“سيناريوهات” مختلفة للمستقبل السوري –مقالات محتارة-
خيار الأسد المنزوع الرأس…/ عمر قدور
لنتخيّلْ حلاً في سورية يتوافق عليه الروس والأميركيون، وتساهم إيران في تنفيذه، ينص على انقلاب على العائلة الحاكمة، وتنصيب ديكتاتور يحظى فوراً بمباركة دولية عبر مجلس الأمن، وبدعم مماثل تحت يافطة مكافحة الإرهاب. ثم، يُطلب من كافة القوى المسلحة على الأراضي السورية تسليم أسلحتها للسلطة المركزية، أو اعتبارها مجموعات خارجة على القانونين المحلي والدولي، وتستمر محاربتها التي قد تستلزم سنوات أخرى بدعم أميركي وروسي وغربي، مع الضغط على الدول الداعمة لها، بعد أن أصبحت بدورها في موقع الدول الداعمة للإرهاب.
سيعني السيناريو السابق أن محصلة الثورة والصراع أتت بديكتاتور مكان الطاغية القديم، لكن هذه المرة تحت ذريعة مقبولة عالمية، هي عدم وجود أفق لإنهاء الصراع سوى وجود سلطة تتمتع بصلاحيات استثنائية، وستكون الأمثلة المصرية والليبية واليمنية حاضرة كناية عن استحالة البدء بالتحول الديموقراطي. فوق تلك الأمثلة، يتميز الوضع السوري بقدر أكبر من التشظي على الصعيدين العرقي والطائفي، ما يسمح ضمناً بتمرير استحالة تطبيق الديموقراطية وفق نموذجها الأصلي، أو حتى على النموذج التوافقي الذي لا يظهر بعيداً عن الاحتراب في العراق أو لبنان.
القسم الوحيد الذي قد ينال وضعاً خاصاً ضمن الكيان السوري الجديد هو القسم الكردي، وقد تساعد وضعية إقليم كردستان العراق على تقديم إطار مشابه للأكراد السوريين بدرجة استقلال أقلّ ربما. لكن الميزة الأساسية للأكراد التي ستمكنهم من تعزيز استقلالهم ليست، حسبما يُشيعه بعض العرب، محض انحياز غربي لهم أو شيئاً من قبيل المؤامرة، فهي تتعلق بالدرجة الأولى بوجود قوة ديكتاتورية وحيدة، غير إسلامية، مسيطرة على المناطق الكردية وتحظى بنسبة قبول جيدة من الأكراد. ميليشيات الحماية الشعبية الكردية، فضلاً عن عدم دخولها في صراع عسكري ضد النظام وحلفائه، قد تكون الأكثر قابلية للتنسيق مع الجهود الأميركية، خاصة مع تعثر الأخيرة في استقطاب متطوعين عرب «سنة» ضمن برنامج التدريب في تركيا والأردن.
على المقلب العربي «السني»، الأمر مختلف تماماً، فباستثناء سيطرة داعش على مساحة واسعة من الأراضي لا توجد سلطة أمر واقع مقبولة تفرض نفسها على الأرض وعلى المجتمع الدولي قبل المحلي. هناك العشرات من الفصائل ذات الميول والأهداف المختلفة، نسبة كبيرة منها تخضع لاعتبارات التمويل، ومهما أبدت من تنسيق عالٍ في المعارك الأخيرة يبقى التنسيق خاضعاً لاعتبارات الداعمين أكثر من خضوعه للضرورات الداخلية. هناك أيضاً تمايزات مناطقية بين الفصائل، والجهادية من بينها أثبتت قدرة أكبر على التوسع في مختلف المناطق. الجيش الحر لم يكن في أي يوم سوى تسمية مجازية لفصائل مبعثرة هنا وهناك، أما القيادات العليا التي جُرّبت من رئاسة أركان أو مجالس عسكرية فثبت أنها غير قادرة على الاضطلاع بدور إداري فضفاض حتى. بالطبع، جبهة النصرة وحلفاؤها غير مقبولين دولياً، على رغم ما يُفهم من رضى دولي عن انتصاراتهم الأخيرة، إنما ذلك يتوقف عند عتبة الضغط على النظام ومن المستبعد السماح بتثمير هذه الانتصارات مستقبلاً.
لا ينطلق خيار الإبقاء على نظام الأسد بعد نزع رأسه من أرضية أخلاقية أو حقوقية، وهو أشبه بما اعتاد السوريون على سماعه من التفاضل بين خيارين سيئين، بدءاً من شعار النظام «الأسد أو نحرق البلد» ثم «إما الأسد أو داعش». خيار الإبقاء على النظام يعتمد وعيداً واقعياً مشابهاً، فإما نظام قوي أمنياً ينخرط في الحرب على الإرهاب أو تبقى سورية ساحة حرب وصولاً إلى استنزاف الجميع. إما سورية موحدة، حيث فقط النظام الأمني يضمن القضاء على المجموعات الإرهابية والتخلص من فوضى السلاح، أو بقاؤها لمدة قد تطول في ما دون التقسيم الرسمي الذي دونه حرب الجميع على الجميع.
مشكلة سورية أن الاستثمار في الحرب فيها أكبر مردوداً من الاستثمار في التغيير وإحلال السلام، وإذا تذكرنا أن النظام قد وضعها أصلاً في دائرة النفوذ الإيراني المطلق قبل الثورة، فإن كافة القوى المنخرطة في الحرب على النظام ليس لديها ما تخسره في الحرب. جزء لا يُستهان به من اللامبالاة الغربية تجاه سورية أنها لم تكن يوماً في دائرة النفوذ الغربي، وفي ظل انحسار الصراع العالمي على مناطق النفوذ لا تملك قيمة استراتيجية استثنائية تدفع الغرب إلى التدخل، لذا لا أمل إطلاقاً بمظلة غربية تحرض على تغيير جوهري، ومن نافل القول أن الغرب لن يتطوع بالوصاية المباشرة على سورية حتى تُنجز فيها مرحلة التحول. للغرب مصلحة وحيدة أكيدة هي ألا تنتشر الفوضى السورية بحيث تهدد الاستقرار الدولي، وألا تغنم المنظمات المتطرفة السلطة على نحو ما فعلته طالبان في أفغانستان.
إذاً، العبرة لدى دوائر القرار الغربية لم تكن يوماً في قوة أو ضعف النظام، أو في عدم قدرته على الصمود لولا الدعم الخارجي، فالأهم أنه على رغم خسائره الباهظة وتراجع سيطرته على الأراضي إلى ربع المساحة السورية، لم يتصدع من داخله، ولم تنقسم جبهة مؤيديه وتتشتت ميدانياً. بهذا المعنى فحسب، تبدو سلطة الأسد نظاماً بالمقارنة مع فصائل المعارضة المسلحة وتشكيلاتها السياسية، ويبدو كأنه الخيار الواقعي الوحيد فيما لو أُعيد تأهيله. الانتصارات أو الخسائر العسكرية الموضعية لا قيمة كبيرة لها في هذا الميزان، طالما بقيت الجبهة المقابلة للأسد غير موحدة وغير متفقة الأهداف باستثناء ما تعلنه من عزمها على إسقاط النظام.
أن يكثر الحديث عن التقسيم في الآونة الأخيرة فذلك لا يدلل على اقترابه، إلا إذا انعقدت النية على نشر الفوضى في المنطقة، وهنا أيضاً يصعب توافر حماية دولية لمشروع تقســيم سورية وحدها. الكرة لا تزال في ملعبي داعمي المعارضة وحلفاء النظام، المطلوب من المعارضة وداعميــها لملمة تشـــتتها وإظهار «الكفاءة» لتشارك في النسخة المنقحة من النظام، والمطلوب من حلفاء النظام التضحية برأسه. جنيف جاهزة للاستقبال عندما «ينضج» الطرفان، والسلاح غير الحاسم جاهز لمن يريد مهلة قبل الوصول إليها.
إعادة رسم خريطة المشرق/ لؤي صافي
إنطلق الربيع العربي لتحقيق أهداف محلية محدودة تتعلق بتحسين ظروف الحياة وإنهاء حالة الاستبداد والفساد داخل حدود دُولِه، ولكن تحركات الشعوب الغافلة عن السياق التاريخي العام والتحولات الدولية التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي لم تكن تتوقع أن تؤدي تحركاتها إلى تداعيات ذات مدى بعيد وتغيرات عميقة في الوضع الإقليمي وارتداداته الدولية.
ثمة اليوم خمسة مشاريع لإعادة ترتيب الأوراق السياسية في المنطقة، تتمركز في خمس عواصم: طهران وأنقرة وأربيل والرياض والقاهرة. هذه المشاريع متناقضة لأنها في مجملها تقدم بعد الهوية القومية والعقدية على بعد القيم والمبادئ الإنسانية التي تقوم على أساسها التجمعات الحضارية الواسعة.
تزايد حدة الصراعات القومية والطائفية نتيجة حالة الغليان الشعبي في بلدان الربيع العربي أوجد ظروفاً شجعت أصحاب المشاريع الخمسة للمضي في تحقيق أهدافهم، وفتح الباب على مصراعيه أمام القوى الدولية، التي تميل إلى المشروع الذي يمثله محور القاهرة، إلى اللعب على الاختلافات القومية والطائفية في المنطقة. تركيا التي سعت جاهدة إلى تحجيم التناقضات وتطوير تفاهمات إقليمية تحصن المشرق من التأثيرات الخارجية تجد نفسها اليوم في قلب المعمعة.
المشرق مقبل على مرحلة طويلة من القلاقل والصراعات التي يصعب الآن التنبؤ بمآلاتها، ولكنها بالتأكيد ستعيد تشكيل الخريطة السياسية لبلدان المشرق، وستفتح الباب لظهور قوى جديدة ما زالت حتى الآن مغيبة تحت ثقل المنظومة السياسية التي رسمت في أروقة عصبة الأمم في مطلع القرن الماضي.
لكن خلافاً للخريطة السياسية التي رسمت في قلب أوروبا في القرن المنصرم فإن الخريطة التي ترسم اليوم تقوم على مشاريع تصنع في أغلبها داخل حدود المشرق. هذا يعني أن التطورات السياسية الجارية تسير في منحى معاكس تماماً لما جرى قبل قرن لأن مركز الهزات التي تتوالى اليوم يقع في قلب المشرق في حين ستظهر ارتداداتها داخل المنظومة الدولية المهيمنة، وسيتناسب حجم الارتدادات طرداً مع قوة وعمق الهزات التي تعيشيها شعوب المشرق.
الاهتزازات العميقة والشديدة التي تواجه القوى السياسية في دول المشرق أكبر من أي منها، والوصول إلى صيغ تخدم مصالح الشعوب يتطلب من القيادات الشعبية الارتفاع فوق المصالح الآنية الضيقة، وهو أمر ما زال عصيا على الجميع. المطلوب العمل على تحقيق دولة القانون التي تحمي الجميع، وتتساوى تحتها الشعوب، بدلاً من المضي لتحقيق مشاريع حصرية ستؤجج الصراع إلى عقود. السعي لتحقيق رؤية جامعة للتنوع المشرقي واجب على الجميع لأنه واجب وطني وقومي وديني وإنساني.
* كاتب سوري
الحياة
بلقنة المشرق العربي/ بشير البكر
قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، كان الرئيس الراحل، ياسر عرفات، يحذر باستمرار من بلقنة المنطقة. ولم يكن أحد يأخذ تصريحاته على محمل الجد، في وقت كانت فيه الحرب الباردة لا تزال تعمل بجدارة، ولم يصبح كلامه واقعاً، حتى تمت بلقنة البلقان نفسه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان من نتائجه تفكك دولة يوغسلافيا.
لم يكن عرفات يعني بتحذيره منطقة البلقان، بل منطقة الشرق الأوسط، التي كان يتوقع له مصيراً مشابها لما عرفته دول البلقان، التي كانت خاضعة للامبراطورية العثمانية، حيث تم تقسيمها وتفتيتها بعد الحرب العالمية الأولى إلى دويلات أصغر، إثنية متعادية ومتحاربة فيما بينها.
ما يعنيه المصطلح بدقة هو نهاية الدولة المركزية، والأمر الذي يهمنا، اليوم، هو المؤشرات الخطيرة إلى اقتراب انهيار الصيغة التي خرج بها اتفاق سايكس-بيكو بين فرنسا وبريطانيا، قبل قرن، بالنسبة لمنطقة المشرق العربي، والتي تم، بمقتضاها، رسم حدود قسرية ضمن إطار إداري وسياسي لكل دولة من الدول الجديدة.
ما يحدث في العراق منذ الاحتلال الأميركي سار في طريق البلقنة، وكان تعبيره الصريح لعبة المحاصصة التي وضع أسسها المندوب السامي الأميركي، بول بريمر، تحت مسمى العملية السياسية. وقد حاولت الولايات المتحدة أن تسوّق التقسيم في صيغ دستورية، لكنها فتحت الأبواب أمام خلافات بين مكونات البلد، قادت، في نهاية المطاف، إلى حروب بين السنة والشيعة، وبين الأكراد والعرب، ووصلت النزاعات عشية اجتياح “داعش” الموصل، قبل عام، إلى حرب بين رئيس الوزراء العراقي في حينه، نوري المالكي، والمكون السني، الأمر الذي فتح الطريق واسعا أمام “داعش”.
نصَّ الدستور العراقي، الذي رعاه الأميركيون، على دولة اتحادية، لكن التطورات منذ عام لم تبق منه سوى مؤسسات شكلية، كرئاسة الوزراء والبرلمان، لا تتجاوز حدود عملها تصريف الأزمات وإدارة النزاعات بين المكونات في حد أدنى، وبضغوط وضوابط أميركية، في حين أن وحدة البلد صارت أمراً بعيد المنال، وزادت في الطين بلة الحروب التي أشعلها وجود “داعش” والتدخلات الإيرانية، والنتيجة أن مجرى التطورات لا يبشر إلا بالأسوأ، وصار جمع العراقيين في بلد واحد حلماً بعيد المنال.
لا يختلف الأمر في سورية، من حيث النتائج، فالتشظي هو السمة العامة للوضع السوري، الذي بات أكثر تعقيداً من نظيره العراقي. فنحن، اليوم، بعد أربع سنوات على الثورة السورية أمام خارطة معقدة ومتداخلة، تبدو أمامها الخارطة العراقية أكثر وضوحا بكثير. في الشمال الشرقي، يوجد الاكراد والنظام و”داعش”. وفي الرقة وبعض مناطق من ريف حلب، يسيطر “داعش”، وحلب المدينة مقسومة بين النظام وفصائل إسلامية. وفي إدلب، فصائل إسلامية بما فيها فرع تنظيم القاعدة (جبهة النصرة). وفي محيط دمشق، فصائل إسلامية. وفي الجنوب، جيش حر وفصائل إسلامية والنظام. وفي السويداء، بقايا النظام وفصائل معارضة. وتتصارع في القلمون جميع الأطراف، بينما دمشق العاصمة والساحل تحت سيطرة النظام، ويضاف إلى ذلك قوات لحزب الله وفصائل عراقية مناصرة للنظام. ويتسم هذا الخليط بسمتين عامتين. الأولى، فقدان التجانس، حتى أن العداء للنظام لا يمكن أن يوحد خصومه. والثانية، أن لكل مكون أجندة خاصة. ولكن مسار الحروب المتنقلة لا بد من أن يُفضي، في نهاية المطاف، إلى بقاء القوى الكبرى، وهي النظام و”داعش” وجبهة النصرة والفصائل الإسلامية والجيش الحر والأكراد، وهذه المكونات لا يمكن أن تتعايش في المدى المنظور، وهي تتقاتل، اليوم، على رسم الحدود فيما بينها.
فوق هذا كله، بتنا اليوم في العراق وسورية نتسابق إلى الهاوية، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من وضع قد يكون أسوأ بكثير من بلقنة الامبراطورية العثمانية قبل قرن.
العربي الجديد
عالمٌ متحرّك/ سمير العيطة
ما زالت النظرة إلى السياسة الدوليّة، خاصّة في البلدان العربيّة، مشبَعة باعتقادات تنتمي إلى حقبة الحرب الباردة ذات الاستقطاب الثنائي. لكن العالم تغيّر كثيراً منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأضحت التعدديّة القطبيّة سمته الرئيسة، وغدت التحالفات فيه معقّدة ومتحرّكة دوماً، وبات أكثر تعرّضاً لعدم الاستقرار، في حين تبحث الدول عن إرساء علاقات إستراتيجيّة متعدّدة التوجّهات تحفظ مصالحها وأمنها القوميّ.
الصين لها علاقات إستراتيجيّة مع السعوديّة التي تغذّيها بالنفط وتفتح لشركاتها ولمنتجاتها أسواقاً اقتصاديّة، وهي حريصة أيضاً على أن تكون علاقاتها مميّزة مع إيران بحيث تمدّها بالسلاح والتقنيّات، وقد استخدمت «الفيتو» ضد قرارات لمجلس الأمن كانت السعوديّة قد دفعت إليها. وتحرص تركيا وإسرائيل على علاقات نوعيّة مع روسيا مع أنّهما، كما يسمّى في العرف السياسيّ القديم، حليفتان إستراتيجيّتان للولايات المتحّدة.
بعض مراكز الأبحاث وصنّاع الرأي في أميركا يُساهمون أيضاً في خلق أوهامٍ تنتمي إلى حقبةٍ خلت. فهم ينتقدون سياسات أوباما، ويمنّون أنفسهم بأنّ الرئيس القادم بعده سيُبرِز بلاده من جديد كقطبٍ وحيد يفرِضُ ما يريده على العالم ويدافع بجيوشه عن مصالح حلفائه ضدّ خصومه. خلق الأوهام مفهومٌ عاطفيّاً، لكنّه بعيد عن الواقع، ويُمكن أن يأخذ بعض الدول والقوى التي تعيش تغيّرات جيوسياسيّة كبرى إلى سياسات قد تهدّد مصالحها بل استقرارها على المدى المتوسّط.
من هنا يأتي اندفاع العربيّة السعوديّة لإرساء علاقات نوعيّة مع روسيا كخطوة طبيعيّة، كانت ضروريّة منذ زمنٍ طويل. ولا ينبغي النظر إليها كتحدًّ للولايات المتحّدة، بل كنتيجة طبيعيّة للقاء كامب ديفيد الأخير، وكأمرٍ يُمكن البناء عليه في سياق خلق منظومة استقرار في الخليج الذي يتشاطر فيه العرب مع الفرس، خاصّة أنّ البديل هو ذهاب السعوديّة بعيداً في منظومة أمن إقليميّة، تكون إسرائيل هي العنصر الأساسيّ فيها.
بالمقابل، لا يُمكن التوصّل إلى حلّ لصراعٍ في اليمن أضحى يهدّد استقرار الخليج على المدى الطويل من دون توافقٍ سعوديّ – إيرانيّ مدعّمٍ بتوافقٍ بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وإلاّ فستأخذ السعوديّة نفسها، كما الولايات المتحّدة في عهد بوش، إلى مستنقع اضطرابات قد تنتج ما هو أسوأ من «داعش». كذلك لا يُمكن أن تبدأ التحّولات التي ستأخذ إلى دحر «داعش» في العراق وسوريا إلاّ من خلال توافق سعودي – إيرانيّ – تركيّ، يؤسّس لما بعد «دولة الخلافة» هذه، التي يعرف قادتها جيّداً كيف يلعبون على صراعات إقليميّة متعدّدة الأقطاب. والأمر سيّان بالنسبة لإنهاء الصراع في سوريا، الذي لا يُمكن أن يأتي من دون توحيد الجهود ضدّ «داعش» وحلّ معضلة تحالف قوى في المعارضة السوريّة (وقوى إقليميّة أيضاً) مع «جبهة النصرة» المرتبطة بـ «القاعدة».
في هذا العالم المتعدّد الأقطاب، تبرز التنظيمات المتطرّفة كأدوات تستخدمها الدول كي تقوّض الاستقرار عند خصومها. إلاّ أنّ هذه السياسات التي دشّنتها الولايات المتحدة في أفغانستان تؤدّي إلى كوارث. فثمن هذه اللعبة أميركيّاً كان اعتداءات 11 أيلول، الأولى والأهمّ تاريخيّاً على الأرض الأميركيّة البعيدة. وثمنها إقليميّاً هو عدم استقرار مزمِن في أفغانستان وباكستان تصنعه «طالبان». «داعش» تعلّمت هذا الدرس جيّداً واستفادت منه، وها هي تذهب حتّى لمنافسة «طالبان» في عقر دارها. والكثير من دول الشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل وتركيا، ما زالت منخرطة في لعبة التنظيمات هذه، بانتظار ما قد يخلق استقراراً وتوزاناً للمصالح.
التخوّف الكبير هو أن تصرّ الدول على مواقفها ومصالحها كاملة، أو على نظرة ثنائيّة القطب. الفوضى هي التي سوف تنتصر وحدها آنذاك.
السفير
كم سيبقى من نظام الأسد للتفاوض عليه؟/ غازي دحمان
مثل كتلة ثلج يذوب نظام بشار الأسد وتبتلع جغرافية سورية قُطعه الواحدة تلو الأخرى، وقد فاجأت طريقة تلاشيه تلك حتى حلفاءه الذين بنوا تقديراتهم على بقائه مدة اطول تمنحهم مساحة كافية لفحص الخيارات المختلفة بشأن التفاوض عليه وعلى دورهم في سورية وموقعهم في المنطقة.
فجأة أصبحت كل الصيغ الميدانية التي اعتمد عليها النظام من دون فعالية، فلا طائراته ولا كثافة نيرانه باتت تحقق فارقاً في التوازن مع قوى الثوار ولا موارده عادت كافية لإخراجه من دائرة الإنكسارات المتوالية، وبالكاد يستطيع تحقيق انسحابات نصف ناجحة، وفجأة تغيرت ديناميكيات الصراع وتبدلت المواقع بحيث صار النظام يعاني حالة من الفوضى وكأنه استعارها من خصومه الذين طوروا مستوى تنسيقهم بدرجة لافتة، وانتهى الوقت الذي كان يشكل تدخل حلفائه فارقاً في الميدان لصالحه. يكفي أنّ أقواهم «حزب الله» صار مستنزفاً في بقعة جغرافية صغيرة ويقاتل من أجل الاحتفاظ بتلة على واد في جرود القلمون لينتقل بذلك من بحبوحة إستراتيجية هجومية تسمح له باختيار مواقع وأمكنة المعركة إلى الوضعية التي يدافع فيها عن مواقع تجمعاته ومخازن أسلحته وخطوط إمداده.
بالحسابات العسكرية، لم يكن صعباً قراءة تطورات المشهد الراهن أو تقديرها بالتقريب. تلك نتيجة منطقية لحالة الإستنزاف التي يعانيها النظام على مدار أربع سنوات وفي ظل استمرار دينامية الثورة ضده، فقد تدمّرت آلته العسكرية بمختلف تشكيلاتها، وخسر مساحات إستراتيجية واسعة، وحوصر جزء كبير من طرق إمداده، وترافق ذلك مع خسارته لجزء كبير من كادره المقاتل وبات صعباً عليه تعويض ذلك بسهولة، كما أن البنية التي صنعتها إيران من مئات الميليشيات تبين أنّها بنية فوضوية قد تساعد على إدامة حالة اللاإستقرار والأذى لكنها لا تساهم في الحفاظ على نظام الأسد.
لكنّ هذه الحسابات فاتت داعميه الذين ركّزوا جهودهم على خيار واحد وحسب هو الانتصار وسحق ثورة الشعب السوري بكل الطرق والوسائل بما فيها التهجير والإبادة، واستخدموا في سبيل ذلك سياسة حافة الهاوية في تكتيكات الحرب والتفاوض، ولم يوسّعوا دائرة خياراتهم، بل عملوا على دمج الصراع في إطار نسق أحلامهم الجيوسياسية المفترضة ما جعل تقديراتهم لمجريات ومآلات الصراع رغبوية بحيث لا تسمح لهم برؤية المعطيات وتقيّيمها بشكل حقيقي.
والراهن أن النظام اليوم صار مشكلة كبيرة بالنسبة الى حلفائه أنفسهم وبالنسبة حتى الى كثير من القوى التي كانت ترغب بزواله ورحيله. الكل ينطلق من قاعدة ضرورة الحل السياسي للأزمة لأن من شأن ذلك توفير حالة يمكن السيطرة عليها وضبطها بحدود معينة، ذلك أنّ أغلب القوى تدرك أنّ في سورية هناك مشكلة إندماج الدولة ومؤسساتها بالنظام، بمعنى أن المؤسسات جرى تصميمها للعمل فقط ضمن شروط وقوانين النظام، وبالتالي فإن تفكيك هذه الحالة أمر معقّد وغير مضمون النتائج ومغامرة لا يريد أحد الدخول فيها، والطريقة الأفضل للخروج من هذا المأزق تتمثّل بحصول اتفاق يبقي جزءاً من النظام ويضمن بقاء تسيير مؤسسات الدولة، بخاصة تلك التي لها علاقة بالأمن.
ولعل هذه الحقيقة شكلت على الدوام نقطة قوة لصالح النظام وداعميه وهي التي سمحت لهم بتصعيد سقف مطالبهم واللعب على حافة الهاوية اعتقاداً منهم أن لا خيار للمجتمع الدولي غيرهم، وبخاصة بعد ظهور «داعش» ومحاولة طرح معادلة إما النظام أو «داعش» والقوة المتطرفة في مجتمع غير متجانس لا دينياً ولا ثقافياً ولا حتى عرقياً.
اليوم يبدو أننا نقترب من نهاية مرحلة كان يمكن لنظام الاسد فيها فرض شروطه وكان يمكن لحلفائه طرح مقاربتهم ورؤاهم للحل، مع اقتراب فقدانهم السيطرة على الأرض، وحتى بالنسبة الى الاطراف التي كانت تدعو الى الحل السلمي مثل الولايات المتحدة، فكيف يمكن المحافظة على ما تبقى من نظام الأسد للوصول به الى مرحلة التفاوض وإنجاز التسويات في وقت ما زالت تلك الأطراف تفتقر لتصور مشترك للحل ولم تتفق على الخطوط العريضة سواء في الحصص أو الأدوار أو موقع سورية من التحالفات وفي وقت تتحرك فيه التغيرات على الأرض بسرعة؟
غالبية الأطراف تبدو خياراتها قليلة ومتساوية في الوقت نفسه. بالنسبة الى حلفائه لا يبدو أن جسد النظام قد يستجيب لجرعات جديدة من المساعدات تنقذه من السقوط إلا في حال تطبيق انواع من العلاجات الخطرة كالتدخل المباشر على الأرض من قبل روسيا وايران وهو ما لا يبدو أنه يلوح في الافق، وبالنسبة الى الولايات المتحدة لديها خيار واحد هو الضغط على الدول الداعمة للثوار كي تخفف من زخم دعمها أو تشترط عليهم التركيز على جبهات محددة للمحافظة على ما تبقى من النظام.
في الحسابات العملانية يمكن لهذه الإجراءات تحقيق نتائج معينة، لكن الواقع يقول أن وقوع النظام على خط الاحتمالات السيئة قد لا يفيد معها الكثير من هذه الإجراءات، ذلك أن مروحة الإنهيارات تتوسع بما يفوق القدرة على ترميم الأوضاع وقد يجد الجميع أنفسهم أمام حالة لا يمكن ضبطها والتحكم بها، وبخاصة أن النظام صار في عين الاستهداف من أكثر من جبهة بما فيها جبهة بيئته الداخلية التي تحصل فيها تغيرات من شأن تطورها الإطاحة برأس النظام وفرط جبهته بالكامل.
* كاتب سوري
الحياة
الأزمة في سوريا: خرافة الحل السياسي في سورية/ د. برهان غليون
“الأسدية” ليست بالأصل سياسة، إنها الحرب، ولم تعرف يوماً التعامل مع الشعب بغير العنف والإخضاع بالقوة والقهر. ومشروع النظام القائم على الانفراد بالسلطة والسيطرة من طغمة مافيوية فاشية، لا يقبل أي بديل عن لغة التصعيد الانتحاري، وشعارها: إما قاتل أو مقتول، ولا توسط بينهما. أما طهران التي تمسك، اليوم، بمصير هذه القيادة الانتحارية، فهي تعيش حالة من الجنون القومي المذهبي الذي يدفعها إلى الركض وراء سراب إعادة بناء الامبرطورية الفارسية على أسس دينية في المشرق العربي كله، كجزء من تحدي الغرب والتاريخ، وتنظر إلى سورية باعتبارها حجر الزاوية في مشروعها الإمبراطوري هذا، وتعرف أن التخلي عن السيطرة عليها، أو القبول بالمشاركة فيها مع قوى إقليمية أخرى، بل حتى مع الشعب السوري نفسه، يقوّض طموحها، وليس أمامها خيار سوى الاستمرار في التصعيد، مهما كانت الخسائر، إلى أن تحقق أهدافها.
تبدو قم، اليوم، مدانة بالدخول في المغامرة نفسها التي دفعت الحركة الصهيونية إلى ارتكاب جريمة الإبادة السياسية، قبل الجسدية، لشعب كامل: ترسيخ الاحتلال وإدامته لتغيير البنية السكانية، وتغيير البنية السكانية، على الأقل في المناطق الاستراتيجية، لترسيخ أقدام الاحتلال في سورية ولبنان بعد العراق. وهي تحلم أن تحقق ذلك من خلال التفاهم مع واشنطن، في سياق التوقيع على الملف النووي، والتغطية على مشروع احتلالها بفكرة المقاومة لإسرائيل، والتي تعني، في العمق، تقاسم النفوذ في المنطقة، بعد التوصل إلى تفاهم رسمي مع تل أبيب، يسمح بتقنين وجودها في سورية، تماماً كما حصل من قبل عند تقنين وجود نظام الأسد في لبنان، ثمن ضمانه أمن إسرائيل.
لهذا السبب، أخفقت كل مبادرات الحل السياسي، سواء التي بدأها أصدقاء النظام، منذ الأشهر الأولى من الثورة، القطريون والأتراك والسعوديون والأوروبيون وغيرهم، كما أخفقت مبادرة جامعة الدول العربية، ومن بعدها بعثة كوفي أنان لتطبيق بيان جنيف، ومهمة الأخضر الإبراهيمي التي انتهت مع فشل لقاء جنيف2 الذي لم يشهد أي نقاش سياسي، سوى الاتهامات بالتخوين والشتائم السوقية التي كالها وفد الأسد لوفد المعارضة. وقد اضطر المبعوثان الكبيران للاعتراف بفشلهما، ومسؤولية نظام الأسد عنه، وقدما استقالتهما.
أما المبادرات المتعددة التي يدور الحديث عنها، بعد فشل مؤتمر جنيف، فهي لا ترقى إلى مستوى المبادرات، ولا حتى الأفكار الواعدة. ومعظمها لا يهدف إلا إلى اللعب على المعارضة، السياسية والعسكرية، بهدف تأهيلها لتقديم التنازلات التي من “المحتمل” أن تساعد على تذليل العقبة الروسية، مع العلم أن روسيا، على الرغم من دورها العسكري المهم، ليست قادرة على فرض أي حل، لا على الأسد ولا على طهران. ولا يختلف الوضع عن ذلك في ما يتعلق بمبادرة مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان ديميستورا، التي تعترف سلفاً بالفشل، ولا تطمح، مع غياب أي أمل في حل سياسي أو عسكري، إلى أكثر من المساعدة على عقد هدن محلية، بهدف التخفيف من معاناة السكان، هنا وهناك.
السياسة ليست بديلاً للحرب
ارتفاع حصيلة ضحايا الصراع السوري إلى 230 ألف قتيل
ارتفعت حصيلة القتلى الذين سقطوا في سوريا منذ بدء النزاع في منتصف آذار/ مارس 2011 إلى أكثر من 230 ألف قتيل، غالبيتهم من حاملي السلاح، وبينهم حوالي 11500 طفل، بحسب آخر إحصاء للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
من هنا، لا يعني الاستمرار في تمسك الأمم المتحدة والدول الكبرى والعالم بالحل السياسي أن هناك اعتقاداً لدى أحد بوجود إمكانية للحل بالفعل، وإنما هو وسيلة للتهرب من الاستنتاج المنطقي لانعدام فرص هذا الحل، وما يمليه ذلك من واجبات والتزامات على الأمم المتحدة والدول التي يلزمها ميثاقها بعدم الوقوف مكتوفة الأيدي أمام حرب إبادةٍ، تقوم بها طغمة أصبحت أداة بيد دولة أجنبية، بعد أن اختطفت الدولة ومؤسساتها. بمعنى آخر، يستخدم اللعب بالحل السياسي لملء الفراغ الدبلوماسي، وتغذية الوهم بأن هناك تحركاً دولياً، وأن الشعب السوري ليس متروكاً وحده يذبح على مرأى العالم ومسامع الدول الكبرى، وهذه هي الحقيقة. كما تستخدم المبادرات أو المناورات الدبلوماسية للتغطية على الفشل الذريع للأمم المتحدة، وبان كي مون شخصياً، في اتخاذ إجراءات حاسمة، لوقف الحرب، أو التخفيف من معاناة السوريين. لكن وظيفتها الأهم والأخطر هي حرف نظر الرأي العام السوري والعربي والدولي عن الاستقالة الأخلاقية والسياسية للغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، تجاه الأزمة السورية. وقد استخدمت، خلال السنوات الأربع الماضية، لخداع المعارضة، وتبرير رفض واشنطن القيام بأي عمل جدي لإنقاذ الشعب السوري.
لن تكون هناك نهاية للحرب، مع استمرار الخيارات السياسية الراهنة للدول، وللولايات المتحدة بالذات. ولن يكون هناك أي حل سياسي، لا يكون مجرد استسلام للأسد وخامنئي، ما لم يتم تحطيم آلة الحرب المشتركة للقرداحة وطهران، والمكونة من بقايا الجيش السوري والمليشيات المذهبية المجيشة من عشرات الدول والبلدان. وكل تأخير في إنجاز هذا العمل لن يعني سوى السماح بمزيد من التصعيد في العنف والوحشية، ومن تفاقم الأزمة السورية ومعاناة السوريين، ومن مخاطر انتقالها إلى الدول المجاورة.
لا مهرب من تدخل عربي
إذا كانت الدول الغربية لا تشعر بالخطر القريب من جراء استمرار القتل والدمار في سورية، ولا تعاني من غياب الحل السياسي وانعدام إمكانية الحسم العسكري معا، فذلك لا يمكن أن ينطبق على البلاد العربية، ولا على تركيا التي تعيش في قلب العاصفة، سواء بسبب ما يتعرض له أمن هذه الدول، القومي والأهلي، من تهديدات خطيرة بانهيار الدولة السورية، والإمساك بها من طهران وقوات الحرس الثوري، واستخدامها منصة للعدوان على جاراتها والضغط عليها، أو بسبب إسقاطات الأزمة السورية، السياسية والإنسانية عليها. ولا ينبغي للدول العربية، وليس من مصلحتها، أن تقف مكتوفة الأيدي، أو تنتظر حتى يكتمل انتشار سرطان العنف والفاشية في جسدها. عليها أن تتحرك، وتجبر الأمم المتحدة، وبقية دول العالم، على السير وراءها، للدفاع عن مصالحها القومية ومصالح شعوبها.
فسورية ليست جزءاً من الوطن العربي فحسب، لكنها مركز توازن المشرق بأكمله. والسيطرة عليها ستحدد مصير المنطقة ومآلات السيطرة الإقليمية. الاستمرار في تجاهل ما يجري فيها يعني، ببساطة، تقديم سورية لقمة سائغة لطهران، والتخلي عنها لصالح سيطرة المليشيات المذهبية المتطرفة من كل دين، أي القبول بالاستسلام الكامل أمام التوسعية القومية المذهبية الإيرانية والاعتراف بالهزيمة من دون حرب، وتكريس شلل المجموعة العربية وانقسامها، وتشجيع خصوم الدول العربية جميعا على التحرش بها، والاعتداء عليها، بما في ذلك مليشيات المرتزقة والمجموعات الإرهابية، وفي النهاية، خسارة كل الجهود التي بذلتها بلدان المنطقة، للحفاظ على الاستقرار والسلام والأمن الإقليمي
المفكر والمعارض السوري المعروف برهان غليون، هو أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: “بيان من أجل الديمقراطية” و”اغتيال العقل” و”مجتمع النخبة”
المفكر والمعارض السوري المعروف برهان غليون، هو أكاديمي سوري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، من مؤلفاته: “بيان من أجل الديمقراطية” و”اغتيال العقل” و”مجتمع النخبة”
.كان على الدول العربية، ولا يزال، أن تعتبر قضية الحرب الدموية في سورية قضية عربية أولاً، وتدعم مبادرتها السياسية، التي تبنتها الأمم المتحدة، وتحولت إلى مبادرة أممية فاشلة، بسبب غياب آليات العمل وأدوات التنفيذ، بمبادرة عسكرية تفرض على الأطراف السورية الإذعان لمبادئها وشروطها، وتضع حداً لسفك الدماء وتمزيق البلاد وتسابق المجموعات الإرهابية والميليشيات المذهبية على السيطرة على أراضيها، وإقامة إمارات خاصة فيها.
فأمن سورية جزء أساسي من أمن المشرق العربي، وهذه حقيقة وليست على سبيل المبالغة. وسوف يتأكد ذلك أكثر مع الزمن، بعد أن تظهر الانعكاسات الخطيرة لأزمتها على الدول والمجتمعات العربية القريبة والبعيدة، بل على العالم أجمع. وتكفي الإشارة، منذ الآن، إلى الخلل الاستراتيجي الذي أدت إليه بتمكينها طهران وحلفاءها من تطويق الجزيرة العربية، وتهميش مصر وشمال أفريقيا وإخراجهما من المنطقة، وإطلاق شياطين الحرب المذهبية والطائفية الإقليمية التي تهدد الجميع، وتفكيك نسيج المجتمع السوري، ودفع الملايين من أبنائه إلى اللجوء والتشرد والضياع، وما يعني ذلك من كارثة إنسانية للسوريين ولعموم المنطقة، من دون الحديث عما أصبحت الأرض السورية تمثله من مرتع لبؤر التطرف الديني وغير الديني، ومن قطب جذب لجميع العصابات الدموية إلى المنطقة.
والحال أن الدول العربية استهانت بالصراع السوري، ورمت مسؤولية حله على الأمم المتحدة مع علمها بأن مجلس الأمن معطل، ولن يكون هناك أي تدخل دولي. واستمرت في سياسة النعامة، خلال سنوات أربع طويلة، من دون أي رد فعل، واكتفت بتقديم فتات الدعم المادي والعسكري والسياسي لقوى مدنية، تسلحت على عجل، ولم تعرف حتى كيف تساعدها على ضبط تنظيمها وتدريبها وتأهيلها، واستهانت بإرادة الهيمنة الإيرانية، وتركتها تحقق أهدافها من دون أي رد فعل. فأعلنت طهران سيطرتها على باب المندب، وإلحاق اليمن صراحة بمشروعها الإقليمي، وإرادتها في تطوير هذا المشروع، في اتجاه دول الخليج في المستقبل. وبهذا تكون الدول العربية قد فتحت أبوابها لكل المخاطر والتهديدات.
ما كان يتوجب على العالم العربي أن يفعله لا يزال يحتاج إلى أن يُفعل. والتأخر في إنجازه لن يحل الأزمة، لكنه سوف يزيد من تكاليف مواجهتها ومخاطرها الإنسانية والسياسية والعسكرية، بصورة يمكن أن تصبح غير قابلة للاحتمال، بمقدار ما سوف يدفع إلى تفاقمها، ويوسع من دائرة انتشارها وتهديداتها. ما كان على أوروبا أن تفعله لمواجهة النازية الهتلرية هو تماما ما ينبغي على البلاد العربية وتركيا أن تفعلانه، بدعم من الأمم المتحدة والتحالف الدولي، أم بدونهما. وهذا هو الوقت، وليس بعد أن توقع واشنطن وطهران مذكرات التفاهم وحل موضوع الملف النووي الإيراني.
يعتبر المفكر والمعارض السوري المعروف برهان غليون أنه لا يمكن التوصل إلى حل سياسي مع بشار الأسد، ومن ورائه، مع خليفة قم علي خامنئي، تماماً كما لم يكن من الممكن لعاقل في عموم أوروبا أن يعتقد أن من الممكن التوصل إلى حل سياسي مع أدولف هتلر. وهذا ما أثبتته الأحداث على مدى السنوات الأربع الماضية.
حقوق النشر: العربي الجديد 2015
اقرأ أيضًا: موضوعات متعلقة من موقع قنطرة
سورية: النظام يتراجع و«الدويلات» البديل الجاهز/ جورج سمعان
لن يسقط النظام السوري غداً. تراجعه المتواصل يزيد في إرباك الساعين إلى تسوية من أجل الحفاظ على ما بقي من هياكل الدولة، خصوصاً المؤسسة العسكرية. فهذه يراهن عليها كثير من اللاعبين جسماً لا بد منه لاحقاً في مهمتين: مواجهة الحركات الإرهابية، والحفاظ على السلم الأهلي بين المكونات المختلفة. الدينامية الجديدة التي تفرضها مكاسب المعارضة الأخيرة تقضي على كل آمال النظام بالبقاء، لكنها في الوقت نفسه تفاقم تفكك البلاد التي لن يكون مصيرها أفضل من مصير العراق. فأرض الرافدين لم تعد دولة عربية بالمعنى القومي. الكرد يعيشون مستقلين في إقليمهم ينتظرون نضج الظروف لإعلان دولتهم. وشركاؤهم العرب يتقاسمون ما بقي من أقاليم بين شيعة وسنة، لا يبدو أنهم سيأتلفون وإن عجل ذلك في تحولهم غنائم في تقاسم إقليمي تتعدد أطرافه. ومآل سورية لن يكون أفضل. لن تعود «قلب العروبة النابض». الكرد شمالاً وشرقاً يستعجلون ربط مناطقهم في ما بينها ربطاً محكماً، وإن على حساب شركاء آخرين لإقامة كردستان الغربية على غرار جارتها الشرقية. والعلويون يديرون معاركهم الأخيرة بما يعزز حماية مناطقهم الحيوية. ومذبحة قلب لوزة بعثت قضية أخرى هي مصير الدروز والأقليات الأخرى.
لكن مناطق سيطرة المعارضة ليست واحدة. تراجع قوات النظام لا يصب في خانة إدارة واحدة سياسية وعسكرية. فلا القوى السياسية المعارضة توافقت على توحيد موقفها وبرامجها. ولا الفصائل العسكرية انضوت في غرفة عمليات مشتركة. وكثرة المؤتمرات واللقاءات التي تعقد في هذه العاصمة وتلك، هدفها الأول ضمان هذه العواصم حصتها في النظام المقبل أكثر مما هو العمل على توحيد هذه القوى. والتقدم في جبهتي الشمال والجنوب لا يصب في خانة قوة واحدة على الأرض.»جيش الفتح» الذي يقاتل في الجبهة الشمالية يضم كتائب إسلامية مع «جبهة النصرة»، ويحظى بدعم تركي – خليجي. ولا يرتاح إليه الغرب. أما القوى التي تقاتل في الجنوب فتبدو أكثر تنظيماً من الناحية العسكرية لتلقيها تدريباً خاصاً في الأردن، في إطار برنامج تديره الاستخبارات الأميركية. علماً أن اعتراضات من وسط الحزبين في أميركا خفضت المخصصات لهذا البرنامج، والذريعة هي التقدم الذي تحرزه حركات التطرف على الأرض. وقد فشلت في عمان أخيراً المحادثات بين وفد «الائتلاف الوطني» ومسؤولين في «الجبهة الجنوبية» التي رفض قادتها أيضاً اعتبار «حركة أحرار الشام» جزءاً من هذه الجبهة. مقابل هذا التشتت تبقى قوى التطرف هي الأقوى والأصلب عوداً في الميدان.
بالطبع هناك عوامل كثيرة وراء تراجع قوات النظام، أولها الإنهاك الذي أصاب الجيش والخسائر التي مني بها، فضلاً عن الانشقاقات الكبيرة، خصوصاً في الجبهة الجنوبية. والثاني هو نتيجة للعامل الأول، أي اقتناع النظام بوجوب حصر اهتـــمامه بالدفــــاع عن المناطق الحيوية التي تشكل سبباً لبقاء النظام وثباته. أو أنها تشكل نواة خريطة «الـــدولة العلوية. وهنـــاك تبدل في موقف روسيا لأسباب كثيرة باتت معروفة. وهناك كلام جدي عن أفكار مشتركة بينها وبين الولايات المتحدة. وحتى إيران التي تزج بمزيد من الميليشيات للدفاع عن النظام لا تريد سقوطه أو تغيير رأسه بلا ثمن. تدعم بقاءه، لكنها لن تتمسك به، ولا شيء يحــــول، بعد بلورة مصير الاتفــــاق النــــووي آخر الشهر، دون أن تضعه ورقة للمساومة بين أوراق كثيرة تتعلق بمستقبل دورها وحجمها في الإقليم… ولكن ليس على حساب خسارتها موطئ قدم في بلاد الشام يهدد مستــقبل «حــزب الله» في لبنان.
لكن كل المكاسب التي تحققها المعارضة، وكل الاتصالات والمشاورات والمؤتمرات التي توحي بأن التسوية قاب قوسين وأدنى، تتجاهل أن عناصر وشروطاً أساسية في تقرير وجهة الأزمة في سورية تظل بأيدي السوريين أنفسهم. فإذا كان اللاعبون الخارجيون يعدون للتغيير فإن مسؤولية المعارضة تصبح مضاعفة. على كل الفصائل السياسية التوافق على قيادة واحدة وبرنامج سياسي واحد لإدارة البلاد في المرحلة الانتقالية. وعلى القوى المقاتلة الاندماج في غرفة عمليات واحدة، وإلا لن تلقى الدعم والاطمئنان إلى دورها بعد سقوط النظام. إن استعجال هاتين الوحدتين وحده كفيل بدفع الدول الكبرى في الإقليم وخارجه إلى استعجال التسوية. فهما تشكلان وقوداً ضرورياً لانطلاق قطار الحل. وبقدر ما هو مطلوب من الفصائل السياسية أن تتخلى عن نهج الإقصاء أو بالأحرى الاستئثار، لا بد من توحيد الجسم العسكري وكل الجبهات. لم يعد مسموحاً أن يدافع بعض «الائتلاف» عن «النصرة» و«سوريتها» وإمكان تخليها عن التشدد الذي أملتــــه ظـــروف معينة… إلا إذا تمكـــنت قـــوى راجحة في الجبهة من دفعها خارج «القاعدة». واعترفت بالمشروع السياسي الذي تجمع عليه القوى السياسية، والذي يترك للشعب السوري أن يقرر بنفسه شكل النظام وهوية الدولة مستقبلاً بما يراعي وجود أقليات وأعراق ومذاهب مختلفة في البلاد. غير ذلك يستحيل توحيد الكتائب المقاتلة وإقناع القوى الخارجية بوجوب التغيير الحتمي للنظام.
في غياب هذه الشروط لن يقتنع أهل الداخل السوري والخارج أيضاً بوجود بديل يمكنه أن يمسك بإدارة البلاد بعد ترحيل النظام. فقد أثبت على رغم تراجعه في أكثر من جبهة أنه لا يزال يسعى إلى تسويق نفسه رقماً لا غنى عنه للحفاظ على ما بقي من الدولة، والأهم من ذلك لضمان أمن الأقليات الذي يتمسك به الأميركيون والروس هدفاً مركزياً وعنصراً لا غنى عنه في أي تسوية. وبات من المسلّم به أنه يلعب ورقة «داعش»، فيخلي للتنظيم ما أمكنه من مناطق ويسهل له العبور لمواجهة خصومه في الفصائل المعارضة الأخرى. كما أن المجزرة التي ارتكبتها «النصرة» في البلدة الدرزية قلب لوزة شمالاً، وتهديد السويداء على أيدي «داعش» وغيره من المتشددين، يقدمان خدمة مجانية إلى النظام وخططه وشعاراته، ويدفعان بالمكون الدرزي إلى البحث عن موقع يقيه ما حل بالأقليات في العراق بعد سقوط الموصل. لن يستطيع الدروز تسويق سياسة الحياد. فلا النظام تفهم موقفهم وموقف شبابهم الذين تخلفوا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، أو أبدى استعداداً لتسليحهم ما لم يمدوه بالرجال. ولا المعارضة راقها امتناعهم عن الانخراط في الحرب إلى جانبها. وهم بالطبع لا يستسيغون الوقوف مع فصائل متشددة ترى إليهم كفاراً خارجين على الدين. وما حدث في قلب لوز سيعزز مخاوفهم من الحركات المتشددة. ولن يثقوا بما يقدم إليهم من عهود وتطمينات… ولا يرغبون في التوجه نحو إسرائيل. قد لا يبقى لهم سوى بالأردن الذي من مصلحته ومصلحتهم التوصل إلى تفاهم يقطع الطريق على احتمال تدخل تل أبيب، وعلى اقتراب حركات التطرف من الحدود الشمالية للمملكة الهاشمية. ولكن تبقى هناك مصلحة للنظام في تسهيل اقتراب «داعش» من الحدود الشرقية للسويداء، ليقول لأهلها أن لا مفر أمامهم سوى الانضمام إلى جيشه. وليقول للعالم أن لا بديل من النظام لحماية الأقليات. وهي رسالة تخاطب الغرب والروس الذين يؤكدون باستمرار حرصهم على الأقليات ومصيرها ومستقبلها. وليراهن ربما على تدخل إسرائيلي تحت ضغط دروز الداخل والجولان المحتل أو خوفاً من انتشار حركات التكفير على الحدود مباشرة.
«المسألة الدرزية» ليست وحدها الطارئ في مسار الأزمة السورية. نتائج الانتخابات البرلمانية التركية ستؤدي إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية لأنقرة. قد يجد رجب طيب أردوغان نفسه مضطراً إلى ذلك، إذا كان لا بد من تحالف «العدالة والتنمية» مع «حزب الشعب الجمهوري» من أجل تشكيل الحكومة الجديدة. وربما وجد نفسه مضطراً إلى الحوار مع إيران، وليس مع السعودية وحدها، نزولاً عند رغبة الرئيس الأميركي الذي حض أهل المنطقة على حل مشكلاتهم مباشرة مع الجمهورية الإسلامية. وإيماناً منه أيضاً بأن طهران ستجد قريباً مصلحة في التخلي عن الأسد لئلا تنقطع كل خيوطها مع النظام الذي سيخلفه في دمشق عاجلاً أم آجلاً. ولا يغيب هنا أن حكومة أردوغان توسطت قبل سنوات لتسوية الملف النووي الإيراني. وقد تتوسط اليوم لحل المشكلات في المنطقة بين إيران والدول العربية. وما يدفع إلى مزيد من التقارب بين البلدين هو الفوز الذي حققه «حزب الشعوب الديموقراطي»، وتعثر التفاهم بين كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد. ولا شك في أن طهران وأنقرة لا ترغبان في رؤية قيام دولة كردية مستقلة شمال العراق، ويقلقهما تشكل إقليم كردي في سورية.
في أي حال، من المبكر الحديث عن تسويات نهائية، ما دامت الحرب على «داعش» ستطول. وما دامت الإدارة الأميركية تركز على العراق أولاً حيث لا تملك استراتيجية متكاملة، كما صرح الرئيس أوباما «لأن ذلك يتطلب التزامات من العراقيين أيضاً». وما التزمه ويلتزمه العراقيون اليوم هو مواصلة الصراع المذهبي والعرقي. وهو ما يمد بعمر «دولة الخلافة». في هذه الأثناء، سيكون على السوريين أن ينتظروا طويلاً حتى يأتي الدور على «دواعشهم». لذلك ستتفاقم الحروب بين فصائل المعارضة سقط النظام أم لم يسقط. ولن تكون صورة سورية غير صورة العراق. المشرق العربي سيبقى بمعظمه بلا دول وجيوش مركزية. لم تتبلور بعد الخطوط النهائية التي ستفصل بين المكونات الاجتماعية، الدينية والمذهبية والعرقية. ولم تتبلور بعد صورة المصالح الحيوية للدول الكبرى المعنية بالثروة النفطية وبالمواقع الجيوسياسية. ويمكن الدول الإقليمية الكبرى، تركيا وإسرائيل وإيران، أن تطمئن وترتاح إلى غياب القوة العسكرية التي طالما كانت تشعر بتهديدها، سواء جاءت من سورية أو العراق… أو حتى من مصر. يقتصر الوضع اليوم على ميليشيات وجيوش فئوية مهمتها الحفاظ على حدود «الدويـــلات» فقط!
الحياة
مهزوم من دون منتصرين/ حازم صاغية
بعد انطلاق الثورات العربيّة، لا سيّما السوريّة، انفجرت ديناميّة من التفتّت تردّ على الديناميّة التي أطلقتها الثورات. فقد كان واضحاً أنّ نظام بشّار الأسد يسعى، عبر بطشه، إلى منع الثورة من أن تبقى سلميّة، أي الحؤول دون اندراجها في وجهة الثورات التي شقّتها أوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وإبقاءها أقرب إلى النمط العنفيّ القديم للثورات.
هكذا وبالتضامن بين حرب دينيّة – مذهبيّة وحروب أمراء حرب كثر، لم تبق طائفة أو جماعة إثنيّة أو منطقة إلاّ وأفصحت عن وجودها بطرق كثيرة أبرزها العنف. وكان مدهشاً أنّ الفترة الفاصلة بين إنكار طوباويّ لوجود الطائفيّة والجهويّة وانقشاع الواقع المقيم تحت سطح الظاهر، تُعدّ بالأسابيع. وفي هذا كلّه، بدا ما يكفي لمناهضة الاستواء الوطنيّ المعوّل عليه أن يكون رافعةً لسلطة بديلة، ممّا تفترضه الثورات وتقود أحياناً إليه.
بلغة أخرى، تمكّنت ديناميّة التفتّت من أن تغلب ديناميّة الثورة والوحدة، لأسباب كثر التطرّق إليها، بينها ما يتعلّق بالاستبداد، وبينها ما يتعلّق بالتراكيب السوسيولوجيّة أو بالمقدّمات الثقافيّة المتينة التي لم تتعرّض لأيّ تحدٍّ.
وفضلاً عن تركيبة القوى السياسيّة – العسكريّة الفاعلة، والمترجّحة بين إسلاميّة قصوى وأخرى توصف بإسلام الاعتدال، تجلّى انهزام الثورة في مسألة الحرّية التي رفعها الثوّار الأوائل، لتنتهي الحال مع القوى الصاعدة توسيعاً لرقعة الاستبداد بمدّه إلى مجالات الضمير والإيمان والحياة الشخصيّة في أشدّ جوانبها حميميّة. ولم يعد مجال للشكّ في الفارق الضخم بين تقاطع المشروع الثوريّ مع السنّة، بوصفهم الأشدّ ألماً والأكثر راديكاليّة في المشرق الراهن، وبين كون المشروع الثوريّ، إذا جاز اعتباره كذلك، مشروعاً سنّيّاً راديكاليّاً يسكنه البرم بكلّ آخر، حتّى لو كان سنّياً عربيّاً موصوفاً بالعلمانيّة.
وأهم مما عداه، أنّ الإطار الوطني للنزاع اضمحلّ تماماً: فبشّار الأسد لم تبدُ عليه الحماسة لأن يتكبّد الأكلاف التي يرتّبها ضمّ ما يتجاوز «سورية المفيدة»، فيما «داعش» معنيّ بالخلافة التي تجمع سورية والعراق تمهيداً لضمّ بلاد الإسلام الواسعة. وبدورهم، لا يسع الأكراد، فيما كلّ جماعة مستغرقة في ذاتها، إلاّ أن يفكّروا في إطار كرديّ يرون من داخله واقعهم ومستقبلهم. أمّا الوجه الآخر للعملة، فيجسّده انكفاء الصراعات على محاور لا حصر لها، يصعب الربط بين قوى أحدها وقوى المحور الآخر.
واليوم، نجدنا أمام وضع يمكن معه أن تسقط سلطة الأسد في أيّة لحظة، إلاّ أنّ أحداً لن يكون مؤهّلاً لالتقاط السلطة. وقد تنشأ هزيمة مؤكّدة في جانبٍ من دون أن يكون هناك منتصرون في الجانب الآخر، اللهمّ إلاّ بضع جماعات محلّية متناثرة وبضع قوى إقليميّة لن يكون من الوارد إفضاؤها إلى أيّ مشروع «وطنيّ» سوريّ.
وهذا معناه دم كثير، بطبيعة الحال، لكنّه دم سيبقى مجبولاً بكذب كثير مداره قضايا متوهّمة، وكلام معاد للمرّة المليون حول الأوطان والقضايا والثورات مع رشّة من ملح فلسطين فوق الأطباق الافتراضيّة.
الحياة
في وداع الأقليات/ غسان شربل
قال السياسي: «لا تقرأ الحاضر بلغة الماضي. العراق الذي كنت تعرفه راح. العراق الحالي أخطر من السابق على نفسه وعلى جيرانه. التهمت العصبيات العملية السياسية. الدولة مجرد غطاء تستكمل تحته الحروب الأهلية وعمليات الفرز السكاني. هناك الشيعة وحشدهم الشعبي. وهناك العشائر السنية التي تخسر مرة حين يجتاحها «داعش» وأخرى حين يحررها «الحشد الشعبي». وهناك كردستان العراق التي دفعت دماً لاسترجاع «المناطق المتنازع عليها». والمعركة بين «الحشد الشعبي» والبيشمركة آتية مهما تأخرت. لا تسأل عن الايزيدين والمسيحيين والشبك فهم إما تبخروا أو أنهم في الطريق».
وأضاف: «سورية التي كنت تعرفها راحت. سورية الحالية أخطر من السابقة على نفسها وجيرانها. يتقاتل السوريون اليوم على حدود المكونات. لا تختصر المشكلة بوجود «داعش». الواقع الذي أنجبه يمكن أن ينجب لاحقاً ما هو أخطر منه. إننا في خضم حرب مذهبية إقليمية. من يمتلك القوة الكافية سيحصل على جزء من حطام الدولة السورية. الأقليات القوية سترسم حدود أقاليمها بالدم. الأقليات الضعيفة سيأكلها هذا النزاع. هل يحق لتونسي من «النصرة» أن يقتل عشرين درزياً سورياً رفضوا الامتثال لأوامره؟ هل سمعت استغاثات العرب والتركمان من ممارسات الميليشيات الكردية السورية التي تقاتل «داعش»؟ إنها تتحدث عن عمليات تطهير وتنظيف. وضع المسيحيين السوريين يذكر بذعر المسيحيين العراقيين».
لامس السياسي جوهر المشكلة. تفككت الدولة المركزية. سقطت الحدود الدولية. التحقت الجيوش بعصبياتها العميقة والميليشيات. سقط التعايش وغرقنا في حروب المكونات. لم يعد السؤال عن الحدود الدولية صار عن الحدود داخل الحدود. أين تنتهي حدود الشيعة في ما كان يسمى العراق؟ أين هي حدود السنة؟ وأين حدود الأكراد؟ أين هي حدود السنة في ما كان يسمى سورية؟ وأين حدود العلويين؟ وأين حدود الأكراد؟ وماذا عن الدروز؟
أتذكر الآن ما سمعته في العراق. قال السائق: «هذا مخيم الايزيديين الذين فروا من جبل سنجار… إنه مخيم من بقي منهم. ينتظرون هنا أبناء تأخروا وأحفاداً لن يصلوا. ويسألون عن بنات تعرضن للسبي ويعرضن الآن للبيع بحفنة من الدولارات». كانت المرأة المسنة تجلس قرب مدخل الخيمة. لم يبق لديها دمع لتغسل تجاعيد وجهها. كانت تنظر كمن لا يرى. خجلت من التحديق في عينيها. رأيت فيهما جبالاً من القهر والذل. راوغت الموت وفرت. لكنه عبقري ومجرب اصطاد من عائلتها ابناً وثلاثة أحفاد. تحاشيت فتح جروحها. طلبت من السائق أن يتابع طريقه.
لاحظ المرافق شدة تأثري. خشي أن اختصر مأساة العراق بنكبة الايزيديين. قال إنه طرد هو الآخر من منزله في بغداد. سألته إن كان السبب انتماؤه الكردي فأجاب: «لا، طردت لأنني سني أقيم في حي شيعي وبذريعة أن شيعة طردوا من أحياء سنية».
عدت إلى الفندق في إربيل. سألت الشاب العامل خدمة فاسداها إلي. قلت أجامله. سألته عن مدينته بعدما استوقفتني لهجته فقال: «أنا من الموصل. الحقيقة أنني كنت من الموصل». أثارت «كنت» حشريتي. روى أن والده تلقى اتصالاً حاسماً: «لا مكان لكم هنا». سارعت العائلة إلى الفرار. حكى بحرقة أن الموصل أرض أجداده وأجدادهم وأن المسيحيين عاشوا فيها منذ مئات السنين إلى جانب جيرانهم المسلمين. لفتني أنه طرد من المدينة قبل سقوطها في يد «داعش».
أيقظت الإطلالة المدوية لـ»داعش» وأشباهه ذعر الأقليات. ضاعف الهجوم الإيراني في الإقليم حدة النزاع السني – الشيعي. احتمت الأقليات الكبرى بأسلحتها وتحالفاتها واندفعت في مجازفات كبرى مضطرة حيناً ومختارة أحياناً. وضع العرب السنة في العراق ليس سهلاً على الإطلاق. صدام «حزب الله» اللبناني بالكتلة السنية في سورية ليس بسيطاً على الإطلاق. أما الأقليات التي تعوزها الأنياب والعمق الجغرافي والرصيد السكاني فتبدو مرشحة لخسارات قاتلة. ومن يدري فقد نكون في موسم وداع الأقليات. الأقليات الكبيرة القادرة ستهاجر إلى أقاليمها والأقليات الصغيرة العاجزة ستجهز جوازات السفر استعداداً لعبور البحر.
سقوط العروبة الحضارية الرحبة نكبة للأكثريات والأقليات معاً. شيوع التطرف المذهبي يعزز النكبة لأنه ينسف حلم اللقاء تحت مظلة الدولة. تتضاعف نكبة الأقليات الصغيرة حين تسلس قيادها لسحرة صغار أصابتهم لوثة ادعاء الأدوار التاريخية ولشرهين مقامرين يصرون على احتكار الوليمة حتى ولو سبحوا في دم من يزعمون إنقاذهم.
الحياة
الأسد وسوريا الصغرى!/ علي بردى
اقتربت واشنطن وموسكو من “تفاهم” جديد على التعامل مع الأزمة السورية. اضطلعت باريس وعواصم أخرى – بعضها عربي وإقليمي – بدور في التأسيس لـ”مبدأ” جديد لأي تسوية. لا مستقبل للأيادي الملطخة بالدماء في النظام السوري. لا مكان للرئيس بشار الأسد، كما أن لا هوادة في الحرب الدولية على الجماعات الإرهابية.
حوّل البعثيون العروبة شعوبية. عبادة الشخص جوهر في الفكر القومي والديني. على غرار “الزعيم الخالد” جمال عبد الناصر، راقت الألقاب الرئيس السوري حافظ الأسد حتى جعل نفسه “قائدنا الى الأبد”، ليس فقط في بلده بل حتى أيضاً عند البعض في لبنان. فات ابنه بشار أنه ليس في مراتب الآلهة. لا يمكن “الرئيس الشاب” أن يشيب على كرسيه.
شرع المبعوث الخاص للأمم المتحدة الى سوريا ستيفان دو ميستورا في البناء على التفاهم الأميركي – الروسي الجديد. يجري منذ أكثر من ستة أسابيع مشاورات مع أكبر عدد ممكن من أطراف النزاع ومنظمات المجتمع المدني، فضلاً عن ممثلي الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في سوريا. صندوق عدته الوحيدة بيان جنيف في 30 حزيران 2012. التفسيرات المتباينة لبنوده أبقته حبراً على ورق. تركز الوساطة على ترجمة الإجماع على البيان بنقله الى مرحلة “التفعيل”.
يستوجب هذا التفعيل مزيداً من الجهود على ثلاثة مستويات. لا بد أولاً من توفير غطاء دولي جامع لأي تسوية. ظهرت التباينات واضحة باستخدام روسيا حق النقض “الفيتو” أكثر من مرة ضد مشاريع قرارات قدمتها الولايات المتحدة في مجلس الأمن وغايتها إطاحة نظام الأسد. هل يمكن التخلص من الأسد والأيادي الملطخة بالدماء مع المحافظة على مؤسسات النظام؟ الإيجاب يمكن أن يكون معادلة مرضية لكل من البيت الأبيض والكرملين. ينبغي ثانياً تركيب معادلات أكثر تعقيداً على المستوى الإقليمي. كيف يمكن أن تقبل السعودية وتركيا وايران بمعادلة كهذه؟ يسود اعتقاد أن الإتفاق النووي المرتقب بين الدول الكبرى والجمهورية الإسلامية سيكون له مفعول غير منظور حالياً، علماً أن موعد 30 حزيران الجاري لاتفاق كهذا “ليس مقدساً”.
أنهكت الحرب ثالثاً كل المشاركين فيها. مثل الوسطاء السابقين، أخفق دو ميستورا في محاولته الأولى تسويق عمليات “تجميد القتال” محلياً انطلاقاً من حلب. ها هو يبحث الآن عن الأيادي غير الملطخة بالدماء ضمن النظام. يأمل في معارضة موحدة تستبعد العناصر المتطرفة العنيفة.
الحرب في سوريا شقّت جروحاً غائرة. يمكن من يشاء من البعثيين والقوميين أن يتغنى بسوريا الكبرى وما “سلخ” منها. غير أن الواقع الجديد يرسم بالدماء حدوداً جديدة حتى ضمن سوريا الصغرى!
النهار
لا جحيم بعد بشار/ ساطع نور الدين
الندم الذي يشعر به البعض بين الحين والاخر على غياب صدام حسين عن العراق، لن يتكرر إثر رحيل بشار الاسد عن الحكم في سوريا.
فخيار جهنم الذي يجري التلويح بها الان، والذي كان منذ اللحظة الاولى للأزمة السورية أحد أشد اسلحة النظام السوري فتكاً، يمكن ان يكون خيالياً، على الاقل بالمقارنة مع الجحيم الراهن الذي يعيشه السوريون ومعهم شعوب ودول مجاورة لهم.
بجهد بسيط يمكن ان يتبدد ذلك الوهم ، وان تتجنب سوريا وشعبها البائس ذلك السيناريو العراقي الذي اعتمده الاميركيون في لحظة ثأر من هجمات 11 ايلول 2001 ، وادى الى انهيار الدولة وتفتيت المجتمع وتفجير الاحقاد التاريخية بين العراقيين على اختلاف هوياتهم القاتلة، وأغرقهم في بحور من الدماء لن تجف قبل عشرات السنين.
هذا الجهد يبذل الان واكثر من اي وقت مضى، في اكثر من عاصمة من عواصم النزاع السوري. وليس ثمة ما ينبىء بان يوم التغيير في دمشق سيكون يوم الآخرة، على ما تقول سردية النظام وروايته الثابتة. ولا علاقة للامر بان المجتهدين في البحث عن حل سوري استفادوا من الدرس العراقي المرير. النموذج السوري مختلف تماما، ولا يبدو ان ثمة اهتماماً من أحد ، بمن فيهم اشد فصائل المعارضة السورية تطرفاً، بهدم الدولة وتفكيك المؤسسات وشطب الجيش والامن من معادلة المستقبل..الاستثناء الوحيد هو داعش، الذي لا يمكن ان يحسب على المعارضة اصلا، وتنظيم النصرة الذي فاجأ العالم كله اخيرا عندما أعلن اندماجه التام بتنظيم القاعدة، وشرع في السير على خطاها .. حسبما برهن الاسبوع الماضي في مجزرة بلدة قلب لوز الدرزية.
طالت الازمة السورية خمس سنوات فقط لان أحدا لم يكن يريد تكرار التجربة العراقية، التي كان النصر فيها حليف تنظيم القاعدة ومتفرعاته وآخرها تنظيم داعش، التي تمكنت من طرد الغزاة الاميركيين من العراق بالكامل، والتي تتحداهم اليوم للعودة الى الاراضي العراقية لاكمال المنازلة المستمرة منذ نحو عقدين. وهو ما يجري بحثه اليوم في واشنطن بجدية، لاسيما بعد فرار 350 مستشاراً اميركياً من معركة الرمادي الاخيرة .
في سوريا ، المقدمات مختلفة وكذلك النتائج. المعركة بدأت من حيث انتهى العراق، سواء مع داعش الذي يتعرض لضربات متلاحقة من جميع القوى المتحاربة في سوريا، والذي لم تعد اختراقاته “الانغماسية” في بعض الجبهات قادرة على تغيير جدول أعمال الباحثين عن تسوية، برغم ان تلك الاختراقات هي التي حفزت الجميع على التخلي عن سياسة الاستنزاف المتبادل في سوريا.
ولعل أحد أهم المؤشرات ، هو ان النظام وحلفاءه الذين اصابهم التعب من الحرب وأكلافها البشرية والمالية الباهظة، يتوسلون التسوية الان، ويغيرون الانطباع الذي كان سائداً عن النظام الذي لن يسقط ابدأ ، واذا سقط فانه سيسقط واقفاً ، او عن ايران التي ستظل تمول وتقاتل حتى الرمق الاخير، او عن روسيا التي ستظل تستثمر في الحرب حتى النهاية . المؤشر الاهم هو ان ايا من هؤلاء الاطراف الثلاثة لا يطلب الشهادة ولا يريد الانتحار، ولا يريد ان يخرج مطرودا من دمشق.. بل يود ان يكون شريكا في تنظيم عملية التغيير، وفي الحؤول دون ان يدخل المعارضون الى العاصمة السورية دخول الفاتحين.
طلب التسوية يأتي الان من ذاك الجانب، وهو يشترط ان تكون دمشق هي العنوان المشترك للجميع وان يكون الساحل السوري منطقة محظورة على المعارضين كافة، وهو مطلب متحقق سلفاً وتعرفه جيداً جميع فصائل المعارضة، وتعرف الخطوط الحمراء المتفق عليها مع حلفائها في الخارج، وتدفع بها الى حدود التحذير من اسطورة تقسيم سوريا الرائجة هذه الايام.
الطلب يدرس بعناية، وهو يفتح نقاشاً حول هوية الشركاء المحتملين، السياسيين والعسكريين، من داخل النظام ومن صف المعارضة، وحول طبيعة المرحلة الانتقالية ومدتها.. وحول المفاجآت التي يمكن ان يثيرها الممانعون من الجانبين لاي مسعى من اجل اخراج سوريا من جحيمها الراهن، او لاي محاولة لتفادي الندم على تغيير بشار
المدن
يعرف الأسد أنه انتهى!/ راجح الخوري
يدرك بشار الأسد انه إنتهى بالنسبة الى سوريا التي نعرفها، وإنسحابات قواته دون قتال من تدمر الى تل أبيض بعد هزائمها في الجنوب والشمال، يعتبره الكثيرون مسارعة الى التحصّن في الدويلة العلوية، التي تبقى بالنسبة الى الإيرانيين جائزة ترضية بعد التكاليف الهائلة التي تكبدوها، خصوصاً انها تؤمّن خط الإتصال مع “حزب الله” عبر بعلبك والهرمل.
لا يحتاج هذا الكلام الى قرائن، يكفي ان نتذكّر كيف عومل كوفي أنان وكيف خُوِّن الأخضر الإبرهيمي قبل عامين، وكيف إستُقبل دو ميستورا قبل يومين في الأحضان، لكي نعرف الى أين وصل الخط الإنحداري عند الأسد، الذي بات مقتنعاً ان مصالح روسيا في سوريا يمكن أي نظام بديل ان يضمنها، وان اميركا لا تضع هامشاً يفصل بينه وبين “داعش” الذي ولِد نتيجة المذابح التي نفذها مصراً على الحل العسكري المستحيل!
في ٢٠ كانون الاول ٢٠١٢ هدد الأخضر الابرهيمي بالإستقالة، لأن الأسد نقعه اربعة ايام في دمشق قبل ان يقابله، بعد ذلك نقعه تسعة ايام منتظراً في القاهرة قبل ان يحدد له موعداً، قبله عُومل كوفي أنان ونقاطه الست كمسخرة ولم يكن في وسعه مفاتحة الأسد في موضوع تشكيل حكومة جديدة، وقبل الإبرهيمي وأنان اللذين إتهمهما الأسد بالإنحياز الى الإرهابيين تم تطفيش المراقبين الدوليين وقبلهم عُومل المراقبون العرب كمهرجين وأُطلقت النيران عليهم!
في السابع من هذا الشهر دعا دو ميستورا الأسد الى الرحيل عن السلطة وطالب اميركا بالضغط عسكرياً في هذا الإتجاه، ففي حديث الى صحيفة “ديلي بيست” طالب واشنطن بتجاوز مجلس الأمن والفيتو الروسي لتتدخل عسكرياً وتقتلع الأسد لفتح الطريق امام تسوية سياسية!
لو جاء دو ميستورا الى سوريا قبل عامين قائلاً هذا الكلام لكان أُرسِل الى “بيت خالته” في المزة، لكنه بعد تسعة ايام فقط من ذلك جلس في حضن الأسد لمدة ثلاث ساعات، ولم تتردد وكالة “سانا” في القول “ان أجواء اللقاء كانت إيجابية وان الأسد أبلغه ان مكافحة الإرهاب باتت أولوية وانه مستعد للتعاون للتوصل الى حل للأزمة المستمرة منذ ٢٠١١”.
عجيب وسبحان مغيّر الأحوال، يطالبه بالرحيل ولو بعمل عسكري اميركي فيستقبله بالأحضان، غريق يحتاج الى خشبة، لكن دو ميستورا الذي بحث طويلاً عن حصرم حلب إستأسد ليرد على مطالبة الأسد بمحاربة الأرهاب بالقول “ان محاربة الإرهاب تتطلب الاسراع في المسار السياسي الذي سيقود الى وضع أمني مختلف، وهذا يشكّل ايضاً أولوية بالنسبة إلينا والأمران يسيران بالتوازي”!
دو ميستورا تعمّد الإشادة بالمبادىء “التوجيهية “التي توصل اليها سلفاه المرموقان أنان والإبرهيمي، ولم يكن ينقصه سوى ان يقول للأسد : فاجأتك مووو؟!
النهار
سورية.. غياب الأسد وبقاء نظامه/ أسامة أبو ارشيد
هل يكون “الحل” للوضع المستعصي في سورية خروجا آمنا للرئيس بشار الأسد، مع بقاء جُلِّ نظامه، بما في ذلك شقيه، الأمني والعسكري، قائما؟ الجواب، ربما، حسب تقرير لصحيفة “الإندبندنت” البريطانية كتبه مراسلها، أوليفر رايت، من بافاريا الألمانية، أين انعقدت قبل أسبوعين، تقريبا، قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.
في تفاصيل التقرير المنشور، في الثامن من يونيو/حزيران الجاري، بعنوان: “قمة السبعة الكبار: الرئيس الأسد قد ينفى إلى روسيا والغرب يخطط للتصدي لداعش في سورية”، ناقش قادة الدول الكبرى، في قمتهم، حلا دبلوماسيا مقترحاً يقوم على إرغام الأسد على اللجوء إلى روسيا ضمن اتفاق غربي-روسي مشترك. وينقل التقرير عن مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من خلافاتهما العميقة بسبب الأزمة الأوكرانية، توصلا إلى استنتاج أن السبيل الوحيد للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، خصوصا في ظل الهزائم المتكررة للنظام السوري وانعدام كفاءة قوات “المعارضة المعتدلة” المدعومة من الغرب، يكون بالتوافق على تشكيل حكومة جديدة في دمشق، تكون مقبولة من الطرفين (أميركا وروسيا)، ويمكن دعمها عسكرياً لمجابهة “داعش”. وحسب التقرير، فإن الصفقة المحتملة، تقوم على إبقاء الجزء الأكبر من النظام القائم حاليا، ولكن، تحت قيادة جديدة. واستناداً إلى التقرير، كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد ناقش هذا المقترح مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو الشهر الماضي. وينقل التقرير عن مسؤولين في رئاسة الوزراء البريطانية، أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، ناقشا في اجتماعهما في قمة السبعة الكبار، فرص مثل هذا الحل، وبأن إمكانية حدوث “تغيير محدود في بنية النظام السوري” أكبر من أي وقت مضى.
ما سبق كان ملخص تقرير لم يكشف جديدا، اللهم إلا لناحية توثيق ما يحاك لسورية ومكانتها وشعبها.
منذ انطلاقة الثورة السورية مطلع عام 2011، بدا واضحاً أن أطرافا خارجية، عربية وأجنبية، متضادة، التقت على أمر واحد، هو إجهاض سورية الدولة والثقل. ففيها انقسمت الأجندات الإقليمية والدولية، وتعارضت، فكان أن أضعَفت وقوَّت النظام والثورة في آن، ووضعتهما في حالة أقرب إلى العجز عن الحسم، فلا النظام كان قادرا على سحق الثورة نهائيا، ولا الثورة كانت قادرة على اقتلاع النظام، وتحقيق نصر حاسم ونهائي عليه.
أكثر من سنين أربع، والثورة السورية تراوح مكانها، تتقدم خطوة وترجع أخرى، تأتيها وعود الدعم الإقليمية والدولية السخية، فتنتهي بـ”فأر” تمخض به جبل الوعود. وبسبب سياسة الخنق التي مورست على تسليح الجيش السوري الحر، وجدت نار التطرف يباساً تمسك به، لتزيد سورية حريقاً على حريق.
هل ذلك كله مصادفة؟ هل فعلا البيت الأبيض متردد في اتخاذ قرار دعم الثورة السورية، لقلقه من القوى الإسلامية “المتطرفة” على الأرض؟
الولايات المتحدة الأميركية التي فوجئت بسرعة انتقال شعلة الثورة من تونس، أواخر عام 2010، في هشيم الظلم والقمع العربي القائم، كانت في حالة من اللهاث وراء الأحداث وتسارعاتها. فمن تونس إلى مصر إلى ليبيا ثم اليمن.. كلها أحداث أربكت صانع القرار الأميركي، ودفعته إلى اتخاذ قرارات سريعة، وبدون روية وتفكير كافيين. ولكن، وفّرت سورية لها ولحلفائها من العرب المصرّين على بقاء أنظمة القمع البالية فرصة لالتقاط الأنفاس، والمسارعة إلى إعادة ترتيب أوراقهم، وكسر حدة رياح التغيير العاتية التي تهدد بكنس كل نظام متهالك قائم على الاستغلال والكبت والطغيان.
“يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية”
في سورية، تعارضت المصالح، والتقت في آن، ضمن توليفة غريبة. تعارضت في الموقف من النظام، فتداعت أنظمة “الاعتدال العربي” مع الولايات المتحدة، لإضعاف النظام السوري وحلفائه في إيران ولبنان، خصوصاً بعد أن ظفرت إيران بالعراق، بعد الغزو الأميركي له عام 2003، وإسقاط نظام صدام حسين. ورأت إسرائيل في إضعاف النظام السوري فرصة سانحة لها، لشرذمة “محور الممانعة” في المنطقة المتشكل سابقاً من سورية وإيران وحزب الله وحماس، فكان لها ما أرادت. كما ظفرت الولايات المتحدة بغنيمة أخرى، لا تقل كارثية على المنطقة وأبنائها ومصالحها لأجيال قادمة، وتمثل ذلك بإعادة ابتعاث “الصراع” السني-الشيعي الذي يهدد باستنزاف المنطقة إلى عقود مقبلة. ولعبت إيران المنتشية بوهم نصرها في العراق، ثمّ اليمن، دور المبضع الذي أعاد نكء جراحات الماضي، لكنها، في المحصلة، كانت تخدم مصالح أميركا وإسرائيل بذلك، من حيث أرادت أم لم ترد، لا يهم، فالنتيجة واحدة.
على الجانب الآخر من المعادلة، وقفت روسيا والصين وإيران وحزب الله وعراق نوري المالكي بقوة مع نظام الأسد، الأمر الذي مكّنه من البقاء. ولكن، حتى روسيا، المزود الأول للنظام بالسلاح النوعي تتحكم بصنبوره بشكل يضمن عدم اختلال معادلة الصراع كلياً لصالح النظام، دع عنك إسرائيل طبعا.
وهذا ما يعيدنا إلى موضوع التوليفات الغريبة في السياق السوري، بحيث يبقى الجميع في حالة استنزاف في أفق الوصول إلى صفقات وتسويات في المنطقة، ضمن مقاربة أميركا وبعض العرب لكسر عتوّ رياح التغيير وعدم وصولها إلى شواطئ أخرى. وهكذا، التقت مصالح الأنظمة القمعية القائمة مع حسابات الخارج، لإعادة لَجْمِ المنطقة وسحق مطالب أبنائها المشروعة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
اليوم، يترنح بشار الأسد في سورية، ويبدو أن صفحته شارفت على الانطواء، غير أن خصوم سورية، الدولة والمكانة والثقل، حريصون على إبقائها مجهضة، بإصرارهم على الإبقاء على نظامه مع بعض الرتوش التجميلية. هم لا يريدون خيرا بسورية، فليس فقط أن المجرم سينفذ بجرائمه، بل إن سورية التي نكبت ستبقى تئن تحت وطأة من نكبها. جرّب المصريون والتونسيون والليبيون واليمنيون منطق “عفا الله عما سلف” مع طغاتهم، فكانت النتيجة ما نرى اليوم. في سورية الأمر أعظم، فمجرموها لم يبقوا حجرا على حجر، ولم يتركوا عائلة أو فردا إلا وطاولهم إجرامهم.
سورية هي قلب المؤامرة على هذه الأمة، وما يحاك لها سيعيد تشكيل خرائط، وسيحدد مصائر في المنطقة. أليس في إسرائيل دعوات اليوم لقبول دولي بضمها هضبة الجولان المحتلة، بذريعة أن سورية “دولة فاشلة”؟ أليس في الأردن بعض من ينادي بتوسع المملكة شمالاً في سورية، وشرقاً في العراق؟ أليست إيران تعتبر عاصمة الأمويين، دمشق، فلكاً هامشياً في فضائها؟
سورية اليوم تستنزف وتحرق لإجهاض أمة بأسرها. سورية هي عقدة المنشار. تآمر عليها الأجنبي الاستعماري، والإيراني الطائفي وأشياعه، وبعض طغاة عرب، ونظام سلطوي مجرم، ومعارضة ضعيفة مهلهلة، متعددة الولاءات، و”دولة إسلامية” مشبوهة، يقوم عليها مختلون عقليا. سورية اليوم أحد عناوين محنتنا كأمة، أين نحن في وضع المفعول به، لا الفاعل، يقرر لنا غيرنا مصائرنا، وعلى حساب دمائنا، في حين ينوب طغاتنا في أخذ وكالة جزئية في تنفيذ مخطط تدميرنا جميعا.
العربي الجديد
ما هي الخطوة التالية لما بعد الأسد؟/ أسعد حيدر
ستافان دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة الذي وصل الى دمشق، هو غير دي ميستورا في الزيارات السابقة. لم يعد يتباحث مع المسؤولين السوريين وهو على يقين بأنهم لا يسمعونه، لأنهم متأكدون «من أن الرئيس بشار الأسد باق الى الأبد وأن الحل يكون به ومعه أو لا يكون». دي ميستورا أمسك بالتغيير الحاصل ميدانياً حيث الأسد لا يسيطر على أكثر من عشرين في المئة من الأراضي السورية وسياسياً حيث القوى المعنية بسوريا ومستقبلها أدركت مهما مانع البعض منها «أن الأسد أصبح خارج الحل»، لذلك قال «هناك حاجة ماسة الى تسوية سياسية شاملة تكون ملكاً لكل السوريين وتتمثل بقيادة سورية». «الرسالة» وصلت بأن «القيادة» تعني لا أسد.
السؤال سيشغل مسؤولي السبعة الكبار «ما هي الخطوة التالية لما بعد الأسد؟« خلال قمتهم لم تكن الإجابة جاهزة. لكنها أصبحت على طاولة البحث.
يجري التركيز الدولي وخصوصاً في واشنطن وموسكو، على صوغ اجابة عن سؤال آخر وربما أهم بالنسبة إليهما: «ماذا لو حصل انهيار مفاجئ للأسد ونظامه». موسكو معنية أكثر من واشنطن بالإجابة عن هذا السؤال، لأن «يديها في النار السورية». الخوف من اندفاع «داعش» الى قلب دمشق يُقلق موسكو وطهران والى حد ما واشنطن.
احتمال أن يندفع الأسد باتجاه إقامة «الولاية العلوية» لتضم العلويين الخائفين، والسنة الهاربين مقلق جداً. الحرب لن تنتهي، لأن «داعش» و»النصرة» لن تتوقفا وتكتفيا بما سيطرتا عليه. عامل الثأر والانتقام قوي جداً عند السُنة. القوى العظمى خصوصاً الروس والأميركيين سيكونون مدعومين للتدخل لحماية الأقليات.
أخطر ما في المواجهات المقبلة، أن تعمل «داعش» و»النصرة» لكسر «الولاية العلوية» في حمص والقصير ليكون ما سيحصل كارثة حقيقية للبنان و»حزب الله». برغم خطورة كل الاحتمالات، فإن موسكو «تتريث» وتفضّل» اتضاح أي تحرك» مع واشنطن. ما يساعدها في ذلك أنه «لا تناقضات عميقة بينهما حول الشرق الأوسط». واشنطن وموسكو مهتمتان بالصين والدول الآسيوية. الشرق الأوسط لم يعد يحتل المرتبة الأولى في الاهتمامات الاقتصادية.
يجب متابعة تركيا «السلطان اردوغان»، الذي تلقى «صفعة ديموقراطية» قوضت الكثير من أحلامه، وجسدت «الكابوس» الكردي القومي. لو كان أكراد أوجلان متفقين مع أكراد البرزاني في العراق، لاكتمل «المقص» الكردي، وعاشت تركيا مرحلة سايكس ـ بيكو التي لم تطلها في حين انها تهددها الآن بقوة واضحة.
تبقى إيران، العقدة الكبيرة. حتى الآن لا يمكن الحديث عن ماذا تريد إيران في سوريا ومن الأسد؟ يجب انتظار توقيع الاتفاقية النووية، إيران ما بعد الاتفاق ستكون إيران مختلفة. طموحات إيران لن تتغير. السؤال هل وكيف ومتى ستغير وسائلها؟ لا حل في سوريا، من دون إيران، يجب أن تقتنع طهران، أنه لا يمكنها الانتصار بالأسد، وأن سقوط الأسد لا يعني سقوطها. الإيراني قادر على التفاوض، فقد أثبت قدراته في المفاوضات النووية. يجب أن تعرف طهران أنها فتحت أبواب «جهنم« الصراع المذهبي الكامن منذ 1400 سنة، وأن عليها الاسراع في رأب الصدع.
الوقوف على خط الصدع البركاني مختلف جداً عن دفع الآخرين إليه!!
فالسُنة خصوصاً في سوريا هم «المجروحون» من التدخل الإيراني المباشر الذي بلغ قمته في تقديم الجنرال قاسم سليماني نفسه من سوريا وكأنه «صلاح الدين» الذي سيُعيد تحرير القدس بعد بغداد ودمشق.
السعودية حسمت قرارها.. بإسقاط الأسد/ ربيع حداد
تحسم المملكة العربية السعودية أمرها عملانياً لإسقاط النظام السوري، منذ تسلّم القيادة السعودية الجديدة لمقاليد الحكم. بدأ التغيير في الميدان السوري، وبعيد إطلاق “عاصفة الحزم” في اليمن، سرى الحديث عن اقتراب عاصفة حزم سورية. عملياً، هذه العاصفة بدأت في الشمال والجنوب، بأيدٍ سورية وبدعم من القوى المؤيدة للثورة. سارعت القيادة الجديدة الى ترتيب البيت الخليجي، فجرى تنسيق مع دولة قطر بشأن سوريا، وحصل تقارب بين الدولتين طال أيضاً تركيا، إذ بحثت سبل التنسيق بين الدول الثلاث لدعم المعارضة السورية.
لا تخفي مصادر بارزة لـ”المدن” تأخر المملكة في حسم أمرها العملي من أجل دعم ثوار سوريا، وتعزو ذلك إلى أسباب عديدة، أبرزها أنه أيام الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز كانت هناك أصوات داخل المملكة تعتبر أن الأسد أفضل من “داعش”. هذا الأمر كانت تعارضه توجهات أخرى، تقدم رؤيتها على أنه يتوجب قتال الأسد و”داعش” معاً لأنهما السبب والنتيجة لبروز هذا الكم من الإرهاب.
وتشير المصادر إلى أن هذه الأصوات خفتت اليوم، والجميع بات مقتنعاً ويعمل على اسقاط الاسد، ويعتبر أن الرأي السائد في المملكة هو ضرورة استنهاض الهمم العربية والعودة بقوة الى الساحة الدولية والعربية في مواجهة التمدد الإيراني، خصوصاً أن هذه المواجهة تأتي في سياق اكتساب مشروعية الحكم شعبياً كما سياسياً، وهذا يوجب على السعودية المضي قدماً بدعم الثوار لإسقاط ايران في سوريا، وأي تراجع عن هذا الخيار يعني فقدان تلك المشروعية.
من هنا، فلا وجود في المملكة لنظرية الأقليات، أو القبول بتحكيمها المطلق، أي أنه يستحيل على السعودية القبول ببقاء الأسد حاكماً على الأكثرية السورية. وإلى جانب التنسيق مع الدول المعنية في الأزمة السورية، سعت الرياض سابقاً إلى عقد مؤتمر يضم مختلف مكونات المعارضة، لكنه تأجل، إذ إنه كان بعهدة الوزير سعود الفيصل، واليوم من المفترض أن يحال الموضوع الى مهمات الوزير سعد الجبري، بناء على توصية وزير الخارجية عادل الجبير لانشغاله بالملف اليمني، وفق ما ترجح مصادر “المدن”.
وكما في السياسة كذلك في الميدان، عزمت السعودية على دعم الثوار في الشمال والجنوب، وهنا تشير مصادر “المدن” الى أنه حتى الآن لم يحصل أي اتفاق كامل بين تركيا والسعودية حول سوريا، لكن البوادر الإيجابية كبيرة جداً، وهذا ما أدى الى فتح مستودعات الأسلحة التي كانت مخزنة في تركيا وتم تسليمها الى قوات المعارضة والتي أنتجت الانتصارات الميدانية، وعليه فإن المصادر تؤكد أنه بعد حصول التوافق سيسجل المزيد من الانتصارات التي تعتبر أكثر استراتيجية من هذه.
وعلى خطّ البحث عن حلّ سياسي للأزمة السورية، والمهمة التي يقوم بها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، فقد برز تطوران لافتان على هذا الصعيد؛ الأول هو تصريح دي ميستورا المتقدم نوعاً ما لجهة إدانة النظام السوري حول إستخدام البراميل المتفجرة ضد المدنيين، وكلامه عن وجوب الضغط على الأسد عسكرياً للرحيل أو لإجباره على القبول بالحل السياسي، والتطور الثاني هو إقالة أحد مساعدي دي ميستورا، وهو المصري رمزي عبد العزيز رمزي، بعد جهوده الكبيرة وفق ما تشير مصادر “المدن” في محاولات تبييض وجه النظام السوري، وآخرها محاولته إتهام المعارضة السورية باستخدام البراميل في حلب، وعندها جوبه بردّ أن المعارضة لا تملك طائرات لترمي البراميل، فأجاب بأنه لا يمكن حسم إتهام الأسد في ذلك، وبالإمكان أن لا تكون براميل بل صواريخ تملكها المعارضة، وهنا صدر قرار بإقالة رمزي بضغط سعودي لاعتباره يسوّق للأسد.
المدن
الأسد.. رأس الهرم المقلوب/ مصطفى فحص
تواصل إيران معركة الدفاع المستميت عن الأسد، وتحشد إمكانياتها البشرية والمادية لما تعتبره مواجهة وجودية لها في سوريا، عنوانها بقاء بشار الأسد، ولو رمزيا، حاكما على ما تبقى من الدولة السورية. فهي على علم بأن توافقا إقليما ودوليا مستجدا، يضغط على واشنطن لوضع حد للمأساة السورية، يقضي بضرورة التخلص من الأسد، ويتزامن مع تكثيف عمليات التحالف الدولي على تنظيم داعش الإرهابي لوقف تقدمه في سوريا، للحؤول دون تحضره لملء الفراغ الذي ستخلفه انسحابات جيش النظام المفاجئة من أماكن مختلفة من سوريا.
وعلى الرغم من قناعة طهران، بأن الأسد أمام مرحلة صعبة من عمر نظامه، وأن بقاءه بات أمرا مستحيلا، ما زالت مصرة ليس فقط على بقاء النظام كما هو، ورفض المس بهيكليته العسكرية وأدواته الأمنية والسياسية، بل التمسك بشخص بشار الأسد، كرأس هرم للسلطة في سوريا.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية ضد حكم البعث، تكفل حلفاء البعث بمهمة الدفاع السياسي والعسكري عن النظام، فخاضت موسكو مواجهة دبلوماسية دولية لحمايته في مجلس الأمن، وأمدته بالسلاح الضروري. بينما قامت طهران بالتغطية المادية الكاملة لمجهوده الحربي، وحماية اقتصاده من التهاوي، موكلة جزءا كبيرا من هذه المهمة لحزب الله، الذي يخوض منذ أربع سنوات، ليس فقط حربا عسكرية مفتوحة على الشعب السوري، بل دفاع ضروس عن النظام البعثي، باعتباره ركنا أسياسيا في منظومة محور الممانعة، إضافة إلى تكريس آلته الإعلامية والسياسية والثقافية، لإبراز شخصية الأسد وتقديمها للجمهور كرمز قومي وقائد أساسي في هذا المحور، بحيث لا يمكن الاستغناء عنه، أو السماح برحيله أو تغييره، ليتجلى حجم تضخيم صورة للأسد، بما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أحد لقاءاته التلفزيونية بأن «الله منا علينا ببشار الأسد».
في المقابل، تميزت موسكو عن طهران في كيفية استخدام أدواتها في معركة الدفاع عن مصالحها في سوريا، وهي منذ اليوم الأول لم تعلن تمسكها النهائي بالأسد أو بالمنظومة المرتبطة فيه، بل طالبت بالحفاظ على مؤسسات الدولة السورية وأجهزتها قبل أي تغيير في النظام، بحجة الخوف من انهيار شامل، كما في التجربتين العراقية والليبية. من هذا المنطلق يسهل على موسكو طرح مسألة مستقبل النظام والأسد، على طاولة المفاوضات في لحظة تسوية جدية. فهي تملك أدواتها في مجلس الأمن، التي تمكنها من لعب دور يناسب حجمها ويحمي مصالحها، كذلك حفاظها على شعرة معاوية مع الدول الإقليمية الأساسية، الداعمة للمعارضة السورية.
لم يعد سهلا على إيران التخلي عن الأسد، وفي الوقت نفسه لم يعد يمكنها الدفاع عنه حتى النهاية، كما من الصعب عليها أن تجد من يقبل بعقد صفقة معها في الربع الساعة الأخيرة من عمر النظام، فهي ليست لاعبا وحيدا يملك الحق الحصري في التفاوض على مصير الأسد، فلموسكو كلمتها أيضا، التي تتقاطع مع مصالح تل أبيب أكثر من تقاطعها مع مصالح طهران، فالتباين بين موسكو وطهران حول الحل في سوريا ومصير الأسد، سيزداد كلما زاد الخناق
على النظام، وكلما تقلصت المسافة بين مسلحي المعارضة وقصر المهاجرين.
كما لم يعد قرار المقايضة في سوريا حكرا على واشنطن وحدها، وكذلك إعطاء ضمانات لطهران على طاولة المفاوضات النووية بشأن سوريا، ففي المعادلة السورية هناك لاعبون كثر تجمعهم قناعة مشتركة بأن حقبة كاملة في سوريا شارفت على نهايتها، لن يبقى منها إلا ما يساعد على إعادة الاستقرار ولم الشمل السوري، حيث يصعب إيجاد مكان للأسد في هذه المعادلة، لا في دمشق ولا في أي مدينة على الساحل السوري.
في اللغة اليومية للمدافعين عن النظام البعثي، يحظى الأسد بمقام لا يمكن المساس به، يجب التضحية بكل شيء من أجل بقائه، وفي السياسة، فإن الذين استبسلوا في الدفاع عنه، إنما فعلوا ذلك لعلمهم أنه يمثل رأس الهرم في منظومة أمنية وعسكرية مترابطة ومرتبطة ببعضها بعضا، لا يصح فكفكتها، وأن بقاءه على رأسها أبعد شبح تشظيها وتمزقها، ووجوده هو سبب صمودها حتى الساعة. لكن المعضلة التي يواجهونها بعد التطورات الأخيرة، تتمثل في انقلاب الهرم رأسا على عقب، حيث أخطأوا في تقديرهم في أن تماسك جسد المنظومة مشروط ببقاء رأسها، لذلك فإن هوى ستهوي معه.
الشرق الأوسط
روح جنيف وتقسيم سوريا!/ راجح الخوري
يقول تقرير ديبلوماسي غربي وصل الى بيروت نهاية الأسبوع ان ستيفان دو ميستورا الذي يزور دمشق قرر تزخيم تحركاته، انطلاقاً من أجواء تتحدث عن تراجع الخلاف بين واشنطن وموسكو حول الأزمة السورية، التي بدأت تشهد تبدلاً متصاعداً في موازين القوى منذ ثلاثة اشهر حيث يبدو للكثيرين ان النظام بات يواجه نهايته المحتومة.
لا يمكن الحديث عن تفاهم اميركي – روسي في شأن “اليوم التالي في سوريا”، ولكن من الواضح ان هناك تقارباً بين الجانبين على ثلاثة أمور:
1- الفراغ بعد إنهيار النظام يجب ان لا يكون في مصلحة “داعش” اي بديلاً يُفترض ان يشنّ حرباً لا هوادة فيها على الإرهابيين.
2- المرحلة الإنتقالية يجب ألا تضمّ الذين تلطّخت ايديهم بالدماء، ولكن من الضروري احتواء مؤسسات في الدولة تساعد في عملية الإنتقال، وليس مفيداً الإنطلاق من “الدولة الصفر”، كما حصل في العراق عام 2003.
3- لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا، وروسيا تتكفل تأمين لجوء آمن له ولبطانته بعيداً من المساءلة امام محكمة العدل الدولية [يقول التقرير إن موسكو قايضت نهاية الاسد بضمان مستقبل مصالحها في سوريا]!
دو ميستورا يتحرك في اتجاهات كثيرة في محاولة لإحياء روح بيان “جنيف – 1” الذي كان سيرغي لافروف قد أحبطه بإصراره على إسقاط النص الذي كان يدعو الى إنهاء ولاية الرئيس الاسد، وهو ما عطّل الحل ودمّر سوريا وأدى الى ظهور “داعش” و”النصرة”.
إحياء روح بيان “جنيف – 1″؟
اذاً كان من حق الشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء وزير خارجية قطر ان يهزّ رأسه أسفاً على كل المآسي التي دمرت سوريا منذ ذلك اليوم، فمساء الأحد 30 حزيران من عام 2012، خرج غاضباً ومقطباً بعدما إنخرط في جدل طويل مع لافروف على خلفية ضرورة حسم نقطة مصير الاسد في بيان جنيف كشرط لإنجاح الحل، لكن روسيا كانت تراهن على الحل العسكري تماماً مثل الاسد والايرانيين.
الآن يبحث دو ميستورا عن روح بيان مؤتمر جنيف الذي نصح به بن جاسم وقاتل من أجله، والذي دمره لافروف بما جعل سوريا مقبرة العصر، ولهذا من حق بن جاسم ان يأسف ويتألم وان يقول لمحطة “فوكس نيوز” قبل ايام: “لو وجدت القضية السورية حلاً في جنيف لما وجد داعش… وان هناك ترتيبات بين التنظيم الإرهابي والأسد لإظهار ان البديل منه هو الإرهاب ولخلق وضع جديد في البلاد”!
طبعاً ليس خافياً ان الوضع الجديد يرسم الآن حدود التقسيم على الخريطة السورية!
النهار
الأسئلة القلقة حول مصير الأقليات.. في مرحلة ما بعد الأسد
بيروت: منى علمي
مع توسّع سيطرة المعارضة السورية على معظم مناطق محافظة إدلب بما فيها مدينة جسر الشغور ومدينة أريحا، ثم الاعتداء الذي ارتكبه مسلحو «جبهة النصرة» بقرية درزية في ريف المحافظة، وكذلك بعد إنجازات المعارضة في حوران (بجنوب سوريا)، دبّ الخوف في قلوب أهل اللاذقية، وهم بأغلبيتهم من الطائفة العلوية التي يتحدر منها رئيس النظام السوري بشار الأسد، متخوّفين من ردة فعل عنيفة ودموية من مقاتلي فصائل المعارضة جراء حملات القمع التي نفذها النظام، سواء ضد المقاتلين أو المدنيين على حد سواء. إلا أنه وإن كان من أي فرصة لبقاء سوريا على قيد الحياة كدولة موحدة، فلا بد من إعطاء ضمانات للعلويين وكذلك للأقليات الأخرى لتسهيل التوصل إلى حل سياسي، احتمالٌ يصبح يومًا بعد يوم بعيد المنال.
في مقابلة نشرت على موقع «سيريا ديبلي» Syria Deeply، اعترف أمجد، وهو من اللاذقية، بأن سكان المدينة الساحلية يشعرون بالخوف من النجاحات التي يحققها «جيش الفتح» في المحافظات الشمالية من سوريا.
ومع تحول الحرب إلى صراع طائفي بين النظام المدعوم من العلويين والميليشيات الشيعية الأجنبية من جهة، وبين مقاتلي المعارضة، وجلهم من السنة، من جهة أخرى، زادت أعداد القتلى من المدنيين من كلا الطرفين وسط انتشار عمليات الاغتصاب والنهب وقطع الرؤوس والحرق.
أضف إلى ذلك أن الفظائع التي ارتكبها نظام الرئيس السوري بشار الأسد بدّدت أي أمل في تحقيق انتقال سلمي للسلطة. وفي هذا الشأن يشير آرون لوند، رئيس تحرير «سوريا في الأزمة»، وهو موقع تابع لمؤسسة كارنيغي للأبحاث، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى «أن المشاعر المعادية للعلويين التي تسيطر على معظم المقاتلين تنبع من وحشية الحرب والتفجيرات المستمرة وقصف المدن السنّية من قوات بشار الأسد. يجب ألا ننسى أن معظم القتلى واللاجئين في سوريا هم في الواقع من المناطق السنّية، وبالطبع هذا يؤدي إلى رد فعل شعبي وشعور بالكراهية ودعوات إلى الانتقام (ضد العلويين) – هذا أمر يحدث في كل حرب، للأسف. لكن، على عكس المقاتلين العاديين، فإن الإسلاميين داخل صفوف الثوار لديهم أهداف أخرى تحرّكها دوافع دينية بحتة». وبالتالي، يعتقد الخبير أن عددا من الأصوليين الذين يهيمنون على «جيش الفتح»، «يبدون عازمين على تدمير العلويين لأسباب دينية».
كذلك تصر جماعات متشدّدة مثل «جبهة النصرة»، على أنه يجب على العلويين التخلي عن اعتقاداتهم الدينية لكي يتلقوا المعاملة التي يحظى بها باقي المواطنين العاديين. وحقًا، صرح أبو محمد الجولاني، قائد «جبهة النصرة»، في مقابلة تلفزيونية بثت أخيرًا على قناة «الجزيرة» الإخبارية بـ«أن العلويين كانوا جزءا من الطائفة التي تحرّكت خارج دين الله والإسلام». كما دعا عبد الله المحيسني، المقرب من «جبهة النصرة» ومن «القاعدة» والذي كان جزءا من الهيئة الشرعية في جيش الفاتح، لإبادة العلويين، وفق لوند.
من ناحية ثانية، يعبِّر البروفسور الأميركي جوشوا لانديس، الخبير بالشؤون السورية والمتزوج من سيدة سورية علوية، أيضا عن الخطر الذي يهدد العلويين خلال حديث أدلى به إلى «الشرق الأوسط»، معتبرا أن الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي الذين تخلوا عن سوريا لن يستطيعوا حماية العلويين، «فكل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يهتم في المقام الأول باحتواء العنف في سوريا»، متوقّعا ثلاثة سيناريوهات محتملة لإنهاء الأزمة.
يتمثل الخيار الأول في تشكيل دولة يقودها السنّة من شأنها أن تتسلم الحكم بعد سقوط بشار الأسد، بقيادة «الإسلاميين»، وهنا لن يترك أي مجال للعلويين والمسيحيين والأقلية الدرزية. وفي حال عدم إدراج الأقليات أو ضمان مشاركتهم بصورة فاعلة، فإن مثل هذه الدولة لا شك ستقوم برد فعل على الفظائع التي ارتكبها الأسد وتوجه انتقامها نحو الطائفة العلوية التي تعتبر عنصرا أساسيا في المذابح التي ارتكبها النظام. وستحرص هذه التركيبة الجديدة على تطهير الإدارات والجهاز الأمني من الموالين للأسد السابقين، ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من أعمال الاضطهاد وتفكيك مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الأسد، مع تكرار سوريا أخطاء عراق ما بعد صدام وما بعد القذافي في ليبيا.
احتمال آخر، وفق لانديس، يقوم على ضمان بقاء الدولة السورية وحماية الأقليات فيها كالعلويين، عبر التوصل إلى اتفاق، على غرار «اتفاق الطائف» اللبناني الذي يقسم السلطة ويوزعها بين الطوائف، غير أن هكذا خيار لا يمكن أن يتبلور إلا برعاية قوى إقليمية. وبالطبع، يحتاج هذا الخيار أولا إلى تدمير «داعش»، وثانيا إلى أن تسير «جبهة النصرة» مع التيار السائد، وهو أمر يصعب تحقيقه، بحسب لوند، الذي يرى «أن (النصرة) تحاول التقرّب ممن تبقى من المتمردين لتجنب العزلة، وهي تنأى بنفسها عن الممارسات المتطرفة التي ينفذها (داعش). ولكن هذا لا يعني أبدا أن قيادة (النصرة) تخلت عن آيديولوجيتها التي تدعو إلى إخضاع الأقليات، ومنع النشاط الديمقراطي ومهاجمة الدول العربية، كما الغربية. وبطبيعة الحال، فإن الكثير من المقاتلين لن تجذبهم هذه الأهداف الجديدة، وقد يتخلون عن الجماعة إذا سارت في هذا الاتجاه». أما للتوصل إلى اتفاق سياسي على غرار «اتفاق الطائف»، فعلى المجتمع الدولي التحرك والقيام بما يتعدى الدعوات إلى المصالحة وإشراك الأقليات السورية. فالأقليات، وبخاصة العلويون، يحتاجون إلى ضمانات أمنية وإذا لزم الأمر، إلى قوة دولية لحفظ السلام، ما سيصعب على المجتمع الدولي تأمينه.
أضف إلى ذلك أن المعارضة السورية بحاجة إلى التوصل إلى تفاهم وإعادة هيكلة تدريجية وأكثر واقعية لمؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية، لتجنّب تجربة العراق، حيث أدى إبعاد حزب البعث إلى انهيار الأمن. ويرى لانديس، هنا، أن هذه الإمكانية تبقى أيضا بعيدة المنال، شارحًا أنه لاستمرار الدولة السورية ككل يجب أن تكون هناك «قوة احتلال» مثل ما حدث في العراق (مع الاحتلال الأميركي) أو في لبنان (مع الاحتلال السوري)».
والاحتمال الأخير الذي يرى لانديس أنه على الأرجح سيجري اعتماده يقوم على إنشاء «تجمّع علوي». وعلى الرغم من أن هذا السيناريو قد يكون الخيار الأفضل للطائفة العلوية، فإنه خيار كارثي إذا ما أخذنا في الاعتبار بقاء الدولة السورية على المدى البعيد، «فهذا يعني انسحاب النظام إلى المناطق الساحلية التي يسيطر عليها العلويون مع إبقاء السيطرة على العاصمة دمشق»، وفق لانديس. ويتابع الخبير الأميركي فيقول: «إن إيران تحبذ هذه الاستراتيجية بما أنها تريد أن تحافظ على ما تعتبره (مناطق سورية حيوية) تشمل المدن الساحلية والمدن الكبرى على غرار دمشق». وفي هذا السياق أوردت صحيفة «الديلي ستار»، اللبنانية الصادرة باللغة الإنجليزية، أن إيران أرسلت 15 ألف مقاتل إلى سوريا محاولة التعويض عن الخسائر الأخيرة التي لحقت بقوات النظام، وهي تسعى إلى رؤية نتائج ملموسة لدعمها هذا بحلول نهاية الشهر، وفق ما كشف للصحيفة مصدر سياسي لبناني. وحسب المصدر فإن الميليشيات التي تتألف من الإيرانيين والعراقيين والأفغان وصلت إلى منطقة دمشق وإلى محافظة اللاذقية الساحلية.. كما أن الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، كان في اللاذقية هذا الأسبوع لدعم الاستعدادات للحملة الجديدة، وفق المصدر نفسه. مع ذلك، فإن محاولة تأمين «دولة علوية» ستؤدي لا محالة إلى تهجير قسري وحتى تطهير عرقي. ومحاولات الانفصال العلوية لضمان بقائها، ستؤدي إلى نوع جديد من الحرب العرقية مشابهة لـ«حرب البوسنة» الطائفية، حرب يبدو أنها قد بدأت بالفعل مع المزيد من القصف بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية التي أطلقها الأسد ضد المدنيين في المناطق المتنازع عليها.
أخيرًا، ومن أجل بقاء الدولة ككل، على المعارضة السورية أن توضح كيف تعتزم حماية العلويين والأقليات الأخرى بعد سقوط بشار الأسد من أجل بناء دولة مستقبلية من شأنها أن تشمل جميع الجماعات الدينية في سوريا. ولكن في خضم المعارك الضارية الحالية على الأرض، لأسباب معروفة جيدا، يبدو أن هذه المهمة ستكون صعبة جدًا على المعارضة السورية المتشرذمة أصلا، وصعبة أكثر على المجتمع الإقليمي الذي يشهد على نحو متزايد استقطابا على أسس دينية.
الشرق الأوسط
سوريا الآتية/ محمد ابرهيم
يصعب اعتبار ان تراجع النظام السوري، كما يتهمه بعض خصومه، هو مناورة لتعميق الصراع المسلح بين اطراف المعارضة، خصوصا “داعش”، وباقي المكونات بما فيها “النصرة”.
كما يصعب اعتبار ان النكسات” التي أصيب بها النظام، شمالا ووسطا وجنوبا، هي بمثابة اعلان الانهيار النهائي للنظام وتبدد قدرته القتالية.
اما الاكيد فهو ان طموح النظام لاستعادة سوريا قد انتهى وان افضل التقديرات بالنسبة اليه هو الصمود في معركة الخط الممتد من دمشق الى الساحل السوري.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار المعركة التي يخوضها “حزب الله” في منطقة الحدود اللبنانية – السورية جزءا من المعركة الدفاعية المنتظرة والتي تتولى ايران الحشد لها في “العالم الشيعي”.
المعطيات الميدانية الجديدة، والاختبارات المنتظرة لقدرة ما تبقى من النظام على الصمود في معاقله الاخيرة، تعيد طرح المسألة السورية في ضوء جديد. فمع انتهاء صيغة “سوريا الاسد”، ينفتح ملف الصيغة القادرة على
جمع المكونات السورية المذهبية – الدينية – القومية. وتصبح معركة المناطق الباقية تحت سيطرة النظام هي حصرا معركة الاقليات الساعية اولا الى ضمان وجودها، وتاليا موقعها في اي صيغة سورية تولد في ظل الرعاية الدولية – الاقليمية.
واذا كان من المشكوك به ان تكون عزيمة الاقليات على القتال مرتبطة حصرا بمصير الأسد، خصوصا انها تتمتع بعمق “لبناني”، وتستطيع ان تستبدل التواصل البري، في اطار “الهلال الشيعي” القديم، بتواصل بحري اساسه الاسطول الروسي في المتوسط، فانه من المشكوك فيه ان تكون قوى “المعارضة” الاساسية منفلتة العقال من الضبط الاقليمي – الدولي بما يجعل سوريا تحت تهديد مذبحة للأقليات.
كانت لافتة الانعطافة في موقف المبعوث الدولي
ستيفان دوميستورا، من اعتبار الاسد جزءا من الحل قبل أشهر الى اعتبار ازاحته مدخلا الى الحل. وهذا يعطي المساعي الناشطة للعودة الى “جنيف 3” بعدا جديدا. فهي ستكون اختبارا جديدا لمدى نضج موقف الاقليات، وعلى رأسها العلوية، لمقايضة رئاسة الدولة بالمشاركة في مستقبلها.
هذا الاختبار سيكون على الارجح تحت وطأة ضغوط عسكرية كبيرة على المعقل الاخير للنظام، قبل الانتقال الى فتح جدي، دولي واقليمي، لملف المعارضة التي لا يمكن، بتركيبتها الراهنة، ان تشكل جزءا من سوريا الآتية.
النهار
لماذا لا ينهون جحيم سورية!/ مطاع صفدي
من جديد ينبغي تكرار هذه المعلومة الأولى القائلة أن لا نهاية لفظائع «الربيع» المنكوب في مختلف جبهاته المستمرة إلا بإطفاء البركان السوري. هذا لا يعني أن سوريا، دولتها، أو بعض منظماته هي الفاعلة في كوارث الجحيم العربي الراهن. بل لأن لهذا الجحيم ثمة مركزية ما مستوطنة في هذا البلد. فما دامت كل فظائع المهالك غير المسبوقة في تاريخ الشر المحض قد ارتكبت نماذجها ما بين جحامل الهمجيات الفالتة في هذا البلد، فأمثالها وأشباهها تنتشر وتتجاوز كل حدود في أقاليم المنطقة كلها.
يدرك هذه الحقيقة السيد أوباما الذي أحبط كل حل عسكري، ثم سياسي، كان ممكناً لإغلاق الاتون السوري. فهو لا يفتأ يكرر عدم امتلاكه لاستراتيجية تقضي على داعش. لا يريد لها أن تزول كما لا يريد لسوريا أن تستعيد سلامها.. ذلك أن أبواب الجحيم لم تفتح جميعها بعد. فلا تزال هناك مهمات كبرى أخرى بانتظار أن تصلها الشرارات المتفجرة.
في خزائن عشرات من مراكز الأبحاث الأمريكية مصنّفاتٌ مكدّسة من سيناريوهات التغيير لكليانات العالم العربي. إنها مكتبة الامبريالية العالمية، متخمةً بمشاريع الانقلابات البنيوية لمختلف أقطار العرب، وفي مقدمتها تبرز الدول النفطية. هنالك شبه إجماع (عقائدي) يتبناه أهم كتاب هذه السيناريوهات. وينطلق من اعتبار أن دول النفط ليست كيانات سياسية. وما يحكمها ليس سوى إدارات صدفوية وموقتة. فهي فاقدة ركائزها البنيوية. وقد قامت على عجل ما بعد نمط العيش الصحراوي من دون التمكن الواقعي من إنشاء مؤسسات دولة مدنية لمجتمع يريد أن يصبح متمدناً حقاً.
مئات من صنوف الدراسات المستقبلية المؤلَّفة والموضوعة من قبل «خبراء» الاستراتيجيات الدولية المكرَّسة لاستكمال هيمنة الامبريالية العظمى، بانتظار حكم العالم دفعة واحدة. والكثير من هذه الوثائق تنصب على نوعية مستقبل العرب والإسلام، من خلال الأديان والعقائد والمنظمات وأشكال الحكومات التي ستضبط شعوب وأمم هذا النمط الخاص من البشر.
مراكز الأبحاث المتناثرة ما بين الجامعات الأمريكية والدوائر الدبلوماسية والمعاهد الخاصة، أعمالها شبه علنية، ومحصولها «العلمي» متوفر لطلابه في مراكزه المعروفة. وإذا كان المحور العربي والإسلامي يشغل حيزاً رئيسياً في معظمها، فذلك أمر طبيعي نظراً لبالغ الأهمية التي توليها أمريكا الدولة لقضايا الشرق العربي ومؤسساته الدولتية والمجتمعية.. فالمتابعة المعرفية والمعلوماتية الدقيقة لمختلف أحداثه ووقائع حياته اليومية جماعياً وفئوياً وحتى فردياً، هي التي توفر المواد الأولية لبناء خطط التعامل. وإنجاز القرارات التي تعتمدها دوائر الدولة ذات العلاقات الخارجية بعالم ما وراء المحيطات. إذ أن ثقافة الهيمنة الأمبريالية اعتمدت دائماً على عناصرها الثلاثة: وهي العقل والمال والجغرافية السياسية والاقتصادية. وهي العناصر المؤسسة لمختلف عوامل التقدم أو التخلف في العصر الراهن. وإن فهمها يتطلب ملاحقة شمولية لتطوراتها واكتشاف علاقاتها المضطردة فيما بينها. فالسياسة المعرفية هي أهم ما تميزت به ثقافة الهيمنة العصرية. وقد يفسر ذلك نجاحاتها الكبرى، بالأخص منذ الحرب العالمية الثانية. لكن سجل الانتصارات محفوف كذلك بسجل آخر مكتوم في معظمه، ويخص خانة الانهزام وفواجعه المسكوت عنها. غير أن مراكز الأبحاث التي لا تُقرّ بأية هزيمة نهائية إلا أنها لا تعفّ عن درس وقائع الفشل. فما بين مناورات التعليل والتسويغ قد تبرز مكامن الأخطاء وتنكشف الأسباب والنتائج. وحــين تتعلم الهيمنةُ من بعض أخطائها فإنها تضاعف من عنفها. وتحسّن من خططها وأدواتها، تجنباً لمواجهة ما لا يمكن إصلاحه في المستقبل.
نقول هذا ونحن نعتقد أن قضايانا العربية كانت الفريسةَ المفضلة لمغامرات الهيمنة الأمبريالية. بل يمكن الجزم أن ما من قضية مصيرية إلا و تكون فيها الهيمنة هي الخصم الأقوى والأفعل، وبما يتجاوز القوى المحلية المضادة؛ أي أن العوامل الخارجية ، والمصطلح على تسميتها بالدولية من استعمار واستغلال وسواهما، قد تكون غالباً هي صاحبة مخططاته وهي راعية تنفيذها، وهي المستفيدة الأولى من وقائعها ونتائجها.
نقول هذا لا لنثبت ما هو شائع ومعروف عن تسلط الهيمنة الأمبريالية على معظم الحدث العربي والإقليمي. بل لكي نقول بالفم الملآن. ودون الخشية من تهمة الانصياع لأسطرة «المؤامرة» أن الربيع العربي الذي يفخر بعض ثوارنا أنه كان مفاجأة للأجنبي وليس الوطني وحده، فهو جاء مفاجأةً لأصحاب الهيمنة أنفسهم، إذ رأوا فيه فرصة سعيدة نادرة لفتح كل أبواب المنطقة أمام كل متدخل. فمن يمكنه اليوم أن يمارس أية تمييزات قاطعة ما بين عوامل الداخل وعوامل الخارج في سوريا والعراق أولاً، وفي الأقطار الأخرى.
علينا الاعتراف أن ربيعنا العربي متساقط بين أحابيل كل الشبهات التي يمكنها أن تقلب أغلب راياته البيضاء إلى الأعلام السوداء الداكنة. أعظم التحديات الحقيقية لرصيده الثوري هو الفوز بنظام سلمي حقيقي لثورة واحدة ناجحة نسبياً. مثل هذا التحدي (الخارق؟) تعمل على تأجيله كل يوم نكسةٌ تليها نكسة أخرى في هذا القطر أو ذاك.
يتفق مراقبون غربيون كثيرون أن نكبة المشرق لم تعد من قضايا الثورة والتحرر، باتت كرة نارية طائشة توزع جحافلها الحمراء وتقذفها إلى كل مكان، وتنتج كل شياطين العنف لما قبل التاريخي. هنالك نوع من الطيش الجحيمي تغذيه أدنى الغرائز الحيوانية المعجونة بأحقاد غيبية دهرية..
ثقافة الهيمنة لم تعد في حاجة إلى «المؤامرات». أمسى ضحايا المؤامرة هم أبطال مخططيها ومنفذيها. لقد انتهى عصر الأحزاب وشعاراتها وطقوسها. فالبراكين الصاخبة تفجرها صخورها النارية عينها. هي التي تتولى الإعلان عن ثوراتها، وهي التي تخمدها وتبدّد نيرانها. والجميع يترقب البراكين الأخرى القادمة. لا أحد يتصور سيناريو مسبقاً سلفاً لإنهاء جحيم واحد ما.
لماذا لا يريد أوباما إغلاق المجزرة السورية، لأن عصر الأرض العربية المحروقة (كلياً) لم تكتمل مراحله بعد.
فما زالت هناك براكين أخرى كثيرة يمكن وصفها أنها لم تزل عذراء لم تخترقها فوهات الجحيم من صميم صخرها شبه المستكين، حتى اللحظة. ذلك أن ســــوريا دأبت أن تقدم أمثلة الفظائع جميعها في أفجع رموزها المطلقة، كل انفجار (ثوروي) في قطر آخر يصـــير أشبه بحاصل تحصيل عادي. لا بد إذن من استمرارية المختبر القياسي الأعلى حتى تبدو لواحق الثوريات الآتية غداً أشبه بنتائج تطبيقات فرعية عن نماذجها الكبرى في بلادنا الشامية الجميلة..
٭ مفكر عربي مقيم في باريس
القدس العربي