموصد، ولا يغنّون، شبابٌ ونساء وأطفال ذابلون، طاوعهم الحظ وخرجوا من بطن الوطن المتصلّب الذي يعاند تلوين الحياة بغير لون العدم. في الداخل، تنمو الوساوس للحاق بهم، إلى وطنٍ جديد، يتصوّره السوريون مجبولاً من لحمٍ ودم وعاطفة. تظهر النوايا رحبة، يطهوها الانجذاب إلى بريّة الحياة خارج أصقاع سوريا المكتئبة، المتوعكة منذ سنوات، والمتروكة لفعل دمارٍ لا يشبع.
اللجوء من الخارج
الآلة العسكرية التي هجّرت نصف السوريين، ودكّت مدناً بكاملها، لم تعد تقدّم بمفردها مسوغات اللجوء الخارجي. مئات اللاجئين السوريين من حلب وإدلب وحماه الذين يعيشون في تركيا منذ سنوات، تحركوا مؤخراً من اسطنبول في حملة رفعت شعار “عابرون لا أكثر”، قاصدين الحدود البريّة مع اليونان، متجنبين لطمات الحظ العاثر الذي قد يلاقيهم إن قصدوها من البحر، متفادين أيضاً إنفاق ما بين 1500 إلى 2000 دولار كعمولة يتقاضاها المهربون لقاء استئجار حيّزٍ ضئيل في زورقٍ مطاطي، يصيرون معه طُعْماً للبحر، أو لارتجال رصاص خفر السواحل اليوناني. وكأن أوروبا ستهربُ إلى غير كوكب، وينبغي اللحاق بها قبل فرارها، وكأن حمّى اللجوء أصابت السوريين جميعهم، اضطجعت في عقولهم، لم تعد تميّز بينهم، سواء كانوا في الداخل أم في الخارج.
اللاجئون السوريون في لبنان ومنذ أن يصلوا إليه، يبدؤون. يرتّبون مخططاتٍ تقودهم إلى القارة العجوز، يكدحون في أعمالٍ موسميّةٍ شاقة، يقتصدون منها كلّ شهر بعضاً من كلفة اللجوء، يجيئون إليه عائلاتٍ متعبة، أو على هيئة أفراد تاركين ما تبقّى من أهلهم منسوبين إلى مناسكِ الحياة الواهية.. أغلبهم من ريف دمشق المنكوب بآفةِ البارود، أو من ريف حمص المُفلس من احتمالات الحياة الآمنة، بعضهم يأتي من المناطق الشرقية أو الشمالية الشرقية، مغادراً بلاء “دولة الخلافة الإسلامية” وهي تقطع الرؤوس، وتُغلق المدارس، وتمنع التدخين في الشوارع.
أوروبا تعني لهم المستقبل. يقبلونها هكذا. “يوتوبيا” بتكلفة انتقال مقبولة. يديرون ظهورهم إلى الحدود التي جاؤوا منها بلا ندم. سوريا تصير ماضيا لا يودّون تذكّره.
مكاتب لترتيب الرحيل
تنتمي الأصقاع التي يسيطر عليها النظام إلى مساحات حلم اللجوء أيضاً، مثل غيرها من المناطق المدمّرة. إذ لم تسلم العاصمة دمشق من مرثيّة الرحيل، فالأحياء العشوائية التي تقطنها غالبيةٌ مسيحية مثل “الدويلعة” و “الطبالة” تشهد أكثر من غيرها على نوايا الرحيل وعلى ترتيباته، كما تنغمس مدينةٌ مثل “جرمانا” ذات الغالبية الدرزية في مستنقع فكرة الرحيل عينه. لا مناص من الاحتماء بنصائح المكاتب العديدة التي تحوّل عملها من تسهيل الإيفاد الدراسي نحو الجامعات الأوروبية، إلى توفير تأمين حجيج السوريين الراغبين بالطواف حول دول “شينغن” الأوروبي، وعلى وجه التحديد حول قبلتهم الأكثر قداسة، ألمانيا. فتراهم يشترون خدمات المكاتب التي ترتّب لهم إقاماتٍ وهمية في فنادقَ لبنانية، يتمكنون بموجبها من دخول القطر الشقيق، ثم تحجز لهم على متن رحلاتٍ بحرية تقودهم من لبنان إلى تركيا، أو تؤمن لهم حجوزاتٍ على رحلاتٍ جويّة مضمونة تصل من دمشق إلى اسطنبول. بعض تلك المكاتب تمتد وساطته فتصل إلى حدود المهربين المعتمدين في تركيا، وبعضهم الآخر يعلن عن انتهاء خدماته بمجرد تأمين وصول الراغب في اللجوء إلى الأراضي التركية. تفضّل تلك المكاتب إرسال زبائنها في مجموعاتٍ بشرية، تتحجّج بأن الكلفة تصير أقل في هذه الحالة، لكنها تكون قد تقاضت عمولةً أكبر من تلقاء تأمينها لتلك الحجوزات الجماعية.
تذكرة إلى أوروبا
تبدأ كلفة اللجوء اعتباراً من ثلاثة آلاف دولار للشخص الواحد. يكفي في هذه الحالة بيع السيّارة الشخصية لتأمين المبلغ المطلوب. وإن كانت عائلة متوسطة الحجم من خمسة أشخاص ترغب في اللجوء، فبيع المنزل يفي بالغرض هنا. تترتّب معادلات البيع تلك في أماكن يسيطر عليها النظام السوري، لكنه وفي شهر آب / أغسطس من العام الحالي، أوعز رسمياً إلى دوائر المصالح العقارية بربط عمليات البيع والشراء ونقل الملكية بموافقة أمنية دون أن تحدد طبيعة هذه الموافقة، ولا اسم الجهة الأمنية الواجب مراجعتها.
قسمٌ من السوريين الذين لا يؤازر الموت مشهد حياتهم اليومي، يريدون الانفكاك من جاذبية تشدّهم إلى قاعِ حياة رديئة لا تتقن سوى التقنين كفعلٍ محسوس، يحلمون بواقعٍ جديد هانئ. يزيّن لهم عقلهم مستقبلاً أفضل إن بلغوا عتبات دول الاتحاد الأوروبي، يصحُّ تسميتهم هنا بالمهاجرين، حتى وإن دوّنتهم المنظمات الدولية على أنهم لاجئون في سجلاتها الرسميّة. لكن القسم الأكبر من السوريين ممن هم لاجئون بالفعل، تدوّن أسماءهم مخيمات دول الجوار، وتحفظهم في جيوب خيامها الرثّة منذ سنوات، وهم يريدون مَحْو حياة المخيم من سيرة يوميّاتهم، وهم بذلك محقّون، بعدما محا القصف بيوتهم وأعمالهم في سوريا، ولعلّهم يستحقون نعمة اللجوء إلى الوطن الأوروبي الجديد أكثر من سواهم. وحدهم الفقراء يبقون يعيشون في الداخل كمتلازمة عضوية لا فكاك منها، يشيحون بوجوههم عن كلفة الانتقال إلى أوروبا السعيدة. وهم أيضاً يشكّلون السواد الأعظم من لحم مخيمات الجوار.
اللاجئون في أرقام المفوّضية
السوريون اللاجئون يظهرون في أرقامٍ حديثة رشحت من بيانٍ صدر عن المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في شهر تموز / يوليو من هذا العام. تلك الأرقام تتوقع وصول عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري إلى نحو 4.27 مليون لاجئ مع نهاية العام الحالي، وتفصح عن 270 ألف سوري قد طلبوا اللجوء في أوروبا. أرقام المفوضيّة توضح كيف أن نصف اللاجئين السوريين في لبنان والبالغ عددهم 1.173 مليون يعيشون في أماكن إيواء تفتقر للحدّ الأدنى من متطلبات العيش، وأن أكثر من 85 في المئة من اللاجئين السوريين في الأردن، والبالغ عددهم 630 ألف لاجئ، يعيشون تحت خط الفقر البالغ 3.2 دولار في اليوم الواحد. فيما تركيا تستقبل العدد الأكبر من اللاجئين، ويبلغ تعدادهم فيها نحو 1.8 مليون لاجئ. ويتوزّع 7.6 مليون نازح سوري في أنحاء البلاد، لم يجدوا ما يبيعونه للفرار خارج شوك الحدود، فبقيت سوريا وطنهم البديل، يهاجرون بين أصقاعها.. وهذا ما يقدرون عليه فقط.
* صحافي من سوريا
السفير