سيناريوهات الحرب المقبلة بين تركيا و”وحدات حماية الشعب”/ خالد الخطيب
على الرغم من توقف الغارات الجوية التركية ضد معاقل “وحدات حماية الشعب” منذ الثلاثاء، إلا أن المقاتلات الحربية وطائرات الاستطلاع والمروحيات التركية ظلت تحلق في الأجواء الحدودية، وتخترق بين الحين والآخر الأجواء السورية التي تقع تحت سيطرة “الوحدات”. تحليق الطيران التركي تركز في ثلاث مناطق؛ الشريط الحدودي شمالي الحسكة ومنطقة تل أبيض والشريط الحدودي شمالي وغربي عفرين في ريف حلب الغربي.
القصف التركي خلال الساعات الـ48 الماضية قتل وجرح أكثر من 15 عنصراً من “الوحدات” في مواقع متفرقة استهدفتها المدفعية والراجمات التركية، وشمل مواقع تمركزها في محيط قرى جنديرس وراجو وبلبل وحاج خليل وشيخ الحديد ودير بلوط، وغيرها من القرى التابعة لمنطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي. القصف التركي استهدف أيضاً أبراج المراقبة والنقاط العسكرية المتقدمة فوق التلال التابعة لقرية راجو القريبة من الحدود التركية.
وردت “الوحدات” على قصف الجيش التركي المتواصل بقصف مواقعه بالهاون والصواريخ الحرارية التي أطلقت العشرات منها لعرقلة تمركز تعزيزات القوات التركية التي وفدت بكثرة خلال الساعات الماضية نحو المناطق الحدودية المقابلة لمنطقة عفرين. التعزيزات التركية امتدت لتشمل قواعدها العسكرية في ريف حلب الشمالي، حيث استقدمت أرتالاً جديدة من المدرعات وقواعد المدفعية والتي تم نشرها في مواقع متعددة على خط التماس مع الوحدات بين مدينتي مارع وإعزاز شمالي حلب. النيران التركية ضد معاقل “الوحدات” انطلقت أيضاً من قواعدها العسكرية في ريف حلب الشمالي مستهدفة القرى التي تسيطر عليها “الوحدات” غربي إعزاز وتل رفعت ومطار منغ العسكري.
كما شمل القصف المدفعي التركي مواقع “الوحدات” في مدينة رأس العين في ريف الحسكة، وريف مدينة تل أبيض. وتناقل ناشطون مقطعاً مصوراً لـ”الوحدات” يظهر فيه استهدافها لمرابض المدفعية التركية على التلال المقابلة لمدينة تل أبيض، لكن لم يعرف ما إذا كان الاستهداف قد أوقع خسائر في صفوف القوات التركية.
الناشط سراج الحسكاوي أكد لـ”المدن” أن الغارات الجوية التركية، الثلاثاء، كانت قاسية جداً على “وحدات الحماية” واستهدفت مقرات قيادة وعمليات في قره تشوك بمنطقة المالكية في ريف الحسكة، وتسببت بمقتل قيادات مرموقة في المليشيا. وأوضح الحسكاوي أن المقاتلات التركية وطائرات الاستطلاع لا تزال تنفذ طلعاتها الجوية في المنطقة وهناك احتمال كبير لتكرار الضربات على الرغم من أن “الوحدات” قد بدأت فعلاً باتخاذ إجراءات الحماية والتمويه بعد الضربة الأخيرة.
وأضاف الحسكاوي أن التصعيد التركي والقصف المتصاعد والتلميحات بقرب خوض معركة ضد “الوحدات” لقي ترحيباً واسعاً بين أبناء المناطق التي تسيطر عليها “الوحدات” من مختلف القوميات وبات الناس هنا يعلقون آمال كبيرة على الخطوات التركية اللاحقة التي من شأنها بحسب اعتقادهم أن تقلص دور المليشيات في مناطقهم وتنهي دورها بشكل كامل في المناطق الحدودية. وأكد الحسكاوي أن عدداً من القرى والبلدات القريبة من الحدود التركية، في ريفي رأس العين والدرباسية شهدت نزوح المئات من المدنيين خلال الساعات الماضية على خلفية استمرار القصف التركي. وتركز نزوح المدنيين بشكل خاص من المنازل والمزارع القريبة من المواقع والثكنات العسكرية التابعة لـ”الوحدات”.
وتشير التطورات الأخيرة في الشمال السوري إلى قرب انطلاق عملية عسكرية تركية ضد معاقل “وحدات حماية الشعب” الكردية، الذراع العسكرية لحزب “الاتحاد الديموقراطي”، إذ شهدت الأيام الثلاثة الماضية قصفاً جوياً ومدفعياً تركياً متصاعداً شمل معظم المدن والبلدات التي تسيطر عليها “الوحدات” قرب الحدود السورية–التركية، من الحسكة شمال شرقي سوريا حتى راجو شمال غربي عفرين في ريف حلب.
وتزامن ذلك مع حراك ديبلوماسي تركي وتصريحات توحي بقرب المعركة وحتمية انطلاقها، نظراً لما تمثله “الوحدات” من خطر على الأمن القومي التركي، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك. وتعتبر تركيا “وحدات الحماية” امتداداً لحزب “العمال الكردستاني” الذي تخوض معه حرباً منذ 40 عاماً. وتزامن ذلك أيضاً مع موقف أميركي غامض إزاء التطورات المتسارعة، ما أصاب “الوحدات” بخيبة أمل جعلتها تُطلق تصريحات تهدد فيها تارة بانسحابها من معركة الرقة وتارة تستجدي العطف الأميركي للضغط على تركيا لوقف التصعيد وفرض حظر جوي لمنع طائراتها من التحليق في أجواء المناطق التي تسيطر عليها شمالي سوريا.
وصف الأميركيين للضربات النوعية التي نفذها الجيش التركي ضد معاقل “الوحدات” في ريف الحسكة بـ”المقلقة” أقلق الوحدات، وأثار لديها مخاوف جدية من احتمال تحول التهديدات التركية إلى واقع.
الضربة الجوية التركية الموجعة للوحدات في ريف الحسكة لا تعني بالتأكيد أن المنطقة المستهدفة أو الشريط الحدودي المقابل لمحافظة الحسكة سوف تكون محوراً للعملية البرية التركية المفترضة، وذلك لاعتبارات عديدة أهمها التعقيد الذي تتميز به المنطقة هناك والتي تتقاسمها “الوحدات” مع النظام، كما أن مركز الثقل البشري والعسكري لـ”الوحدات” يتركز في محافظة الحسكة من المالكية شرقاً وحتى رأس العين في الغرب، مروراً بالقامشلي، وعامودا.
ومن المرجح أن تكون مدينة تل أبيض وريفها الشرقي والغربي هي المحور الأوفر حظاً بالنسبة للجيش التركي والمعارضة المسلحة لشن معركة ناجحة بكل المقاييس، ويمكن من خلالها تحقيق العديد من الأهداف العسكرية والجيوسياسية، بسبب قربها من مدينة الرقة التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإٍسلامية”، وتحكمها بعقدة مواصلات حدودية. وتُمكّنُ السيطرة على تل أبيض والتوغل جنوبها، الجيش التركي والمعارضة المسلحة، من تقطيع أوصال مناطق سيطرة “الوحدات” شرقي نهر الفرات والتي تتوزع بين أرياف حلب والرقة والحسكة. وذلك إذا ما قرر الجيش التركي جعل محور الاقتحام واسعاً ليصل بين مدينتي تل أبيض ورأس العين بخط عرض 115 كيلومتراً تقريباً.
وما يعقد الوضع أكثر أن التعاون بين النظام و”الوحدات” يسير بخطى متصاعدة. صفحات ومواقع كردية أكدت أن النظام أخبر القيادة العامة لقوات “وحدات حماية الشعب”، الأربعاء، بأن طائرة استطلاع تركية التقطت الثلاثاء صوراً لمراكز أمنية استراتيجية تابعة لـ”الإدارة الذاتية” في مدينة القامشلي هي؛ مركز “هيمو” لـ”وحدات حماية الشعب” ومقر القيادة العامة لقوات الأمن “الآسايش” بالقرب من دوار سوني، ومراكز أمنية أخرى في حي العنترية. وكان النظام، بحسب تلك المواقع، قد أبلغ “وحدات الحماية” بأن سرباً من الطائرات التركية سيشن غارات جوية في منطقة ديريك، قبل غارات الثلاثاء، إلا أن “الوحدات” لم تأخذ تلك المعلومات التحذيرية بجدية، معتمدة على وجود قاعدة عسكرية أميركية قريبة من مراكزها الاستراتيجية في ديريك.
وتأتي هذه التطورات في الوقت الذي تستمر فيه المفاوضات بين “لواء المعتصم” ممثل المعارضة المسلحة في ريف حلب مع “وحدات الحماية” بشأن انسحابها من تل رفعت و10 بلدات أخرى وتسليمها للمعارضة. المفاوضات تبدو متعثرة، و”وحدات الحماية” منقسمة على نفسها بين شرقية تمثل قيادة “الوحدات” في الشرق السوري وهي الحليفة للولايات المتحدة وغربية في الشيخ مقصود وعدد من الأحياء داخل مدينة حلب وعفرين وريفها وهي الحليفة لروسيا. الانقسام لم يعد يرضي الإدارة الأميركية، وكان من نتائجه التطورات الأخيرة والتصعيد التركي الذي لا يُمكن أن يكون إلا بعلم الأميركيين.
احتمال فشل المفاوضات بشأن تل رفعت وقرى ريف حلب الشمالي قد يُشكل بدوره فرصة للمعارضة لفتح جبهة ضد “الوحدات” في ريف حلب الشمالي لا يقل طولها عن 20 كيلومتراً تستهدف المناطق التي احتلتها “الوحدات” شرقي عفرين، وربما التقدم أكثر باتجاه مناطق في عمق منطقة عفرين غربي طريق حلب–غازي عينتاب الدولي.
ويبقى لدى تركيا جبهة ثالثة من المحتمل أن تشهد عملية عسكرية محدودة في ريف عفرين الغربي المطل على ريفي ادلب وحلب الغربي، ومن المتوقع أن تكون المناطق من راجو وصولاً إلى معبر أطمة المحور الرئيس للعملية، وهدفها أن تصل في العمق شرقاً حتى دارة عزة وقبتان الجبل والتلال في محيطهما. هذا المحور يمثل خياراً استراتيجياً للمعارضة بشكل خاص إذا ما أرادت أن توقف تطلعات إيران والنظام وروسيا التي ترغب في الوصول إلى مشارف إدلب. ويُمكن العمل على هذا المحور تركيا من حصار “الوحدات” في عفرين التي لا يبقى لها سوى طريق بري مع النظام في حلب، ومنها نحو شرق سوريا.
متنوعة هي خيارات تركيا وفصائل المعارضة المسلحة التي تنتظر بفارغ الصبر اطلاق معركة جديدة بعد اعلان نهاية “درع الفرات”. وهي منذ ذلك التاريخ لم توفر أي جهد في التحضير لانطلاقة جديدة، من حيث التدريب والتطوير لكوادرها وإعادة هيكلة فصائلها المسلحة تنظيمياً وضم المزيد من المقاتلين إلى صفوفها. فهل سوف يحالف الحظ تركيا وحلفائها، إلى أن تنطلق المعركة بالاستفادة من تعقد العلاقات بين الأطراف في الشمال، والتقارب التركي-الأميركي، ونجاح الاستفتاء في تركيا؟ وهل يمكن القول إن المعارضة وتركيا قد ضمنتا بالفعل مقعدهما في معركة الرقة ضد “الدولة الإسلامية”، أم أن للأطراف الأخرى، روسيا وإيران والنظام، والولايات المتحدة الأميركية أقوالاً أخرى قد تغير مسار الأحداث؟
المدن