سياق سوريا الغربية/ غازي دحمان
يدرك بشار الأسد والزمرة الملتفة حوله، استحالة استعادة حكم كامل سوريا من جديد، وربما لم يعد هو نفسه راغبا في حصول مثل هذا الأمر، فثمة عوائق عدة سياسية واقتصادية واجتماعية تجعل أي سياسي عاقر السياسة وعرف مقتضياتها واستحقاقاتها، يعرف صعوبة هذا الأمر.
فلا الرصيد العسكري المتبقي للنظام يسمح له بتحقيق حلم استعادة بلاد بحجم سوريا وإمكانية ضبطها وإدارتها سياسيا واجتماعيا، ولا قدراته الاقتصادية تتيح له إعمار ما تخرب.
بل إن ثمة مؤشرات تفيد بأن النظام تجاوز منذ زمن إستراتيجية استعادة ما خسره من مساحات جغرافية لصالح المعارضة المسلحة ضده، وبات يركز على تشكيلاته الاستخباراتية للعمل في هذه المناطق، بالإضافة إلى مساعدة أجهزة استخبارات أجنبية من أجل إعادة تشكيل هذه المناطق وتشكيل توجهاتها وعقيدتها، أكثر من العمل العسكري على استعادتها.
لقد تعرض جسد الخريطة السورية على مدى الفترة الماضية لتدمير ونهب قلّ مثيله، كما فاضت الديمغرافيا السورية وتشتت بكل أطيافها وطبقاتها لدرجة لم يعد ممكنا معها الحديث عن مجتمع سوري أصلا.
فبعد ثلاثة أعوام من النزوح والاستقرار في مجتمعات اللجوء، كيف يمكن تصور إعادة تماسك المجتمع السوري؟
كما تعرضت الجغرافيا السورية لعملية تقسيم بين مناطق محررة وأخرى خاضعة لسيطرة النظام، فضلا عن حالة السيولة والفوضى الحدودية والإقليمية، وكل ذلك نتج عنه توقف الدولة السورية عن أداء دورها الطبيعي بالتزامن مع انهيار الشبكة الإدارية وتقلص وظائف الدولة في وظيفة القمع.
ولعل الأمر الأشد خطورة ما حصل على صعيد العلاقة بين المكونات السورية، حيث حصلت قطيعة عميقة رسمت حدودها أنهار الدم الجارية على سطح الوطنية السورية، كما حصلت صدمة بنيوية غير مسبوقة من نزاع الهويات المركبة قوميا ودينيا ومذهبيا.
إزاء هذا المشهد المركب ثمة سؤال يطفو على سطح الحراك الدولي الجاري بشأن عقد مؤتمر جنيف:، ترى ماذا يريد النظام والعالم من هذا المؤتمر؟
وفي المقابلات الإعلامية الكثيرة جدا التي أعطاها الأسد أخيرا، كما في كلام وزير خارجيته وليد المعلم، من المطالب والشروط والتعجيزات ما يحول دون مجرد عقد هذا المؤتمر، فضلا عن إمكان الوصول به إلى نتيجة تنهي نزف الدم الغزير في البلاد.
والواقع أنه طالما أن الأسد لا يمكنه استعادة حكم كامل سوريا، ولا يسعى لحلول سياسية، فالوضع الطبيعي أن لديه خيارات أخرى وإستراتيجيات موازية لتطبيق تلك الخيارات؟
المؤشرات تتجه صوب خيار التقسيم، وأن ما يجري في الحقل السياسي والميدان العسكري ليس سوى اشتغال على إنضاج الظروف الموضوعية لإجازة هذا الخيار وتبريره. والمتتبع لسياق إستراتيجية الأسد لهذا الخيار سيلحظ حتما التكتيكات المتبعة لتحريك الظرف الموضوعي الذي يرتكز على عدة أعمدة:
– جغرافيا: بتشكيل خطوط الفصل بين المناطق التابعة للنظام والمناطق المحررة من قبضته لزرع بذرة فكرة التقسيم (منطقة موالية، منطقة محررة) وتحويلها إلى أمر واقع، ونقلها من الإطار النظري إلى التطبيق العملي.
– اجتماعيا: دفع المكونات السورية كافة للبحث عن حلول وسطية, نتيجة لتحويل الثورة إلى حرب طائفية, وتدمير المدن السورية التي يقطنها السنة لإيصالهم إلى حال من اليأس من إمكانية تغيير الأوضاع, ولإقناع الطائفة العلوية بأنه لا مجال ولا حلول سوى الانفصال عن سوريا، وإغلاق جميع خطوط الرجعة في وجه الطائفة للعودة إلى الحضن السوري من جديد وقمع أي صوت معارض داخلها.
بالتوازي مع ذلك تعمل أجهزة استخبارات النظام بلا كلل على إستراتيجية ترسيخ وجود الجماعات السلفية والجهادية في المناطق السنية المطالبة بتشكيل الدولة الإسلامية ودولة الخلافة, والتي تشكل خطرا على أغلب مكونات الشعب السوري, ولكي توحي للعلويين والأكراد والمسيحيين وباقي الكيانات الأخرى, بأن سوريا غير قادرة على التماسك من جديد، لتصب في خانة الاقتناع بالأمر الواقع والارتضاء بتقسيم سوريا على أساس طائفي وقومي ومذهبي.
وقد قطعت إجراءات النظام في هذا السياق شوطا واسعا، إذ تم تشكيل جيوش حماية لكل طائفة تحت مسمى اللجان الشعبية لحماية مناطق تواجد الطوائف.
هذه المعطيات ليست سوى حالة مقصودة: مخطط جرى ترتيبه وهندسته بعد العام الأول للثورة، يقضي بتلاشي الدولة السورية نهائيا في مرحلة أولى وهي المرحلة التي يجري العمل بها، ثم إعادة بناء كيانات جديدة على أنقاض هذا البناء.
المرحلة الثانية من هذا المخطط هي مرحلة الإدارة الخارجية لبعض الأقاليم السورية، وهي مرحلة يجري التمهيد لها عبر تعريض هذه الأقاليم لنوع من التخريب الواسع ينطوي على حالة من الانفلات الجغرافي بحيث تتحول إلى مصدر خطر وفوضى بالنسبة للجوار الإقليمي.
مرحلة الإدارة ليست غريبة على المنطقة وقد أعقبت النكبة الفلسطينية حيث اضطر الأردن لإدارة الضفة الغربية، وقد يضطر لإدارة المنطقة الجنوبية من سوريا، في حين تمهد روسيا لإدارة مناطق الوجود المسيحي بعدما نصبت نفسها حامية لوجودهم، وبعدما تقدم خمسون ألف سوري مسيحي لطلب الجنسية الروسية، كما قد تضطر تركيا لإدارة مناطق حلب للدفاع عن حدودها بعد انتشار القوى المتطرفة فيها.
الغريب أن أغلب التقديرات والتصورات الإستراتيجية عن مآلات الأزمة السورية تلحظ إمكانية حصول التقسيم في سوريا كواحد من أبرز السيناريوهات القادمة.
غير أن أغلب تلك التقديرات تذهب إلى تصور بات يمكن وصفه بالكلاسيكي لكثرة شيوعه والذي يقوم على تقسيم سوريا إلى ثلاثة أقاليم أو دول: دولة علوية ودولة كردية ودولة سنية.
المشكلة في هذا التقسيم الذي قد يكون مناسبا للأكراد والعلويين، أنه لا يصلح في الحالة السنية، ذلك أن إستراتيجية نظام الأسد المدعومة روسيا وإيرانيا تعمل على تمزيق البقعة الجغرافية السنية وقطع طرق التواصل فيما بينها، بمعنى تحويلها إلى معازل منفصلة مشتتة في شمال وجنوب وشرق سوريا.
وهذه الخريطة تفرضها مرتسمات حدود دولة النظام التي تمتد من ريف القنيطرة في الجنوب، مرورا بدمشق وريفها، وصعودا باتجاه القلمون الغربي المحاذي للبنان توسطا بحمص وريفها الغربي، وصولا إلى طرطوس واللاذقية، مع إبقاء أرياف إدلب وحماة -خارج حوض العاصي- مناطق حيوية بحدود متحركة، وهي مناطق جرى إفراغ ديمغرافيتها، في ما يبدو أنه تجهيز لهذه المرحلة.
للأسف هذا المخطط يأتي بناؤه في ظل انهيار النظام الإقليمي العربي وانهيار احتمالات قيام شرق أوسط بهوية إسلامية متفاوتة، ورغم الجهود الفردية المتناثرة التي تبذلها بعض الأطراف العربية فإنها لا تشكل شبكة حماية لسوريا من المخططات السود التي تحاك لها.
أما على الصعيد الدولي وبعيدا عن تفنيد مواقف أطرافه، فالواضح أن الإرادة الدولية بالعموم وحسب التفسير الخاص لكل طرف، تبحث عن حل سياسي ينهي الصراع ويعيد الهدوء إلى سوريا.
لكن الإشكالية أن مفهوم الحل السياسي لدى هذه الإدارة فضفاض ومرن، بمعنى أنه مستعد للقبول بما تفرزه المعطيات وتكرسه الوقائع، وهنا مكمن المخاطر التي يستشعرها السوريون.
ولعلّ ما يعزز من المخاطر المشار إليها حقيقة اختلاف المعادلات الإستراتيجية، حيث تتجه بوصلة موازين القوى الإستراتيجية الجيوسياسية في هذه المرحلة نحو علاقة تهادنية، تراها الإدارة الأميركية بمثابة اللحظة المواتية جدا لاقتناص نصر تاريخي على الصعيد الدولي، يتحقق عبر ترويض إيران، ولجم الدب الروسي، وشل السلحفاة الصينية الدؤوبة، واستعادة زمام المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، واستخدام تكتيكات المفاضلة بين المتناحرين للسيطرة عليهم جميعا.
النتيجة أن المؤتمر الدولي الذي يراد عقده في جنيف لن يكون سوى محاولة لتعزيز السياق الجيوسياسي والمصالح الإقليمية والدولية المتشابكة التي تسعى للتأثير في مسارات التفاوض الهادفة إلى تفكيك الأزمة ظاهريا، وتركها تتشكل وفق دينامياتها الخاصة وقدراتها على إنتاج نفسها.
تبقى الإشكالية في كل ذلك أن روسيا وإيران ونظام الأسد يسعون إلى تفعيل كل الديناميات لتشغيلها في سياق سوريا الغربية.
الجزيرة نت