سيـاسَــة الجـسَـــد
برنار نويل
ترجمة: محمد بنيس
هل يفترض هذا العنوانُ أن أتعرف على نفسي، لا في هاتين الكلمتين، اللتين هما أيضاً تمثيليتان لصلة قديمة بينهما، بل للطريقة التي يربط بها هذا التعبير بين الواحدة والأخرى؟ يزعجني هذا الربط، من جهة بسبب أنه يتوجب إثباته قبل تأكيده، ثم من جهة ثانية لأنني لا أتوفر على ضمانة لأن أبتهج بالوحدة التي تطابق بينهما.
ذلك أنني لا أعتقد في وحدة ‘أنا’ي الشخصية، التي لا توجد إلا في الأفعال التي تحققها، على نحو عابر. فـ’أنا’ي صورة بلاغية يعود الفضل في مكانها إلى الإصرار على استعمالها من لدن اللغة العادية. كل فرد يظن أنه ‘أنا’ فيما هو وجود ‘أنا’ يتوقف على التزام عابر وعلى الطريقة التي نعاملها بها.
إن الفردية الطبيعية والاجتماعية، التي لدى كل واحد منا، لا تبدو لي كافية لتبرير الـ’أنا’: فمن البديهي أنها لا تقتضي إلى حد كبير حتى أنْ تكونَ مضمونة بأدنى التزام يمكن أن يكون عليه الوعيُ بالمكان العضوي والجسدي المُسمَّى ‘أنا’. أضفْ إلى ذلك أن تقاليدنا المسيحية، وهي تستند إلى ‘السر الخفي للتجسيد’، لم تتوقف عن أنْ ترفضَ الممارسة على حساب روحانية غير متجسدة. والأفظعُ هو أن عدم قابلية تجسيد الروح يؤدي إلى أن ‘أنا’ كلمة عامة لدرجة أن معناها لا يُحيل إلا على ترددها في الاستعمال.
وجدتُ نفسي، وأنا مشرفٌ على نهاية مراهقتي وضد تيار هذه الحالة المتعارف عليها، مُجبَـراً على ضرورة أن أعود إلى الجسد ـ أو بالأحرى في جسد ـ ما دام الإحساسُ باللاتجسيد الذي دفعتْ إليه التربية الدينية والمعيارُ العامُّ لم يعد محتملا. عند ذاك أصبح هذا الوعيُ، من فرط التكرار العنيد على نحو ما، ممارسة إرادية لإدراك الأسس العضوية لجميع أنشطتي وبالأساس للتفكير الذي كان يسعى (ولا يزال) لأن يقبضَ على الانبثاق الباطني، على عرَقه المُضيء شيئاً فشيئاً. وهذه الصيرورة لاسترجاع الجسدي عثرتْ على تأكيدها، المفارق بلا شك، في الكتابة وبواسطة الكتابة، وهذه الأخيرة أقرّتْ بما انكشف. فماذا كانت بالضبط طبيعة التجربة في بداية مستخلصات الجسد** ؟ لا أعرف شيئاً بعد ستين سنة، غير أنني كنتُ آنذاك على قناعة بأنني صوّرتُ الحالات الجسدية تصويراً حرفياً ووضعتُ ، بالتالي، الجسدَ في الكتابة وليس مجردَ تمثيله. ومع ذلك فإنه، بدلاً من انفتاح يؤكدُ الانطلاق، كان الصمت. صمتٌ لعشر سنوات أضحت الكتابة في نهايتها نشاطي العاديَّ والجسدُ، مكانُ مرجعية الكتابة، في علاقة مُـرتابة معها على الدوام.
لا شك أن إرادة التجسيد ظلت حاسمة، لكنها لم تكنْ تسمحُ لي أن أجهل أبداً، وأنا أصحح مرة تلو أخرى في الجسد ذاك الذي هو سببُه ودعامته، أنه لن يكون أقل تبخراً من ذلك نفسه الذي ينتجه. إن الجسد ينتهي إذن بأن يكون المكانَ المنسيَّ لما قد لا يكون، مع ذلك، ثمة وجودٌ بدونه ولا خارجه، ويبعثُ، وهو موجود، على نسيانه تحديداً. فالجسدُ هو مشهدُ جميع ما أمثله: مشهدٌ يمحوه التجسيدُ بقدر ما ينمو، وها هو ما لا أتوقف عن التمرد عليه بحيث أن كل ما يحمل، في كتاباتي، اسمَ الجسد، أعضائه ونعوتها هي جزء من هذا التمرد: تمردٌ يائسٌ ضد وضعية تختزل الجسدَ إلى أن يكون مكاناً بدون مكان لتمثيلاتي، بما في ذلك تمثيلاته.
حاولتُ عبثاً أن أرجع التعبير ثانية إلى إنتاج عرَق بطريقة اصطناعية، إلى نضْحٍ عضوي، ذاك لا يمنعه، بمجرد ما ترتفع شعشعته، من أن يحوّل الفضاء الحميم الذي تنبثق فيه إلى مكان بدون مكان. إذ بمجرد ما يعبّر عن نفسه الفكرُ، الخيالُ أو حتى الذاكرة، يتبخر الفضاءُ الجسديُّ لصالح الذهني. لكن أليستْ حركةً عبثيةً أن ترغب مراراً أيضاً في أن تنعش حضور ‘الجلد، اللحم، الأعضاء، الظهر، الوجه’ حول المشهد الذهني؟ بلى، نفكر بهذا أيضاً، وإنه لمن المفيد أن نعيَ بذلك ثم… يتبدّدُ هذا الوعيُ في عملية التفكير !
ألا ندركُ أن التفكير فعل؟ وينبثق بالضبط من جميع هذه الأعضاء في الوقت الذي يُسكتها، بل ويمحوها. سكوتٌ ومحوٌ من المحتمل أنْ يكونَا ضمانة لحُسن اشتغال الآلة الجسدية: ألا يمكن بعكس هذا أن تصبح معطلة بوعي مكوناتها؟ ففي الاعتقاد بإعادة إنتاج حالات الجسد، كما لو أنها كانت بصَمَته، تأسست كتابتي ضد الذهنية، وفقط بعد ذلك فهمتُ أن هذه ‘المستخلصات’ كانت على الأقل عدّلت اتجاهَها بفعل وضعية الكتابة. لكنْ أليس من الممكن ألاّ تكون العناصرُ العضوية المجاورة للمشهد الذهني مشدّدة عليه بسبب عنادي في أنْ أظلّ واعياً بحضورها. ومهما يكن، فإنني اقتبستُ، لاحقاً، من هذا الديكور العضوي مرجعياتِ كتابتي أو، في جميع الأحوال، صُوَرَها.
يبدو لي بغتة، والحالة هذه، وبسبب السياق الذي أحاول أن أعيد هنا بناءه، أنّ هذا الاختيار، الذي تمّ اعتبارُه كشعرية، هو، بالأحرى، من طبيعة سياسية. فالتمرُّنُ على الوعي بالحيوية العضوية، كما هي معروضة، خلف جميع الأنشطة الذهنية التي تحْجُبها عنا، له مفعولُ أن يهيئ فينا مقاومة لمختلف أشكال احتلال دخيلتنا. فالتربية تقيم فينا ‘أناً’ سطحية تكتفي بالأعمال العادية والمفتوحة على التأثيرات البارعة في الغواية، فيما هي ‘الأنا’ تظن أنها تفكر فيها. كانَ الدينُ يلغي تجْسيد ‘الأنا’ بحجة السموّ؛ ووسائلُ الإعلام تؤثر بطريقة مماثلة لكن فقط من أجل أن تجعل ‘الأنا’ رهن إشارة رسائلها. كل شيء، في العمق، معمولٌ بأن يوجد فينا نوعٌ من الازدواج الذي، هو، بحُجّة ‘الأنا’، ما يشوش علينا. ويسْهُل هذا التحوّلُ اليومَ لأن الواقع ترك مكانه لصُوَره وأنّ هذه الصُّوَرَ تُحيل على الدوام إلى فضاءٍ أهْزلَ، هو الفضاء الذي تتحَرك فيه الحياة الاجتماعية. هُزالٌ وسرعة أنشآ عالماً يُحيل سطحُه الشفافُ كلَّ شيء بدوره إلى مرئي ومحايد. ويسمحُ هذا الحياد بأن يكون كلُّ قول وكلُّ إظهار أحسنَ طريقة لإخفاء كل شيء، بفضل اللادلالة العامة التي تقترحها الحركة العالمية للاستهلاك. فالأجسادُ استحالت الآن بدورها إلى صُوَرٍ وقد تخلصتْ من عيوب وأضرار اللحم. وتنجحُ وسائلُ الإعلام في ما أخفقتْ في تحقيقه الأديان: أيْ خلقُ عالم مثالي على أكمل وجه، يَدين فيه للفراغ ما كان العالمُ الروحيَّ يَدينُ فيه للمعنى.
سيُعتبَـر كل ما سبق مبالغاً فيه، رغم أنّ مثلاً أعلى كهذا لا يستطيع أن يتحقق دون أن يتسبب في كثير من الخسائر. هكذا فإن اللاتجسيد الاقتصادي، مثلاً، بسبب أن عهده قد لا يكون بعد الآنَ قابلا للتراجُع، يُـؤذي عدداً هائلاً من الأجساد حتى لا يستدعي فيها يقظة لطبيعتها الجسدية، التي تدخل عند ذاك في مقاومة. إن الجسدَ المرهَق يجسّد ‘أنا’ه، التي تتألم، تتمرد وتصبح سياسية. وبالتالي فإن الجسد خطرٌ على الاستبداد الاقتصادي. تأكيداً أن سلطته ، على غرار الأنواع الأخرى من الاستبداد، تعْلم أن عليها أن تُخضع لتسود دون أن تتقاسم الثروات، ولا أحدَ من أنواع الاستبداد كان قطُّ مُطالباً بتقسيم جميع الثروات مثل الاقتصاد، لكن العددَ الهائلَ من الأجساد هو بحد ذاته قوة لا يمكن السيطرة عليها. ولأن هذا العددَ من الأجساد الزائد عن الحد يمثل تهديداً خطيراً، فهو يستدعي حلاً نهائياً: إذ أنّ الاقتصاد يتوفر على الوسائل، لكنه، من دون شك، لا يجرب بعدُ ما هو ضروري منها. حرب عالمية أو إبادة جماعية: يظلُّ الاختيار مفتوحاً.
عندما يكون الحاضرُ حاضراً حقاً فإن مستقبله يكون هو الآخر حاضراً عن طريق إسقاط منطقي للمحتمل، الذي هو تحذيرٌ على الخصوص. يدرك الجسدُ امتداداً أعلى بكثير من الفضاء الذي يحتله لكنه بطبيعة الحال ينغلقُ على ذاته حتى يُدركَ ذاته بذاته. هذا الإدراك الموجّهُ نحو الباطن يظل عاماً ما دام لا يحاول أن يحس مثل ما يُحس عضوٌ معين. وإذا حاول الإدراكُ أن يتصور فضاء ذهنياً، فإنه لن يُقابلَ إلا تشوشاً شديد الاتساع حتى يبدو وكأنه بدون حدود. لكن ما هو بالضبط الإدراكُ الذي لا يقدم سوى تمثيلٍ أساسُه الهلوسة فيما هو يتجنب التمثيل اللفظي؟ لا تتأخر هذه الهلوسة عن أن تحْدُثَ فجأة وتعملَ على تحويل كل شيء لصالحها… فالجسد الذي يراقبُ نفسه يتخلصُ من واقعه الجسدي بمجرد ما يشرع في تسمية مراقبته.
لكنه يعرفه ويتبعُ بوعْي، وهو عارفٌ به، كلَّ مرحلة من مراحل الصيرورة التي تجرّه إلى تكرار وتكرار حركة من التجسيد تتحوّل سريعاً، بما هي فعلُ وعْي أوّلاً، إلى فعلٍ سياسي. لماذا سياسي؟ لأنه عبّـر عن معارضته، فيما مضى، للروحانية المهيمنة، التي كانت تفرض الرقابة على الجسدي، ويُعبّـر عن معارضته، اليوم، لسطحية وسائل الإعلام المخطط لها، كي تسهّل السيطرة على عقول الجميع. يوجد الجسد، بالنسبة لجميع أنظمة الحكم، في حالة من الزيادة عن الحد لأنه غريزي و، غالباً، متمرد. ولم تمنع أنظمة الحكم نفسَها من إغضابه لتستعبده، لكن أفضلَ وسيلة لاستعباده هو أن تحتل ما يشغله، بداخل نفسه، الذي هو ‘روحُ’ـه. لم تتنوع تقنياتُ هذا الاحتلال إلا قليلا على مدى القرون حيث كانت وسيلتهُ الأساسية هي الدين. فالهدف لم يكن يتغير: إحداثُ رضاً بالقمع، الذي انتهى بعبودية الأغلبية تجاه الأقلية المُهيْـمنة. وتاريخ هذه العبودية، المدهشة في حد ذاتها لأن الأغلبية كانت لها القوة، يتطلبُ التدوين. ثمة مقاومة أخذتْ في النهاية تـتنَـظّم ابتداءً من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وستسفر عن مكتسبات اجتماعية هائلة. والغطرسة المنتقمة التي تم بها تقويضُ هذه المكتسبات، منذ بضع سنوات باسم الإصلاحات الاقتصادية التي قيل إنه لا مندوحة عنها، تثبت الحقدَ الكاملَ للأقلية التي يتشبث نظامُ حكمها الحالي بالتراكم الرأسمالي، أيْ بالسيطرة على الاقتصاد.
حان الوقت، لا لكيْ أناقضَ نفسي، بل لأتكلمَ بوضوح عن التناقض المؤسس – أو المبدع- الذي يرى أن قناة القمع الموجودة فينا هي أيضا قناة التحرر. فـ’الروح’ هي بالفعل التي، من المحتمل ضد نفسها، توقظُ فينا الوعيَ بمصدرها الجسدي و، بالارتكاز عليها، تنمّـيها لتعترض على هيمنتها هيَ. من هنا يأتي هذا التناوبُ، وقد تمت الإشارة من قبل إليه، للتجسيد واللاتجسيد الذي هو الممارسة المادية التي من خلالها تختبر الدخيلة نفسها كازدواج بين قاعدتها العضوية (الداخل العميق) واندفاعة الانطلاق المفكر (الخارج الحميم). أعبّر عن كل هذا بطريقة مُلخَّصة لأنني، إن استطعتُ أن أتأمل جميع جوانب الغنى الواضح الذي تقدمه رحابة الثقافة لهذا ‘الخارج’، فإنني لا أملك سوى إحساس غامض بالغنى الغامض الذي تراكم في كثافة ‘الداخل العميق’. تأتي صورة، هي التي تصوّر المقارنة بين الزمن شبه الللانهائي لما قبل التاريخ والزمن، المحدود جداً، للتاريخ.
ولا بدّ من توضيح أن لـ’قناة’ القمع حظاً كبيراً في مقاومة هذه الأخيرة إنْ هي كانت تعرفُ كيف تدرك ما بداخلها وما بداخل الجسد. وأحسنُ طريقة للدخول في هذا الوعي هي، بطبيعة الحال، التعرفُ في ‘الروح’ على إنتاج للجسد، تعرّفٌ يرتكز على التربية والثقافة. فكيف لا يمكن أن ننـذهل بتقدم المكتسبات الاجتماعية ابتداء من المؤسسة المدرسة العلمانية [في فرنسا] (جول فيري) حتى سنوات 1980؟ ثم بالتدهور الموازي لهذه المكتسبات ولهذه التربية؟ إن المدرسة العلمانية لم يتم تأسيسها، كما يُعلَن، بدافع الحرص على الديمقراطية، بل لأن الصناعة كانت تحتاج إلى يد عاملة مؤهلة. ولمْ تندثر هذه الحاجة: لقدْ تقلصت إلى نخبة تعيد الطبقة الحاكمة من خلالها إعادة إنتاج نفسها فيما هم العمال والمستخدمون ليس لهم من فائدة إلا إنْ هم كانوا قابلين للعمل المرهق وبالتالي لأن يحصلوا أجوراً أدنى مما يستحقون. وتخفي الخطابات عن التربية المتساوية أكثر فأكثر إرادة تدمير هذا المصدر الخطير للوعي والفكر حتى تُسَلّم الرؤوس إلى وسائل الإعلام التي تنتهي بأن تضع فيها ‘عقولاً جاهزة’.
ويعقب وفرة المعاني، التي كانت التربية والمؤسسات التعليمية تعمل على نشرها، حرمانٌ منَ المعنى، منظمٌ من لدُن النظام الحاكم ومن لدُن عبادة استهلاكٍ، يزدادُ سطحية يوماً بعد يوم، ويتحول بالتالي إلى لامعنى. لا حاجة، من الآن فصاعداً، إلى يد عاملة: فرؤوس العمل كافية، خاصة إنْ هي قبلتْ بأن يكون توجيهُها منصبّاً على البحث النافع وحده. كونوا بَليدين هو الشعار السرّي، أيْ كونوا بليدين باستهلاك وفرة الصور التي تبعدكم، وهي تُصبُّ فيكم، عن أنفسكم. ليس للسلطة غيرُ الإخضاع. كانوا يحتاجون فيما مضى للعمال، للجنود، للموظفين، وهُمْ لم يعودوا ضروريين. لا يودُّ النظامُ الحاكمُ، وقد أصبح اقتصادياً، أن يُكوّن سوى مستهلِكين. والمستهلكُ المثاليُّ ثقبٌ لا يعي الشرط الذي هو حيناً، يلتهم السلع ويلتهم، حيناً آخر، بديلاً رديئاً للإعلام. و، في هذه الأثناء، يتدرب المرتزقة المكلفون بالقمع حتى يكونوا جاهزين للحالة التي يمكن أن يقع فيها تمرد.
الجسد هو كلُّ ما يركّبه وهو وحدة لتعدُّد الأجزاء. وهذا المجموعُ تضمنه حركة داخلية: حركة الحياة. لا تحتاجُ هذه الحركة لا إلى إرادتنا ولا إلى وعْينا ليشتغل الأساسي: أيْ نبضاتُ القلب، التنفسُ، الدورة العصبية أو الدموية، بل إنّ هذا الذي يجعل منا أحياءَ ينتقل إلى داخلنا بغير تدخل من طرفنا. إنّ القاعدة العضوية لدخيلتنا غريبة عنا. فلا بد من أنْ نتدرّبَ على التفكير في هذا التناقض الأساسي، وهي طريقة للاقتراب من إدراكنا، مما يؤدي إلى احتمال معاينة أنّ حياتنا الشخصية تختفي، في اللحظة ذاتها التي تتم فيها هذه المعاينة، عمّن يعيشها.
اسمٌ مُغْــفلٌ غريبٌ لهذه الحياة التي هي حياتي دون أن تكون حياتي يفرض عندئذ نفسه و، فيما يتدفق إحساسٌ بانتزاع جذري، ها هي ذي كتلة عضوية – هي جسدي الشخصي- تصبح فريدة ولهذا السبب شخصية. إنه تناقضٌ إضافيٌّ بين ما يجعل مني كائناً حيّاً، ومبدؤه لا نهاية له، وبين الفاني الحي الذي يصنع مني جسدي. لكنْ هل هذا أكثر تناقضاً من أن تَسكُنَ في ذاتي، بعد أن أُعْطيَتِ الروحُ ميلاداً وعناية، هذه ‘الروحُ’ التي لا تتوقف عن اللاتجسُّد؟ إن الجسد (جسدي) وهو مشدود بين هاتين القوتين، بين أن يحسّ بغتة كثافته الداخلية (دخيلته) كمكان لتوتر يعطي التوازن للحياة التي هي في ذاتها غير شخصية وبين الذهنية التي هي في ذاتها شخصية. وها كيف يفرض اليقينُ المزعجُ في هذه الحالة نفسَه بأنني أدين لوجودي لمنْ لستُ أنا، في حين أنني أصبح ذاك الذي هو أنا من خلال هذا الوعْي.
علاقة متناقضة وضرورية تدعُو إلى أن تسري في لحمي شهوة التعبير: إنه المعنى (الحركة) قبل أن أستطيع إظهار الـ معنى وقد تـلفظتهُ الكلمات. إن الفضاء الذهني موجّهٌ على هذا النحو بالحياة التي تمنحها له الـ حياة، باتجاه الفكر الذي سيتفكّرها فيما هو يستـقل في ذاته عنها. استقلالٌ سيتأكد بخلق موادَّ هي أشياءُ محسوسة، مصنوعة بدورها من مادة، جسدُها من لغة (أو من رسم، موسيقى، حجر…)، ومن ذهنية هي ‘روحـ’ها. وهذه الأشياء المحسوسة تملك كذلك مظهراً، هو خارجُها، ومضموناً، هو داخلُها. إنها إذن تتوفر على حركة باطنية، تنتشر، بفعل تمرْئيها ومقروئيتها، فضاءاً مرئياً ولا حدود له، يعادل الـ حياة.
يتقدم التناقضُ الجديد بين ما هو، فينا، لا يتجسد، وهو ذهني، وبين القدرة على امتلاك ذهنية إبداع ‘تجسدات’ في ‘أشياء محسوسة’ قادرة على أن تربط معَنا علاقة جسدية. والتبادل الذي يحْدُث بواسطة النظر يقودُ، عند التماسّ به، إلى فتح فضاء تتجاوب فيه دخيلة القارئ (أو المشاهد) مع الدخيلة التي كانت وُضعت في الشيء الحسي- العمل. وكلما استمرّ هذا اللقاءُ، ومجهودُ الفهم الذي يَبْنـيه، حصل تقاسمُ قلب المظهر بفعل نفاذٍ متبادَل. ليست هذه صورة ولكنها محاولة وصفِ عمليةٍ محسوسةٍ نادراً ما تم وصفها كما هي فيما هو إدراكها (إدراك حجْمها المادي) يقاومُ السطحية التي تقيمها سلعة الصور في مجتمع الاستهلاك.
بمجرد ما يجعلك مجهودٌ تدخلُ إلى مكان يتكوّن فيه التمثيل فإنه بدلا من أن تستهلكَ هذا التمثيلَ كفرجة مفصولة عن أصلها، تحْضرُ كثافة مضيئة، تحيط بك وبعد وقت قصير تصبح جسدية. ثمة الجسد و، فيه، اللامرئيُّ الذي يرفض أن يسلم مكانه للسلعة البصرية. إن الجسد مُعْـتمٌ : فهو ليس الوجهَ الشاحب والمثقوبَ الذي تغور فيه الصور، إنه يتوفر على ظهرٍ يعكس، نحو الداخل الذي يمسك بفضائه، نحو ظل عميق تنفتح فيه بئر عن طريقها يصعد الكلام.
نفهم عند ذاك بطريقة ضمنية أن مُستودَعاً حيويّاً ينبعث من تنظيم الأعضاء. وقد حاولتُ من جهة أخرى أن أعبّـر عن طبيعته عندما كتبتُ أن قوتين فينا كامنتـيْن لكننا لسنا المستقبلين الخاصين لأيٍّ منهما. الأولى هي قوة النوع التي لنا مهمة إعادة إنتاجها؛ والثانية، قوة اللغة، التي هي بدورها لنا أيضاً مهمة دوامها.
علينا ألا ننسى أن النوع سابقٌ بما لا حد له على اللغة وأنه يُخفى منبعها في عمقه الغامض. وبقدر ما أنّ كل يقين ملغى بقدر ما علينا أنْ نحلمَ، وأن أحلمَ بتكوين الفضاء الذهني عن طريق صبّ المرئي داخل الجسد. وفي نهاية المطاف، تجعلنا عيوننا نتـنفسُ الرؤية كما، في مدار آخر، نتـنفسُ الهواء. هذا التـنفسُ البصريُّ يضمن تواصلنا مع العالم لكنه يسمح أيضاً بأن نحْصرَ ذهنيـتنا في القناة نفسها. يتحرك في داخلنا على الدوام تناقضٌ يُقوّينا حيناً و، حيناً، يُوهننا إنْ نحن لم نجعلْ منه سلاحاً لمقاومتنا. فأنْ تحسَّ وتعرفَ، هذان هما أساسُ سياسة الجسد.
* نص التقديم الذي خص به برنار نويل الجزء الثاني من أعماله الكاملة، الصادر بعنوان ‘انتهاك الكلمات’ LOutrage aux mots، عن دار بول بباريس، في مارس 2011.
** عنوان أول ديوان لبرنار نويل، صدر سنة 1956. وتوجد ترجمة لأغلب قصائده في ‘هسيس الهواء’، أعمال
القدس العربي