سياسة أوباما السورية
غازي دحمان
تشي كل وقائع السياسات الاميركية تجاه سوريا، بعدم تبلور إستراتيجية واضحة لدى إدارة الرئيس باراك أوباما بشأن أزمة هذا البلد، هذا أمر لم يعد مخفياً، ذلك أن الإستراتيجيات لا تتبع مبدأ التقية كما لا تموه عملياتها، الإستراتيجيات لها ملامح وتباشير ونذر واستعدادات، ولها دعاية سياسية تبرر استحقاقاتها، باختصار الإستراتيجيات لها عدتها.
ثمة أسباب تقنية تقف خلف هذه الظاهرة ترجع إلى تقليد ديبلوماسي قديم إنتهجته الإدارات الأميركية، وهو التعامل مع سوريا إنطلاقاً من إرتباطها بملفات أخرى، كإسرائيل ولبنان وإيران وتركيا، وليس بوصفها ملفاً قائماً بذاته يتطلب إستراتيجيات وتطوير سياسات معينة وتفعيل آليات ذلك.
رغم كل ما قيل عن دور سوري سابق على المستوى الإقليمي، ومحاولات النظام السياسي السوري في عهدي الأسد الأب والابن تزخيم فاعلية هذا الدور وجعله يحظى بالإهتمام الأميركي، إلا أن الديبلوماسية الأميركية ظلّت تتعامل مع سوريا بوصفها ملفاً ثانوياً لا رئيسياً.
في الجانب العملي والواقعي، فإن الولايات المتحدة الأميركية، وبعد تجربتي أفغانستان والعراق والأزمة المالية، فإن مقاربتها للأمور بدت مختلفة تتناسب وظروفها ، فهي تمر بمرحلة تغيير في تعاطيها الجيوسياسي مع قضايا الصراع العالمي، تقوم على أساس ترشيد إستخدام قوتها عبر سياسة القيادة من الخلف، وهو منطق ينتصر للتوجه الإمبريالي بنسخته الأميركية، والذي بموجبه تصبح التدخلات العسكرية مشاريع إقتصادية خاضعة لحسابات الجدوى، كما تدار الصراعات بتقنيات حسابية بحتة، بعد أن تتخلص من فائض الحمولات الإيديولوجية التي تقوم على شعارات الدولة الأعظم والنموذج الأفضل.
لم تصل أميركا إلى هذه الخلاصات ببساطة، الوقائع تشير إلى أن ثمة صراعاً شرساً شهدته أروقة البيت الأبيض وفي خزانات فكرها الإستراتيجي بين جيل قديم كان ينوي الإستمرار في النموذج الأميركي القديم، وبين جيل جديد ورؤى جديدة لدور أميركي في المنطقة، إنتهى بانتصار الأخير وخروج الأول من دائرة التأثير نهائياً، في حين يمسك بصناعة القرار في إدارة أوباما الثانية الجيل الجديد، ونتيجة ذلك تسير السياسة الأميركية باتجاه نمط جديد يقوم على إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط إلى دوائر مصلحية، بعد أن جرى تضييقها إلى أقصى الحدود تطبيقاً لمبدأ الترشيد، وهي عملياً تكاد تنحصر في “دائرة إسرائيل” و”دائرة النفط”، ومحاولة جعل كل دائرة تنتج إمكانيات بقائها وإستمرارها ذاتياً، أو عبر أقل قدر من التدخل الأميركي ، وتعمل كل دائرة على إنتاج هوامش الاستمرار بما فيها مقدرات الصراع والتفاوض.
على هامش هاتين الدائرتين، تدور جملة من الدوائر، القضايا، تراوح أهميتها بمقدار تأثيرها على هذه الدوائر، فمثلا تتحول إيران إلى مجرد ملف يتم إختزاله ببرنامجها النووي ومدى تأثيره في أمن دائرتي” إسرائيل” و”النفط”، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لكل من لبنان “حزب الله” او مصر بحكامها الإسلاميين الجدد.
في هذا السياق تحتل سوريا مركزاً متدنياً في إهتمام السياسة الأميركية، ذلك أن العنصر البارز فيها هو عنصر القتل، وهنا يجيب أوباما عن ذلك، حيث تساءل خلال مقابلة نشرتها مجلة ذا نيو ريبابليك لماذا ينبغي أن يشغل نفسه بالشأن السوري وليس الحرب الأهلية في الكونغو، وهو في ذلك تعبير عن مدى هضم الإستراتيجية الجديدة وطبيعة توجهاتها.
هذا فضلاً عن حقيقة مهمة تتمثل في كون واشنطن تحاكم الوضع السوري على أنه حالة إيجابية بالنسبة لمصالحها وذلك لجهة قدرة الأزمة السورية على إستنزاف الخصمين الروسي والإيراني وإشغالهما عن تطوير الملفات المؤذية لأميركا، وهذا الأمر يأتي في إطار ترشيد الموارد الأميركية، حيث يُستنزف الخصوم بدون أدنى تكاليف ونفقات .
الحالة السورية حتى اللحظة غير مؤذية لأميركا، والتدخل، إذا حصل، فلن يكون تدخلاً شاملاً، بل موضعياً لإعادة ضبط مسارات الحالة، كما حصل في الضربة الإسرائيلية لمركز البحوث في جمرايا، الذي لا بد أنه تم بتنسيق وإشراف أميركي، فما دامت دوائر المصالح الأميركية غير متأثرة لن نرى تدخلاً أميركياً أو تغييراً مهماً في إستراتيجيتها.